تنبیه إلى عدة نقاط [50-67]

SiteTitle

صفحه کاربران ویژه - خروج
ورود کاربران ورود کاربران

LoginToSite

SecurityWord:

Username:

Password:

LoginComment LoginComment2 LoginComment3 .
SortBy
 
مفاهیم القرآن
الشعور الدینی الفطری فی الأحادیث [67-73]تجلّـی الفطرة عند الشدائد [44-49]
لقد قادنا التحقیق السابق إلى فطریة مبانی الدین وأُسسه وأُصوله، ویتعین علینا الآن أن ننبه القارئ الکریم بعدة نقاط نراها ضروریة فی المقام:
الأُولى: الفرق بین التوحید الفطری و التوحید الاستدلالی
یمکن البحث والتحدث حول معرفة اللّه والتوصل إلیها عن طریقین هما:
1. طریق الفطرة.
2. طریق الاستدلال.
والمراد من طریق الفطرة هو أنّ کل إنسان یشعر فی قرارة ضمیره، ومن تلقاء نفسه بانجذابه نحو اللّه، ومیله العفوی الفطری إلیه دون أن یکون فی ذلک متأثراً ببرهان، أو خاضعاً لدلیل، أو نابعاً من تعلیم معلم، أو دعوة أحد، أو ما شابه ذلک من المؤثرات الخارجیة.
والمقصود بالطریق الثانی أی التوحید الاستدلالی، هو أن یجد المرء طریقه إلى معرفة اللّه عبر الاستدلال وإقامة البراهین العقلیة والفلسفیة فلا یکون دلیله فی هذا السبیل، إلاّ تلک البراهین لیس إلاّ .
وقد یحدث خلط والتباس بین هذین الطریقین وهذین النوعین من التوحید لذلک لا بد من التلمیح إلى ما یساعدنا على التمییز بین الفطری و غیر الفطری من الأُمور . وهذا هو ما نبینه فی النقطة الثانیة التالیة:
_____________________________________ [الصفحة 51] _____________________________________
الثانیة: کیف نمیّز العمل الفطری عن غیر الفطری ؟
یصدر من الإنسان فی حیاته نوعان من الأفعال:
1. الأفعال الفطریة.
2. الأفعال العادیة.
و الأفعال الفطریة هی تلک الأفعال التی تنبع من جبلة الإنسان وفطرته وغریزته کالتنفس، والدفاع عن النفس عند مواجهة الخطر .
وهذه الأعمال لا تختلف عما تفعله الحیوانات من أعاجیب الأفعال بحکم الغریزة وتحت هدایة الفطرة وتأثیر الجبلة ودون أن تخضع فی شیء من ذلک لأی عامل خارجی عن وجودها.
و الأفعال العادیة هی التی لایکون لها أیة جذور غریزیة باطنیة بل یقوم بها الإنسان تحت تأثیر العوامل الخارجیة عن ذاته.
ولمزید من التوضیح نمثل للأفعال الفطریة بالأمثلة التالیة:
1. الغریزة الجنسیة ومیل کل جنس إلى مخالفه من الأُمور الفطریة التی تتجلّـى لدى کل فرد من أبناء البشر فی سنین متفاوتة.
فکل أبناء البشر ـ بلا استثناء ـ یمیلون فی هذه الفترة من العمر إلى الزواج واللقاء الجنسی دون أن یدعوهم إلى ذلک داع أو مبلّغ ودون أن یسوقهم إلى ذلک مرشد أو معلّم.
2. المیل إلى الجاه والمکانة الاجتماعیة هو الآخر من الأُمور الفطریة التی تنبع من أعماق الباطن البشری، وحنایا النفس الإنسانیة.
_____________________________________ [الصفحة 52] _____________________________________
فالحکم على الناس والحصول على المناصب لیس شیئاً لا یریده أحد أویحتاج إلى تعلیم معلّم.
3. حب المال واکتناز الثروة وجمعها من الأُمور الفطریة کذلک.
ألا ترى کیف لا یشبع الإنسان من جمع المال، ولا یمل من تکدیس الثروة وکأنّ جبلته عجنت بطلب الدنیا وحبها.
هذه هی بعض النماذج من الأفعال الفطریة، وهی کما نرى لا تخضع لأی تغییر وتبدّل، کما لا تخضع لأی عامل خارج الذات.
ویقابل ذلک مجموعة من الأفعال العادیة التی تخضع لحالة التغیّـر والتبدّل باستمرار.
فإذا کانت الحاجة إلى اللباس فطریة فإنّ کیفیة اللباس الذی یلبسه الإنسان لیست فطریة، ولأجل هذا نرى التفاوت الکبیر فی کیفیة الثیاب والألبسة والأزیاء واختلافها من شعب إلى شعب ومن أُمّة إلى أُخرى.
والیوم حیث یتزاید تقارب الشعوب بفضل المواصلات وأجهزة الإعلام بحیث یکاد یصبح العالم عائلة واحدة نجد أنّ مواصفات الأزیاء وطُرُز الألبسة تتعرض للتغیر والتبدل فی کل عام فی أغلب نقاط عالمنا، فتذهب طُرُز وتحل محلها طُرُز أُخرى جدیدة بینما تبقى الحاجة إلى اللباس ثابتة لا تتغیر .
وعلى غرار الأزیاء تخضع أسالیب تجمیل النساء وطرق الزینة، وهکذا زخارف المنازل والمحلات والمخازن، للتغیّـر والتبدّل کل عام وینتخب کل شعب لنفسه زیاً من الأزیاء وطرازاً من الطُرُز، وشکلاً من الأشکال.
مع ملاحظة الأمثلة التی ذکرناها للنوعین یمکن تمییز الأمر الفطری عن
_____________________________________ [الصفحة 53] _____________________________________
الأمر غیر الفطری بمعونة العلامات التالیة:
1. حیث إنّ الأُمور الفطریة ذات جذور غریزیة باطنیة، لذلک فهی تتصف بالشمولیة والعمومیة، فلیس هناک أحد من أبناء البشر یفقدها ویخلو منها.
2. الأُمور الفطریة تتحقق بوحی الفطرة وهدایتها، ولا تحتاج إلى تعلیم معلّم.
3. کل فکرة أو عمل تکون له جذور فطریة لا تخضع لتأثیر العوامل السیاسیة والاقتصادیة والجغرافیة، بل هی تعمل وتتحقق بعیداً عن نطاق هذه العوامل وتأثیرها.
4. الدعایات المکثفة والمستمرة ضد الأُمور الفطریة یمکن أن تضعفهاوتحد من نموها ولکن لا تتمکن ـ أبداً ـ من استئصالها والقضاء علیها بالمرة.
هکذا تکون الأُمور الفطریة بینما تکون الأُمور العادیة ـ على العکس ـ .
فهی محلیة.
وهی تتأثر بالعوامل والمؤثرات المحیطیة والبیئیة.
وهی تخضع لتعلیم معلم.
وأخیراً هی مما تتمکن الدعایات المضادة من استئصالها بالمرة.
والآن علینا أن نرى ما إذا کانت غریزة التدیّن تتصف بالصفات والعلامات الأربع التی ذکرناها أو لا ؟
_____________________________________ [الصفحة 54] _____________________________________
1. البحث عن اللّه ظاهرة عالمیة
لقد کشف التحقیق الکلّی الذی قمنا به فی مطلع هذا الفصل کشف النقاب عن عالمیة هذا الإحساس، ونعنی حس البحث عن اللّه والانجذاب إلى ما وراء المادة المیتافیزیقیا.
ونضیف هنا أنّ علماء التنقیب والآثار عثروا ویعثرون باستمرار ـ وخلال حفریاتهم ـ على معابد وهیاکل للعبادة وأصنام تصور معبودات جمیلة کان یتخذها البشر القدامى وتقدّسها الأجیال الغابرة البائدة، وتعود إلى أقدم العصور.
فها هو فرید وجدی یکتب فی دائرة معارفه:
إنّ نتیجة التنقیبات فی باطن الأرض تفید أنّ الوثنیة کانت من أظهر وأبرز الإدراکات البشریة، وکأنّ الاعتقاد بالمبدأ نشأ مع ظهور البشر جنباً إلى جنب.(1)
ویکتب جان دایورث الأُستاذ بجامعة کولومبیا حول الدین وأصالته فی المجتمع البشری(2):
إنّک لن تجد أیة ثقافة لدى أیة أُمَّة من الأُمم وقوم من الأقوام إلاّ ویکون فی تلک الثقافة شکل من أشکال التدیّن وأثر بارز للدین.
إنّ جذور التدیّن ممتدة إلى أعماق التاریخ .. إلى الأعماق المجهولة من التاریخ السحیق البعید غیر المدون.(3)
1 . دائرة المعارف: مادة إله و وثن.
2 . الدین فی التجارب.
3 . المصدر السابق.
_____________________________________ [الصفحة 55] _____________________________________
2. الفطرة هی الهادیة إلى اللّه ولیس التعلیم
یستیقظ الشعور الدینی فی باطن کل إنسان ـ تماماً ـ کبقیة الأحاسیس الباطنیة دون معلم ودون إرشاد أو توصیة من أحد.
فکما یحس الإنسان باطنیاً وذاتیاً فی فترة من فترات حیاته أو فی کل الفترات بمیل شدید إلى أُمور کالجاه أو الثروة أو الجمال أو الجنس وذلک تلقائیاً ودون تعلیم معلم، کذلک یستیقظ فی باطنه میل إلى اللّه وإحساس تلقائی یدفعه بدون إرادته إلى التفتیش عنه، وهو إحساس یتعاظم ویتزاید ویظهر ویتجلّـى أکثر فأکثر أثناء البلوغ حتى أنّ علماء النفس یتفقون فی أنّ بین ازمة البلوغ و القفزة المفاجئة فی المشاعر الدینیة فی الفرد ارتباطاً وتلازماً لا ینکر .
ففی هذه الأوقات نشاهد نهضة قویة، واندفاعة شدیدة فی الشعور الدینی حتى عند أُولئک الذین کانوا قبل تلک الفترة غیر مکترثین بالدین وقضایا الإیمان.
ویبلغ الشعور الدینی ذروته فی سن السادسة عشرة حسب نظریة استانلی هال.
وأمّا الأشخاص الذین سبق لهم أن تلقّوا تربیة دینیة فی عهد الطفولة، فلا توجد لدیهم مثل تلک النهضة المفاجئة، بل یمتد الشعور الدینی الموجود قبل البلوغ إلى ذلک الوقت دونما مفاجأة.
إنّ ظهور المیل المفاجئ إلى الدین و إلى اللّه ومسائل الإیمان دون تعلیم أو توجیه، لهو أحد الدلائل القاطعة على فطریة هذا الأمر، وکون هذا الإحساس یظهر فطریاً شأن بقیة الأحاسیس الإنسانیة الفطریة الأُخرى.
_____________________________________ [الصفحة 56] _____________________________________
ولکن علینا أن لا نغفل عن نقطة مهمة وهی: أنّ هذا الإحساس، وکذا بقیة الأحاسیس والمشاعر الإنسانیة لو لم تحط بالمراقبة الصحیحة والرعایة اللازمة أمکن ـ بل من المحتم ـ أن تعروها سلسلة من الانحرافات وتتعرض للاعوجاج کما هو الحال عند الوثنیین وغیرهم ممن ترکوا عبادة اللّه، وأخذوا بعبادة الآلهة.
3. الشعور الدینی لیس ولید العوامل المحیطیة
عندما نجد الشعورالدینی منتشراً وسائداً فی کل مکان وکل صقع من هذا العالم،وفی کل عصر من عصور التاریخ البشری، فإنّ من البدیهی أن نستنتج أنّ هذا الشعور نداء باطنی فطری لا محرک له سوى الفطرة، ولا مقتضی له سوى الجبلة.
لأنّه لو کان للظروف الجغرافیة أو العوامل الأُخرى دخل فی نشوء هذا الشعور، لوجب أن یوجد فی مکان دون مکان، ولدى شعب دون شعب، ولدى طبقة خاصة دون أُخرى.
وبتعبیر آخر لوجب أن یکون هذا الشعور لدى من تتوفر لدیه الظروف الجغرافیة أو السیاسیة أو الاقتصادیة الخاصة دون من لا تتوفر فیه تلکم الخصوصیات. فی حین أنّ الأمر على العکس من هذا تماماً، فالشعور الدینی موجود فی جمیع المناطق ولدى جمیع الشعوب وفی جمیع أدوار التاریخ البشری الطویل .. وهذا هو بالذات شأن کل ما لا یخضع لتأثیر العوامل الخارجیة .. وبالتالی شأن کل أمر فطری.
وفی هذا الصدد یقول بلورتاک المؤرخ الإغریقی الشهیر منذ نحو من ألفی سنة:
_____________________________________ [الصفحة 57] _____________________________________
من الممکن أن نجد مدناً بلا أسوار ولا ملوک ولا ثروة ولا آداب ولا مسارح ولکن لم یر قط مدینة بلا معبد،
أو لا یمارس أهلها عبادة.(1)
ویقول العالم الأثری الراحل الدکتور سلیم حسن:
دلت البحوث العلمیة البحتة الآن على أنّ لکل قوم من أقوام العالم عامة ـ مهما کانت ثقافتهم منحطة ـ دیناً یسیرون على هدیه ویخضعون لتعالیمه.(2)
4. الدعایات حدّدت هذا الشعور ولم تستأصله
لا شک فی أنّ الدعایات المناوئة، فی مقدورها أن تحد من نمو کثیر من الأحاسیس والمشاعر الدینیة، ولکنّها لا تستطیع ـ بتاتاً ـ أن تقضی علیها وتستأصلها.
وحتى الآن ورغم سیطرة الأفکار الیساریة على ما یقرب من ثلث عالمنا المعاصر ومحاولة البعض لحبس الشعور الدینی فی سجن الاستعمار الشیوعی أو القضاء علیه بالمرة(3) فإنّ هذه الجهود المناوئة للدین لم تحقق أی قسط مهم من النجاح فی القضاء على الدین، أو تفریغ قلوب أکثریة سکان هذا العالم من هذا الشعور .
فها هو الشعور الدینی ـ فی نفس الاتحاد السوفیاتی البلد الشیوعی الأُم ـ رغم مرور أزید من ستین عاماً على الثورة الشیوعیة فیها لا یزال یحتفظ بمکانته فی أعماق القلوب، ولذلک عمدت السلطات ـ فی الأوان الأخیر ـ إلى إعطاء بعض
1 . بین العلم والدین: 36.
2 . بین العلم والدین: 25.
3 . حتى أنّ بعض الأحزاب التقدمیة رفعت مؤخراً شعار: القضاء على الدین دین.
_____________________________________ [الصفحة 58] _____________________________________
الحریات للمسلمین والمسیحیین لإقامة شعائرهم الدینیة.
وفعلت الصین مثل ذلک مؤخراً کما تنقل نشرات الأخبار ووکالات الأنباء.
کل ذلک برهان ساطع ودلیل قاطع على أنّ الشعور الدینی فطرة فطر علیها الناس، جمیع الناس .. لا تمحوها الدعایات المناوئة، ولا أی شیء آخر، وإن کانت تقلل من اندفاعاتها وتحد من نموها، بعض الوقت، وبعض الشیء.
الثالثة: الشعور الدینی أو البعد الرابع فی الروح الإنسانیة
إذا کان القرآن الکریم وأحادیث أئمّة الإسلام تعتبر الشعور الدینی أمراً نابعاً من الفطرة، وراجعاً إلیها.. وأمراً جبل علیه الإنسان یوم خلق فإنّ علماء النفس منهم خاصة یصفون هذا الشعور بأنّه البعد الرابع للروح الإنسانیة.
وإذا تهافتت فی الغرب نظریة الأبعاد الثلاثة للجسم إثر ظهور النظریة النسبیة التی أضافت بعداً رابعاً للأجسام هو الزمان مضافاً إلى أبعاده الثلاثة المنظورة (وهی الطول والعرض والعمق) فقالت: کما أنّ الجسم لا یخلو من هذه الأبعاد الثلاثة کذلک لا یخلو من الزمن الذی هو ولید الحرکة بما أنّ الأجسام فی حرکة دائمة.
أقول: کما تهافتت نظریة الأبعاد الثلاثة بظهور البعد الرابع للأجسام، کذلک مع اکتشاف الشعور الدینی فی الإنسان والاطلاع على أنّ هذا الشعور یمثل أحد العناصر الثابتة والطبیعیة فی الروح والنفس الإنسانیة تهافتت النظریة القائلة بأنّ للروح الإنسانیة ثلاثة أبعاد فحسب، وثبت فی الم آل أنّ فی الروح والفطرة البشریة حسّاً آخر علاوة على الأحاسیس والغرائز الثلاث المعروفة، وهذا
_____________________________________ [الصفحة 59] _____________________________________
الحس هو حس التدّین الذی لا یقل أصالة عن بقیة الأحاسیس الأصیلة والمشاعر المتأصلة فی وجود الإنسان .
وإلیک فیما یلی بیان الغرائز والأحاسیس الثلاث باختصار :
1. غریزة حب الاستطلاع
وهذه الغریزة هی التی دفعت وتدفع الفکر الإنسانی ـ منذ البدایة ـ إلى البحث وإلى دراسة المسائل والمشاکل والسعی لاکتشاف المجهولات وفک الرموز واستکناه الحقائق. وهی الغریزة التی نشأت فی ظلها العلوم والصناعات وتوسعت المعارف و تطوَّرت وتقدّمت ... وهی الغریزة التی ساعدت المکتشفین والمخترعین منذ القدم وکانت معواناً ومشجعاً لهم على مواصلة البحث المضنی لاکتشاف ألغاز الطبیعة وأسرار الحیاة وکشف القناع عنها، وتحمل کل الصعوبات والمتاعب فی ذلک الطریق الوعر .
2. غریزة حب الخیر
وهی منشأ ظهور الأخلاق، ومعتمد الفضائل والسجایا الإنسانیة والصفات النفسانیة المتعالیة.
وهی الغریزة التی تدفع الإنسان إلى أن یحب بنی نوعه ویطلب العدل، والحق، والسلام.
وهی التی توجد فی المرء نوعاً من المیل الفطری الباطنی إلى الأخلاق النبیلة والسجایا الحمیدة ونفوراً من الرذائل والصفات الذمیمة.
_____________________________________ [الصفحة 60] _____________________________________
3. غریزة حب الجمال
وهی منشأ الفنون الجمیلة قدیماً وحدیثاً وسبب ظهور الأعمال الفنیة فی شتى مجالات الحیاة.
4. غریزة التدّین
وتعنی بأنّ کل فرد من أبناء الإنسان یمیل بنحو ذاتی وفطری، وبحکم غریزته إلى اللّه ویمیل إلى التدّین، وینجذب عفویاً إلى معرفة ما وراء الطبیعة والقوة الحاکمة على هذا الکون الذی یعیش ضمنه ویکون وجود الإنسان فرعاً من وجوده وجزءاً من أجزائه.
تلک القوة التی بیدها أمر العالم ویمکن أن تنقذه من البلایا، وتدفع عنه کل مکروه إن شاءت.
ولقد أوجد اکتشاف هذا الشعور وهذا البعد الأخیر حرکة عظیمة فی الأوساط العلمیة، إذ حط هذا الاکتشاف العلمی النفسانی الهام من غرور مادیی القرن العشرین وکبریائهم.
فإذا کان إنکار ما وراء الحس المیتافیزیقیا دلیلاً على الفهم والعلم والتحقیق ذات یوم، فقد أصبح هذا الأمر ـ بعد اکتشاف البعد الرابع ـ علامة الجهل والتعصب والتحجّر ، والإنکار لأبده الحقائق الحاضرة.
وإذا کانت مقالة لینین حول الدین، تعتبر ذات یوم فی نظر البعض أصلاً لا یقبل النقاش والجدل، وکانت جماهیر السواد تتصور بأنّه قد اکتشف لغزاً وسراً عظیماً من أسرار الکون، فقد أصبحت هذه النظریة بعد اکتشاف البعد الرابع،
_____________________________________ [الصفحة 61] _____________________________________
أی الشعور الدینی الفطری، واحدة من السخافات والمهازل.
إنّ وجود البعد الرابع فی الروح الإنسانیة یثبت أنّ لجمیع المیول الدینیة عند الإنسان جذوراً ضاربة فی أعماق الوجدان، وقد تجلى هذا الشعور فی جمیع أدوار الحیاة البشریة حتى فی تلکم الأدوار والمناطق التی لم تکن فیها مشکلة العامل ورب العمل(1) مطروحة بحال.
فقد کان هذا الشعور یدفع البشر فی تلک الأدوار والمناطق إلى اللّه وإلى ما وراء الطبیعة.
کما أنّ آثار الشعور الدینی لم تختف عن الکهوف والمغارات التی کان یسکنها الإنسان الأوّل .
هذا ونظائره یکشف بوضوح عن ملازمة هذا البعد للروح الإنسانیة ملازمة الظل للشاخص، وملازمة الزوجیة للأربعة ... وکأنّ التوجه إلى اللّه وإلى قضایا ما وراء الطبیعة نشید غیبی لا یفتأ ینبع من الفطرة الإنسانیة .. نشید لا یهدأ ...
المارکسیون وتقدیس المبادئ المارکسیة
رغم کل الدعایات المستمرة التی یقوم بها المادیون ضد الدین ووصمهم له بأنّه من عوامل الجمود والتأخر،
وکونه منافیاً للحریة الإنسانیة ومانعاً من تقدم البشریة فی مجالات البناء الفکری والاجتماعی.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . هذا هو رد تلویحی إلى ما یردّده المادیون المارکسیون حول الدین إذ یقولون: إنّ الدین لم یوجد إلاّ لإخماد ثورة العمال الکادحین على أرباب العمل. ولکن بعد أن ثبت أنّ للدین جذوراً فی ضمیر البشر، وأنّه کان موجوداً حتى فی النقاط التی لم یکن فیها خبر عن العامل ورب العمل لم یعد للنظریة المارکسیة حول الدین أیة قیمة.
_____________________________________ [الصفحة 62] _____________________________________
رغم کل تلک الدعایات المضادة لم یستطیعوا أن ینبذوا الدین والأفکار الدینیة من أدمغة البشر ، أو یقلّلوا من تقدیس المجتمعات المؤمنة لمعتقداتها.
وربما عاب المارکسیون على المتدینین ذلک التقدیس المفرط لمعتقداتهم والحال إنّ تقدیس المارکسیین ـ أنفسهم ـ لمبادئ المارکسیة ولمؤسسیها لم یقل، ولم یختلف عن معاملة المتدیّنین لمعتقداتهم وکتبهم السماویة ومن جاء بها.
إنّ المارکسیین یعتبرون أُصول المارکسیة وما جاء به وقاله مارکس وانجلز ولینین، أُموراً صحیحة مائة بالمائة، ویرون أنّها منزّهة عن أی غلط أو عیب وعاریة عن أی اشتباه وخطأ،وإنّها قطعیة لا یأتی الباطل من بین یدیها ولا من خلفها،
ولا یمکن أن تتغیّر أو تتبدل(1) تماماً کما یعتقد المتدیِّنون والإلهیون فی شأن الوحی والکتب السماویة.
ویکفی لمعرفة مدى تقدیس الشیوعیین والمارکسیین لشخصیاتهم ومؤسسی مبادئهم ما نشرته صحیفة البرافدا الناطقة بلسان الحزب الشیوعی فی 26 أبریل 1949م إذ قالت:
نحن نؤمن بثلاثة أشیاء: کارل مارکس، ولینین; وستالین، ولا نؤمن بثلاثة أشیاء: اللّه ، والدین، والملکیة الخاصة.
إنّهم یحرمون أیة إعادة نظر فی المبادئ والأُصول المارکسیة، ویصمون کل من یحاول ذلک بالردة الفکریة، والمروق من اللینینیة المارکسیة ... ویعتبرونه مرتداً حزبیاً، تماماً کما یفعل المتدینون، إذ یعتبرون الانحراف عن التعالیم النبویة وإنکار
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . هذا رغم أنّ من أُصول المادیة الدیالکتیکیة هو التغیر المستمر فی الأشیاء !!!
_____________________________________ [الصفحة 63] _____________________________________
بعض الضروریات الدینیة سبباً للارتداد، ویعدون منکرها مرتدّاً دینیاً ویهدرون دمه.
إنّ الاحترام الذی یلقاه مؤسسو الاشتراکیة من قبل أتباعهم لا یختلف کثیراً عن احترام أتباع الدیانات الإلهیة للأنبیاء والرسل إن لم یزدد علیه.
وغایة التفاوت بین السلوکین أنّ أتباع هذه الأحزاب والمبادئ المادیة یحترمون قادتهم السیاسیین ما داموا یحتلون المناصب، ففی مثل هذه الفترة تجدهم یصفون قادتهم بأنّـهم ملائکة الرحمة و أنّـهم محطمو قیود الاستعمار والاستبداد وأنّهم ملجأ الجماهیر الکادحة وما إلى ذلک من ألفاظ المدیح والثناء.
ولکن ما أن أُقصی هؤلاء القادة من مناصبهم أو حان موتهم وأُودعوا باطن الأرض إلاّ ووجدت انعکاس الآیة. فإذا بالأسیاد المحترمین بالأمس المستحقین لأجمل وأسمى آیات المدیح والثناء، ینهال علیهم کل ما فی قاموس الشتائم من سباب واتهامات، فإذا بالقائد التقدمی یصبح رجعیاً، ضد الکادحین، سفاکاً، خرق أُسس المارکسیة وتجاوز علیها، واستهان بآراء الجماهیر، إلى غیر ذلک من الاتهامات الرخیصة !!!
وقد وجدنا ووجد العالم کله ـ طوال الفترة التی عشناها ـ نوعین متضادین من الوصف فی حق ستالین .. فبینما کان یعد ذات یوم ملاکاً طاهراً مقدساً صار یعد فی یوم آخر سفاکاً دمویاً إلى درجة أنّ تماثیله أُزیلت من الساحات والمیادین العامة فی الاتحاد السوفیاتی بعد موته(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . بل وأُرید إخراج جثمانه للحرق انتقاماً، کما تتحدث عن ذلک بعض الکتب عن الاتحاد السوفیاتی.
_____________________________________ [الصفحة 64] _____________________________________
وها نحن الیوم نشاهد بدایات لنفس الموقف فی شأن ماو، وسوف لن یمضی زمان طویل إلاّ ونجد ماو وقد أُصیب بما سبق أن أُصیب به سلفه ستالین المنکود الحظ.
إنّ الاحترام والتعظیم الذی یظهره أتباع الفلسفة المادیة لمؤسّسی أُصول المارکسیة کمارکس وانجلز، لدلیل قاطع على فطریة سلسلة من المفاهیم کالخلود والأبدیة.
فهذه المفاهیم صحیحة فی حد ذاتها وهی أُمور قطعیة مائة بالمائة إلاّ أنّ القوم استخدموها فی غیر مواضعها خطأ.(1)
فبدل أن یستخدموا وصف الخلود والأبدیة فی حق الوحی الإلهی ویعتبروا الانحراف عن ذلک الوحی ارتداداً، نجدهم وصفوا المارکسیة بالخلود ونعتوا مؤسسیها بالأبدیة فإذا بهم یواجهون ذلک التخبط الذریع.
ولو لم تکن مفاهیم کمفهوم الخلود والأبدیة أُموراً فطریة لما راح المارکسیون یطلقونها على هذا أو ذاک حتى ولو خطأ.
ثم إنّنا کثیراً ما نجد المارکسیین یستخدمون فی شعاراتهم ونشراتهم ألفاظاً کـ التضحیة والفداء فی حین أنّ هذه المفاهیم لا تتلاءم مع أُصول المارکسیة لحصرها الوجود فی العالم المادی وإنکارها لما وراء ذلک.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . یقصد الأُستاذ بأنّ الإیمان الفطری بوجود أُمور خالدة وأبدیة أمر صحیح وموجود فی باطن البشر، وأنّ هناک بالفعل أُموراً خالدة وأبدیة فی الوجود بید أنّ المارکسیین أخطأوا فی استعمال هذه الأوصاف فاستخدموها فی غیر مواضعها ـ الهادی ـ .
_____________________________________ [الصفحة 65] _____________________________________
وإذا کنا نعلم بأنّ الإنسان لا یعمل شیئاً إلاّ لتحقیق منفعة شخصیة إلى درجة أنّ المنافع الاجتماعیة أیضاً لا یریدها الإنسان إلاّ لمنفعة نفسه، فلمن یضحی المارکسی ولمن یقدم نفسه فداء وهو لا یعتقد بالآخرة وما فیها من أجر وثواب؟!
أما یعتقد المنطق المارکسی بأنّ الإنسان یفنى بالموت فناء کاملاً ولا تعود منافعه إلیه بعد موته؟
فماذا تعنی التضحیة والفداء عند المارکسیین؟
ألیس ذلک یدل على أنّ دوافع التضحیة والفداء أُمور فطریة متأصلة فی ضمیر الإنسان ووجدانه،وأنّ المارکسیین أخطأوا فی طریقة استخدامها؟
المعنى الآخر لفطریة الإیمان باللّه
وقد تفسر فطریة الإیمان باللّه بنحو آخر إذ یقال: یکمن فی قرارة کل إنسان عشق للکمال والخیر المطلق لم یزل ولا یزال یدفع الإنسان إلیه.
فإذا ما وجد الإنسان فی نفسه میلاً شدیداً إلى العلم أو إلى الأخلاق أو الفن والجمال، فإنّ هذا المیل إنّما هو شعبة نابعة من ذلک العشق للکمال، وإشعاعة من إشعاعاته.
إنّ أوضح دلیل على وجود مثل هذا العشق للکمال المطلق فی باطن البشر هو أنّ أی کمال مادی لا یروی عطش الإنسان ولا یطفئ ظمأه.
فها هو الإنسان یسعى جهده لیبلغ إلى ما یریده من المناصب الرفیعة، ویظل یطمح إلى ما هو أعلى وأعلى حتى إذا نال ما أراد، فکّر فی أن یسخّر قمة أعلى ممّا ناله وکلّما ازداد رقیاً ازداد عطشاً وظمأ وطموحاً أکثر فأکثر .
کل هذا ـ لو تأملنا ـ دلیل واضح على أنّ للإنسان ضالة ینشدها أبداً،
_____________________________________ [الصفحة 66] _____________________________________
ویبحث عنها باستمرار وقد کان یظنها فی الکمالات المادیة المزیجة بالنقائص والشرور وأنّها قادرة على إرواء ظمئه وغلیله، ولکنَّه کلّما خطا خطوة جدیدة إلى الأمام رأى خلاف ما کان یتصوره ویتوقعه، ووجده دون ما یهواه ویعشقه.
إنّ عشق الکمال المطلق لدلیل ـ حقاً ـ على وجود مثل هذا الکمال، ولدلیل أیضاً على وجود رابطة قائمة بین الإنسان والکمال ذاک .
إنّ الوصول إلى ذلک الکمال وبلوغه یحتاج إلى تفکّر وتدبّر، وإلى السیر فی الطریق المؤدّی إلیه، وإلى الریاضة الدؤوبة التی تشعل الجذوة الکامنة فی أعماق النفس وتوجد فی حنایاه شغفاً أکبر وعطشاً أعمق، وتحوله بالتالی من باحث عن اللّه إلى واجد للّه، ثم یتحول وجدانه للّه إلى الشهود، والیقین الذی لا ینفذ إلیه شک، ولا یتسلل إلیه تردد وارتیاب.
إنّ هذا الشهود لیس برؤیة العین بل بعین البصیرة التی نوّه عنها فی کلام الإمام علی ـ علیه السَّلام ـ إذ قال:
لم تدرکه العیون بمشاهدة العیان، بل تدرکه القلوب بحقائق الإیمان(1).
إنّ الیقین الحاصل للسالک والعارف فی مسألة وجدان اللّه لهو أعلى من الیقین الحاصل من استخدام الجوارح والحواس، انّه نور لا ظلمة فیه، ویقین لا شک فیه، ولا تردد ولا احتمال ولا ظن.
والآن ما هو طریق الوصول إلى مثل هذا الکمال والیقین المطلق والشهود الأعلى؟
إنّ القرآن الکریم یشیر بنحو ما إلى هذا الطریق فی آیة، إذ یقول:
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . نهج البلاغة: شرح محمد عبده، خطبة 174.
_____________________________________ [الصفحة 67] _____________________________________
(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّکَ وَکُنْ مِنَ الْسَّاجِدِینَ * وَاعْبُدْ رَبَّکَ حَتَّى یَأْتِیَکَ الْیَقِینُ)(1).
ففی هذه الآیة وصفت العبادة والدعاء بکونها طریقاً للوصول إلى هذا الیقین والمعرفة القلبیة الیقینیة.(2)
إنّ هذا الیقین هو غیر الیقین الذی یحصل لکل العابدین .. إنّ هذا هو ذلک الشهود الذی یکون على غرار الیقین الحاصل من الاحتکاک بالمحسوسات الذی یکون من القوة بحیث یمنع من تطرق أی شک أو تردید إلیه.
وهذا الطریق لیس فی وسع کل أحد سلوکه کیفما اتفق، بل لابد لسلوکه من التهیؤ اللازم الذی لا یوجد إلاّ عند القلیلین من عباد اللّه المخلصین.
الشعور الدینی الفطری فی الأحادیث [67-73]تجلّـی الفطرة عند الشدائد [44-49]
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma