دوافع الشرک فی العبادة [427-441]

SiteTitle

صفحه کاربران ویژه - خروج
ورود کاربران ورود کاربران

LoginToSite

SecurityWord:

Username:

Password:

LoginComment LoginComment2 LoginComment3 .
SortBy
 
مفاهیم القرآن
2 هل العبادة هی مطلق الخضوع أو التکریم؟ [442-454]الفصل التاسع [425-426]
الأمر الذی کان یؤلِّف أساس دعوة الأنبیاء فی جمیع عهود الرسالة السماویة هو: دعوة البشر إلى عبادة اللّه الواحد، والاجتناب عن عبادة غیره.
فالتوحید فی العبادة وتحطیم أغلال الشرک والوثنیة کان من أهم التعالیم السماویة التی تحتل مکان الصدارة فی رسالات الأنبیاء ـ علیهم السَّلام ـ حتى کأنّ الأنبیاء والرسل لم یبعثوا ـ أجمع ـ إلاّ لهدف واحد، هو تثبیت دعائم التوحید ومحاربة الشرک.
لقد ذکر القرآن هذه الحقیقة ـ بجلاء ـ إذ قال:
(وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِی کُلِّ أُمّة رَسُولاً أَنْ اعْبُدُوا اللّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ).(1)
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِکَ مِنْ رَسُول إِلاَّ نُوحِیَ إِلَیْهِ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ).(2)
ثم فی موضع آخر یصف القرآن الکریم التوحید فی العبادة بأنّه الأصل
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . النحل: 36.
2 . الأنبیاء: 25.
_____________________________________ [الصفحة 428] _____________________________________
المشترک بین جمیع الشرائع السماویّة، إذ یقول:
(قُلْ یَا أَهْلَ الْکِتَابِ تََعَالَوْا إِلَى کَلِمَة سَوَاء بَیْنَنَا وَبَیْنَکُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلا نُشْرِکَ بِهِ شَیْئاً).(1)
وإذا أردت أن تعرف کیف بیّن القرآن الکریم الشرک فی العبادة، أو جمیع أقسامه، وصور المشرک فی فقده ما یعتمد علیه فی حیاته فتدبّر فی الآیة التالیة، إذ یقول تعالى:
(وَمَنْ یُشْـرِکْ بِاللّهِ فَکَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّیْـرُ أَوْ تَهْوِی بِهِ الرِّیحُ فِی مَکَان سَحِیق).(2)
ولا یستطیع أیُّ تشبیه على ترسیم بطلان الشرک وضیاع المشرک وخیبته وحیرته بأوضح ممّا رسمته هذه الآیة الکریمة.
منشأ الشرک والوثنیة
من العسیر جداً إبداء الرأی فی جذور الوثنیة ومنشأ هذا الانحراف العقیدی ونموّه بین البشر، خاصّة أنّ موضوع الوثنیة لم یکن عند قوم أو قومین، ولا فی شکل أو شکلین، ولا فی منطقة أو منطقتین، لیتیسّر للباحث إبداء نظر قطعی فیه وفی نشوئه.
فالوثنیة عند العرب الجاهلیین مثلاً تختلف عمّا علیها عند البراهمة، وهی عند البوذیین تختلف عمّـا هی علیها عند
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . آل عمران: 64.
2 . الحج: 31.
_____________________________________ [الصفحة 429] _____________________________________
الهندوس ،فاعتقادات هذه الملل والشعوب مختلفة فی موضوع الشرک، بحیث یعسر تصوّر قدر مشترک بینها.(1)
أمّا العرب البائدة مثل عاد وثمود: أُمم هود وصالح، ومثل سکنة مدین وسبأ: أُمم شعیب وسلیمان، فکانوا بین وثنیین وعبدة الشمس.(2) وقد ذکرت عقائدهم وطریقة تفکیرهم فی القرآن الکریم .
وقد کان عرب الجاهلیة من أولاد إسماعیل موحدین ردحاً من الزمن، یتَّبعون تعالیم النبی إبراهیم وولده إسماعیل علیمها السَّلام ولکن ـ على مرّ الزمان وعلى أثر الارتباط بالشعوب والأُمم الوثنیة ـ حلّت الوثنیة محل التوحید فی المجتمع العربی الجاهلی تدریجاً .(3)
هذا حال الأُمّة العربیة العائشة فی تلکم النواحی، وأمّا الأُمّة العائشة فی مکة وضواحیها المقاربة لعصر الرسولصلَّى اللّه علیه و آله و سلَّم فقد نقل المؤرخون أنّ أوّل من أدخل الوثنیة فی مکة ونواحیها وروّجها فیها هو : عمرو بن لحی.
فقد رأى فی سفره إلى البلقاء من أراضی الشام أُناساً یعبدون الأوثان، وعند ما سألهم عمّا یفعلون قائلاً:
ـ ما هذه الأصنام التی أراکم تعبدونها؟
قالوا: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا !
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . شرحت دوائر المعارف، وبخاصة دائرة معارف البستانی معتقدات هذه الشعوب الآسیویة التی تعیش فی رقعة کبیرة فی آسیا.
2 . قال سبحانه : (وَجَدْتَهَا وَقَوْمَهَا یَسْجُدُونَ لِلْشَمْسِ مِنْ دُونِ اللّهِ) (النمل: 24).
3 . وهذا یعطی أنّ الوثنیة یمتد جذورها فی المجتمع العربی الجاهلی إلى زمن بعید وإن کان دخولها إلیمکة وضواحیها لیس بذاک البعد حسب ما ینقله ابن هشام وغیره من أهل السیر والتاریخ.
_____________________________________ [الصفحة 430] _____________________________________
فقال لهم: أفلا تعطوننی منها فأسیر به إلى أرض العرب فیعبدوه؟
وهکذا استحسن طریقتهم واستصحب معه إلى مکة صنماً کبیراً باسم هبل ووضعه على سطح الکعبة المشرفة، ودعا الناس إلى عبادتها.(1)
هکذا تسرّبت الوثنیة إلى الحجاز وظهرت عند الأقوام والقبائل العربیة المختلفة: الأصنام والآلهة المدعاة التی کانوا یعبدونها.
یرى بعض الباحثین أنّ الوثنیة نشأت من تعظیم الشخصیات وتکریمهم، فعندما کان یموت أحد الشخصیات کانوا ینحتون له تمثالاً لإحیاء ذکراه وتخلید مثاله فی أفئدتهم، ولکن مع مرور الزمن وتعاقب الأجیال کانت تتحول هذه التماثیل ـ عند تلک الأقوام ـ إلى معبودات، وإن لم تقترن ساعة صنعها بمثل هذا الاعتقاد .(2)
وأحیاناً کان رئیس عائلة یحظى باحترام وتعظیم کبیرین ـ فی حیاته ـ حتى إذا مات نحتوا له تمثالاً على صورته وعکفوا على عبادته.
وفی الیونان والروم القدیمتین کان ربُّ العائلة ورئیسها یعبد من قبل أهله، فإذا توفّی عبدوا تمثاله.
وتوجد الیوم فی متاحف العالم أصنام وتماثیل لرجال الدین وللشخصیات البارزة الذین کانوا ـ ذات یوم ـ أو کانت أصنامهم تعبد کما یعبد الإله.
ومن محاورة النبی إبراهیم ـ علیه السَّلام ـ مع کبیر قومه : نمرود یستفاد ـ بوضوح ـ أنّ نمرود کان موضع العبادة من جانب قومه.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . سیرة ابن هشام: 1/79.
2 . هذا الرأی غیر ثابت عند کاتب هذه السطور، ثم لیس من المعلوم هل کان عملهم ذاک مجرد تعظیم أو عبادة.
_____________________________________ [الصفحة 431] _____________________________________
کما یتبین بأنّ فرعون زمان موسى ـ علیه السَّلام ـ رغم أنّه کان بنفسه معبوداً عند قومه کان یعبد أصناماً، خاصة، لعلها کانت أشکالاً لشخصیات سابقة من أسلاف فرعون، حیث یخبرنا القرآن الکریم قائلاً:
(وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِیُفْسِدُوا فِی الأرْضِ وَیَذَرَکَ وَآلِهَتَکَ).(1)
خلاصة النظر: أنّ هذه الأصنام والتماثیل کانت تنحت وتصنع بادئ الأمر لتخلید ذکرى رجال دین وزعماء وشخصیات کبار، ولکن مع مرور الزمن وانقراض أجیال وحلول أجیال أُخرى مکانها کان هذا الهدف ینحرف عن مجراه الأصلی، وتتحول تلک التماثیل إلى معبودات، وتلک الأصنام إلى آلهة مزعومة.
التوحید فی العبادة
والمقصود بهذا التوحید هو: أن نفرد خالق الکون بالعبادة، ونجتنب عن عبادة غیره ممّا یکون مخلوقاً له تعالى، وهذا فی مقابل الشرک فی العبادة الذی یعنی أن یعبد الإنسان رغم اعتقاده بوحدانیة خالق هذا الکون ـ مخلوقاً، أو مخلوقات، لسبب من الأسباب.
وهذا هو ما تسمّیه الوهابیة بالتوحید فی الإلوهیة کما تسمّی التوحید الذاتی بالتوحید فی الربوبیة، وکلا الاصطلاحین خطأ لما عرفت من معنى الإلوهیة حیث قلنا: بأنّ معناها لیس المعبودیة، بل (الإله، واللّه) متساویان من حیث المبدأ والمفهوم، غیر أنّ الأوّل کلّی، والثانی علم لواحد من مصادیق ذاک الکلّی. وأمّا الربوبیة فهی بمعنى التدبیر والتصرّف فی الکون،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الأعراف: 127.
_____________________________________ [الصفحة 432] _____________________________________
لا الخالقیة وان کان التدبیر من حیث الأدلة الفلسفیة لا ینفک عن الخالقیة کما تقدّم تفصیله فی التوحید فی الربوبیة.(1)
والأولى بل المتعیّن أن نعبّر عن التوحید الذاتی بالتوحید فی الإلوهیة، وأنّه لیس هناک إله إلاّ اللّه، لا أنّ هناک إلهاً أعلى وهو اللّه سبحانه ، و آلهة صغاراً یملکون بعض شؤونه سبحانه ، من الشفاعة والمغفرة وغیرهما مما هو من أفعإله سبحانه کما کان علیه العرب الجاهلیون.
کما أنّ المتعیّن أن نعبّر عن التوحید فی الخلق بالتوحید فی الخالقیة لا التوحید فی الربوبیة ، لما عرفنا من أنّ الرب لیس بمعنى الخالق وإن کان لا ینفک عنه فی الصعید الخارجی حسب البرهان العقلی.
کما أنّ المتعیّن أن نعبّر عن التوحید فی العبادة بهذا اللفظ نفسه لا بالتوحید الالوهی، لما عرفت من أنّ الإله لیس بمعنى المعبود.
والحاصل: أنّه لیس المطروح فی هذه المرحلة من الشرک هو: تعدد الآلهة ولاالاعتقاد بأنّ للکون أجمع خالقاً غیراللّه الواحد الذی خلق الکون بما فیه من الآلهة المزعومة، ولکن مع هذا الاعتراف ربّما تترک عبادة الإله الواحد، ویعبد غیره.
وتختلف دوافع عبادة المخلوق أو المخلوقات عند الأُمم والشعوب، فربما کانت علة بسیطة، وأحیاناً کان یتخذ الدافع صبغة فلسفیة، وفیما یلی نستعرض أهم دوافع الشرک.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الفصل الثامن.
_____________________________________ [الصفحة 433] _____________________________________
دوافع الشرک فی العبادة
نشیر ـ من بین الدوافع الکثیرة ـ إلى ثلاثة دوافع:
1. الاعتقاد بتعدّد الخالق
کان الوثنیون ومن شاکلهم من القائلین بالتثلیث، بحکم اعتقادهم بالثنویة والتثلیث، مضطرین إلى عبادة أکثر من اله.
ففی البوذیة تجلّى الإله الأزلی الأبدی فی ثلاثة آلهة، أو ثلاثة مظاهر بالأسماء التالیة:
1. براهما: أی الإله الموجد.
2. فیشنو : أی الإله الحافظ المبقی.
3. سیفا أی الإله المفنی.
وفی النصرانیة ظهر بالأسماء التالیة:
1. الأب.
2. الابن.
3. روح القدس.
وفی الدین الزرادشتی اعتقد إلى جانب اهورا مزدا بإلهین آخرین هما:
1. یزدان.
2. اهریمن.(1)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . وعلى هذا التفسیر یصیر المجوس من الثنویة بلحاظ، ومن أهل التثلیث بلحاظ آخر فتدبر .
_____________________________________ [الصفحة 434] _____________________________________
وإن کانت عقیدة الزرادشتیین ـ الواقعیة ـ فی شأن هذین الإلهین الأخیرین تکتنفها هالة من الإبهام والغموض.
وعلى کل حال فإنّ الاعتقاد الذهنی بتعدد الذات الإلهیة کان أحد الدوافع وراء عبادة غیر اللّه، والسبب للشرک فی العبادة، وقد أبطل القرآن الکریم بالبراهین العدیدة الواضحة أساس مثل هذا الاعتقاد، وقد تقدّم البحث فی تلک البراهین عند البحث عن التوحید فی الربوبیة والتدبیر .
2. تصوّر ابتعاد الخالق عن المخلوق
وقد کان الدافع الثانی لعبادة غیر اللّه هو تصوّر ابتعاد اللّه عن المخلوق، بمعنى أنّهم کانوا یظنون أنّ اللّه بعید عن المخلوقین لا یسمعهم ولا تبلغه أدعیتهم وطلباتهم، ولذلک اختاروا وسائل ظنوا أنّها تتکفّل إیصال أدعیتهم إلیه، وکأنّ المقام الربوبی کالمقامات البشریة لا یمکن الوصول إلیها إلاّ عن طریق الوسائط، ومن أجل هذا راحوا یعبدون القدّیسین والملائکة والجن والأرواح لتوصل دعواتهم إلى المقام الربوبی!.
ولقد أبطل القرآن الکریم هذه التصوّرات ببیانات متنوعة ومتعددة یقول فیها:
بأنّ اللّه أقرب من کل قریب.
وانّه تعالى یسمع سرهم ونجواهم وعلانیتهم.
وانّه تعالى محیط بما یضمرون ویعلنون.
ولذلک فلا حاجة إلى اتخاذ تلک الآلهة المصطنعة، ولا حاجة إلى عبادتها، إذ
_____________________________________ [الصفحة 435] _____________________________________
لو کان الهدف من عبادتها هو توسطهم لإیصال مطالبهم إلى اللّه، فاللّه یعلم بها جمیعاً، وهو الذی لا یعزب عنه شیء:
وجاء کل هذا فی الآیات التالیة:
(وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَیْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِیدِ).(1)
(أَلَیْسَ اللّهُ بِکَاف عَبْدَهُ).(2).(3)
(ادْعُونِی أَسْتَجِبْ لَکُمْ).(4).(5)
(قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِی صُدُورِکُمْ أَوْ تُبْدُوهُ یَعْلَمْهُ اللّهُ).(6)
(مَا یَکُونُ مِنْ نَجوَى ثَلاَثَة إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَة إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ).(7)
وبهذه الآیات وغیرها یبطل القرآن الکریم هذا الدافع للوثنیة والشرک.
3. تفویض التدبیر إلى صغار الآلهة
یجد کل إنسان فی قرارة نفسه الخضوع للقدرة العلیا، ویستصغر نفسه فی قبالها، ومثل هذا الإحساس الفطری وإن لم یظهر على اللسان والجوارح الأُخرى لکنّه یکمن فی قرارة الضمیر فی صورة نوع من الإحساس بالخضوع، هذا من
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . ق: 16.
2 . الزمر: 36.
3 . نعم لیست صراحة الآیتین فی ما نرتئیه، مثل الآیة المتقدمة فلاحظ.
4 . غافر: 60 .
5 . نعم لیست صراحة الآیتین فی ما نرتئیه، مثل الآیة المتقدمة فلاحظ.
6 . آل عمران: 29.
7 . المجادلة: 7.
_____________________________________ [الصفحة 436] _____________________________________
جانب، ومن جانب آخر اعتاد على التعامل مع الموجودات المحسوسة فیرید صبَّ کلِّ أمر فی قالب المحسوس.
وعلى هذا الأساس یرید المشرک أن یصبَّ القوى الغیبیة فی صورة الأجسام المشاهدة، والأشکال المنظورة، أضف إلى ذلک أنّه لقصور فکره، أو لتصوّر أنّ کل حادثة فی هذا الکون أُنیطت إلى قوّة قاهرة هی أیضاً مخلوقة للّه کإله البحر، وإله الحرب، وإله السلام، وکأنّ حکومة الکون مثل حکومات الأرض یفوض فیها کل جانب من جوانب الحیاة إلى واحد، وتکون هذه القدرة مختارة فیما ترید، وفعالة لما تشاء!!
من أجل هذا عبد سکنة شواطئ البحار إله البحر، لکی یجود علیهم بنعم البحر ویدفع عنهم آفاته وغوائله، کالطوفان; فیما عبد سکنة الأراضی والصحارى إله البر، لیفیض علیهم بمنافعها، ویدفع عنهم مضارها، کالزلزال وما شابه ذلک من آفات الأرض، وغوائل الصحراء.
ولکن حیث إنّهم ما کانوا متمکنین من رؤیة هذه الآلهة التی توهموها واخترعوها، فافترضوا لها صوراً خیالیة، وأشکالاً وهمیة، ونحتوا على غرارها تماثیل وأصناماً، وراحوا یعبدون هذه الأصنام المصنوعة بدلاً عن عبادة القوى الغیبیة نفسها التی تمثلها هذه الأصنام ـ کما فی زعمهم ـ .
لهذا السبب کان بین عرب الجاهلیة فریق یعبد الملائکة، وفریق آخر یعبد الجن، وثالث یعبد الکواکب الثابتة کالشعرى، ورابع یعبد الکواکب السیارة، وکان الهدف من عبادتها ـ جمیعاً ـ هو جلب خیرها ونفعها، واجتناب ضررها وشرورها.
ولقد کانوا یتمتعون ـ فی صنع التماثیل والأصنام ـ بسعة نظر خاصة،
_____________________________________ [الصفحة 437] _____________________________________
فهم لم یلزموا أنفسهم بأن یصنعوا ما ینطبق على الصور الواقعیة لتلک الأشیاء ولذلک کانوا یصنعون لکل واحد من الآلهة الموهومة أصناماً لا تشبه صورها الواقعیة أبداً کإله الحرب، وإله السلام، وإله الحب، ولکن فی کل هذه الموارد کان الدافع الوحید هو صب الأُمور الغیبیة فی قالب المحسوسات، وحیث إنّ هذه الأرباب والآلهة (الصغار) لم تکن بذاتها فی متناول الإحساس، وکان للکواکب طلوع وأُفول، وکان التوجه إلیها لا یخلو ـ لذلک ـ من مشقة فتوجهوا صوب تماثیلها،
وصاروا إلى عبادتها.
ولقد انتقد القرآن وندّد بشدَّة بفکرة تفویض القدرة وأمر تدبیر الکون إلى الآلهة الصغار المدعاة المخلوقة للّه، ووصف اللّه
ـ فی مواضع عدیدة ـ بأنّه المدبّر الوحید لأُمور الکون حیث یقول:
(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرشِ یُدَبِّرُ الأمْرَ )(1).(2)
لقد جعل القرآن الکریم ـ فی آیات کثیرة ـ الخلق الأحیاء والإماتة وتسییر الکواکب والأفلاک وتنظیم الشمس والقمر والأرزاق، أفعالاً مختصة باللّه تعالى(3) وندّد بعنف وشدة بکلّ فکرة تقتضی بإشراک أیّة قدرة مع اللّه، وکلِّ فکرة تقول بتفویض تدبیر الأُمور الکونیة إلى مخلوقاته.
إنّ الآیات القرآنیة الواردة فی هذا الشأن من الکثرة بحیث یعسر نقل
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . یونس: 3.
2 . راجع الرعد: 2 والسجدة: 5.
3 . اختصاص هذا النوع من الأُمور باللّه لا یمنع من توسیط الأسباب التی تعمل هی أیضاً بأمر اللّه ومشیئته ویکون قدرتها فی طول القدرة الإلهیة، وواضح أنّ الإتیان بتلک الأُمور عن طریق الأسباب لا یعنی تفویض أمر الکون إلیها، وقد وافاک حق القول فی هذا الأمر، عند البحث عن التوحید فی الربوبیة والتدبیر فلاحظ.
_____________________________________ [الصفحة 438] _____________________________________
عشرها هنا، ولکن للاطّلاع نذکر ونورد بعض هذه الآیات :
(إِنَّ رَبَّکُمْ اللّهُ الَّذِی خَلَقَ السَّمواتِ وَالأرْضَ فِی سِتَّةِ أَیَّام ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ یُغْشِی اللَّیْلَ النَّهَارَ یَطْلُبُهُ حَثِیثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَات بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَکَ اللّهُ رَبُّ العَالَمِینَ).(1)
(قُلْ مَنْ یَرْزُقُکُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ أَمَّنْ یَمْلِکُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَمَنْ یُخْرِجُ الْحَیَّ مِنَ الْمَیّتِ وَیُخْرِجُ الْمَیِّتَ مِنَ الْحَیّ وَمَنْ یُدَبِّرُ الامْرَ فَسَیَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * فَذَلِکُمْ اللّهُ رَبُّکُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ).(2)
***
إلى هنا بیّنا ثلاثة دوافع للإشراک باللّه فی العبادة ولن ندّعی ـ مطلقاً ـ بأن لا یکون ثمة دافع آخر للشرک غیر ما ذکرناه، ولکن الدوافع التی ینتقدها القرآن الکریم تکون أساس نشوء الشرک وانتشاره فی العالم.
إنّ المسلم المعتقد بإله الکون، الإله الواحد، الإله الحاضر فی کل مکان، القریب إلى عباده، الإله الذی بیده الخلق المدبّر للکون بنفسه الذی لم یعط أمره ولم یفوضه إلى أحد.
إنّ المسلم مع هذا الاعتقاد، لا یمکن أن یتخذ معبوداً سوى اللّه، بل لا تکفی عبادته وحده، إنّما یجب علیه أن یحارب عقائد الشرک والوثنیة، وأن لا یرضى بتجاوز أحد عن دائرة التوحید لحظة واحدة.
***
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الأعراف: 54.
2 . یونس: 31 ـ 32.
_____________________________________ [الصفحة 439] _____________________________________
وحول الدافع الثالث نذکّر بنکتة مهمة وهی: أنّه قد یمکن أن یعتقد أحد بأنّ أمر الکون کلّه للّه، ولم یسلّم هذا النوع من الأُمور إلى غیره، ولکن یعتقد بأنّ الأُمور المعنویة التی ترتبط بأعمال العباد کالشفاعة والمغفرة مما تکون من الأُمور المختصة باللّه فإنّه یمکن أن یعطیها اللّه للأفراد، وهذا هو أحد دوافع عبادة غیر اللّه، ولقد جعل القرآن الکریم : الشفاعة ـ بصراحة تامة ـ محض حق للّه فلا یمکن لأحد أن یشفع بدون إذنه، إذ یقول:
(قُلْ للّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِیعاً).(1)
کما جعل الغفران والمغفرة لذنوب عباده حقاً مختصاً به سبحانه لا یشارکه فیه أحد غیره، ومن زعم أنّ المغفرة بید غیره سبحانه فقد أشرک، قال تعالى:
(فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ یَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ).(2)
ولقد کان فریق من وثنیی عصر الرسالة یعبدون الأصنام التی کانوا یتصوّرون أنَّها من ذوی النفوذ عند اللّه، وأنّها أُنیطت إلیها أُمور الشفاعة والمغفرة.
وسوف نتحدث فی البحوث القادمة حول هذا النوع من الشرک الذی هو أضعف أنواعه، وإذا تبیّنت هذه الدوافع واتضحت لنا کیفیة انتقاد القرآن الکریم لها یلزم أن نلتفت إلى ما یذکره أغلب کتّاب الوهابیین ومؤلّفیهم فی کتبهم.
لم یزل مؤلفو الوهابیة یعترفون بنوعین من التوحید، ویسمّون النوع الأوّل من التوحید بـ التوحید الربوبی ویسمون النوع الآخر بـ التوحید الالوهی ثم یذکرون انّ التوحید الربوبی، والاعتقاد بوحدانیة الخالق لا یکفی بمجرده فی
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الزمر: 44.
2 . آل عمران: 135.
_____________________________________ [الصفحة 440] _____________________________________
التوحید الذی بعث الأنبیاء والرسول الأعظم خاصة من أجل إقراره ونشره فی المجتمع الإنسانی، بل یجب ـ علاوة على التوحید الربوبی ـ أن یفرد اللّه بالعبادة ولا یشرک به أحد، لأنّ مشرکی العرب مع أنّهم کانوا یوحدون خالق الکون ویعتقدون بأنّه واحد لا أکثر، فإنّ القرآن کان یعتبرهم مشرکین، إذ یقول:
(وَمَا یُؤْمِنُ أَکْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْـرِکُونَ)(1).(2)
ولا کلام فی هذا المطلب، ولیس من المسلمین أحد یتحلّى بالواقعیة ینکر عدم کفایة التوحید الربوبی وحده، بل للتوحید ـ کما أسلفنا ـ مراحل أربع وإن اقتصر الوهابیون على مرحلتین منها ونسوا أو تناسوا المرحلتین الأُخریین.
غیر أنّ الجدیر بالذکر هو: انّه لا یختلف أحد مع هؤلاء فی هذه المسألة الکلیة، فالجمیع متفقون على وجوب الاجتناب عن عبادة غیر اللّه، ولکن المهم هو أنّ الوهابیین یتصورن أنّ تعظیم الأنبیاء، وأولیاء اللّه ـ مثلاً ـ عبادة، فی حین أنّ بین التعظیم والعبادة ـ فی نظر الآخرین ـ بوناً شاسعاً وفرقاً کبیراً .
وبعبارة أُخرى: لیس بین المسلمین خلاف فی هذا الأصل الکلی، وهو عدم جواز عبادة غیر اللّه أبداً، وإنّما الخلاف هو فی نظر الفرقة الوهابیة إلى بعض الأعمال ـ کالزیارة مثلاً ـ حیث اعتبرتها عبادة، فی حین لا تکون هذه الأعمال عبادة فی نظر الآخرین.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . یوسف: 106.
2 . فتح المجید تألیف الشیخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب (المتوفّى عام 1285هـ) ص 12 و 20 ، وهذا الأمر یدرّس الآن فی المناهج الدراسیة عندهم، ویؤکدون على هذین النوعین من التوحید ثم یتهمون المسلمین بأنّهم موحدون ربوبیاً لا الوهیاً. وقد عرفت فی ما مضى أنّ تسمیة التوحید فی الخالقیة بالتوحید الربوبی، وتسمیة التوحید فی العبادة بالتوحید الالوهی خطأ من حیث اللغة ومصطلح القرآن فلاحظ الصفحة 431.
_____________________________________ [الصفحة 441] _____________________________________
وبصیغة علمیة لابد أن نقول: لیس الخلاف فی الکلی وإنّما الخلاف هو فی تعیین المصداق.
ولأجل حل هذه المشکلة لابد ـ أوّلاً ـ من التعرّف على المفهوم الواقعی للعبادة لنمیّز فی ضوء ذلک: العبادة عن غیرها.
وهکذا أیضاً یمکن الوقوف على حقیقة الحال فی غیر موضوع الزیارة من الأُمور التی یعدها الوهابیون من العبادة کالتوسّل بأولیاء اللّه، وطلب الحاجة منهم، فی حین یخالفهم المسلمون فی ذلک، فیجوّزون هذه التوسّلات، ویعتبرونها نوعاً من الأخذ والتمسک بالأسباب، الذی ورد فی الشرع الشریف.
_____________________________________ [الصفحة 442] _____________________________________
2 هل العبادة هی مطلق الخضوع أو التکریم؟ [442-454]الفصل التاسع [425-426]
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma