الفصل الرابع [227-254]

SiteTitle

صفحه کاربران ویژه - خروج
ورود کاربران ورود کاربران

LoginToSite

SecurityWord:

Username:

Password:

LoginComment LoginComment2 LoginComment3 .
SortBy
 
مفاهیم القرآن
رأی القرآن فی التثلیث [288-300]التوحید الاستدلالی ـ البرهان الثالث عشر [212-225]
اللّه وسریان معرفته فی العالم کلّه
_____________________________________ [الصفحة 228] _____________________________________
سریان معرفة اللّه فی الکون بأسره
1. الکون بأسره یسجد للّه ویسبّح بحمده.
2. ما هو المقصود من سجود أجزاء الکون؟
3. بیان حقیقة سجود الکائنات.
4. ما المراد من السجود الطوعی والإکراهی؟
5. الحمد والتسبیح الکونی کیف؟
6. آراء المفسرین فی تسبیح الکائنات.
7. النظریة الأُولى.
8. النظریة الثانیة.
9. النظریة الثالثة.
10. النظریة الرابعة.
11. القرآن وسریان الشعور فی عموم الموجودات.
12. القرآن وسریان الشعور فی الجمادات.
13. البرهان العقلی على هذا الرأی.
14. سریان الشعور والعلم الحدیث.
_____________________________________ [الصفحة 229] _____________________________________
ذرّات الکون بأجمعها تسجد للّه وتسبّح بحمده
من الحقائق الجلیلة والمعارف الرفیعة التی تضمّنها القرآن الکریم هو إخباره عن سجود الکائنات ـ بأجمعها ـ للّه وتسبیحها له سبحانه .
وتلک حقیقة علیا لم تسمع إذن الدهر من غیر هذا الکتاب العزیز بمثل هذا التفصیل والشمولیة.
وبعبارة أُخرى فإنّ القرآن الکریم یخبرنا ـ وفی صراحة کاملة ـ أنّ جمیع أجزاء العالم ـبدءاً من الذرة حتى أعظم مجرّة ـ تقوم بثلاث وظائف وأعمال کبرى هی:
1. السجود للّه تعالى.
2. حمده وتمجیده عز شأنه.
3. تسبیحه وتنزیهه سبحانه .
وکأنّ الکون بأسره: کتلة واحدة من الخضوع والخشوع، والشعور والإحساس والوعی.
أو کأنّ الکون ـ بجمیع أجزائه وذرّاته ـ لسان واحد ینطق بحمد اللّه، ویلهج بثنائه، وقلب واحد ینبض بتمجیده، ویؤدّی السجود له.
_____________________________________ [الصفحة 230] _____________________________________
والفرق بین السجود والتسبیح والحمد واضح.
أمّا السجود فهو الخضوع أمام کماله المطلق، أو الخضوع أمام أنعامه وأفضاله.
وأمّا الفرق بین الحمد والتسبیح فیتلخص فی أنّ الحمد تمجید للّه وثناء علیه بالجمیل الاختیاری، فی حین أنّ حقیقة التسبیح تعنی أنّ موجودات هذا العالم بأجمعها تنزهّه عن أی نقص وعیب.
قال الراغب ـ فی مفرداته : ـ الحمد للّه: الثناء علیه بالفضیلة وهو أخص من المدح، وأعم من الشکر، فإنّ المدح یقال فیما یکون من الإنسان باختیاره وغیره، فقد یمدح الإنسان بطول قامته وصباحة وجهه کما یمدح ببذل ماله وسخائه وعلمه والحمد یصح فی الثانی دون الأوّل، والشکر لا یقال إلاّ فی مقابلة نعمة فکل شکر حمد ولیس کل حمد شکراً، وکلّ حمد مدح ولیس کل مدح حمداً.(1)
إذا تبین هذا فإنّ علینا الآن أن نتحدث بالتفصیل عن هذه الأُمور الثلاثة التی هی من معارف القرآن العلیا.
ذرّات الکون بأجمعها تسجد للّه
طرح القرآن الکریم قضیة سجود الکائنات بأسرها للّه فی صور مختلفة.
ففی بعض الآیات تحدّث عن سجود ذوات الشعور من موجودات هذا العالم خاصة إذ قال:
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . مفردات الراغب باب الحاء: حمد.
_____________________________________ [الصفحة 231] _____________________________________
(وَللّهِ یَسْجُدُ مَنْ فِی السَّموَاتِ وَالأرْضِ طَوْعاً وَکَرْهاً وَظِلاَلُهُمْ بِالغُدُوِّ والآصَالِ ).(1)
ففی هذه الآیة(2) أُشیر إلى سجود الموجودات العاقلة خاصة، بدلالة لفظة (مَن) فی قوله (وَللّهِ یَسْجُدُ مَنْ فِی السَّموَاتِ)
مع العلم بأنّ (مَن) تستعمل فی العقلاء.
وبما أنّ الآیة تخبر عن سجود الموجودات العاقلة کلّها بلا استثناء، لا یمکن حملها على السجود التشریعی الصادر من المؤمنین لأجل امتثال أمر إلههم،لأنّه من الواضح عدم عمومیة هذا النوع من السجود لکل من له عقل وفکر، فإنّ کثیراً من الناس یترکون عبادة ربهم والسجود له، فعندئذ یجب تفسیر الآیة بالسجود التکوینی الذی سنبیّـن مفاده.
وقد أُشیر إلى هذا النوع من السجود، أعنی: سجود العقلاء، أیضاً فی سورة النحل إذ یقول:
(وَللّهِ یَسْجُدُ مَا فِی السَّموَاتِ و ما فِی الأرْضِ مِنْ دَابَّة وَالْمَلاَئِکَةُ).(3)
والشاهد فیها هو سجود الملائکة.
وفی سورة الحج إذ یقول:
(أَلَمْ تَرَ أَنْ اللّهَ یَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِی السَّموَاتِ وَمَنْ فِی الأرْضِ).(4)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الرعد: 15.
2 . محل الاستشهاد هو قوله سبحانه : (وَللّهِ یَسْجُدُ مَنْ فی السَّماواتِ) باعتبار لفظ من وإن کانت لفظة وظلالهم دالة على سجود الموجودات غیر العاقلة أیضاً، لکن بهذا الاعتبار تدخل الآیة فی الطائفة الرابعة الآتیة.
3 . النحل: 49.
4 . الحج: 18.
_____________________________________ [الصفحة 232] _____________________________________
وفی طائفة أُخرى من الآیات تحدّث القرآن عن نطاق أوسع للسجود، فتحدّث عن سجود کلّ الدواب، إذ یقول ـ کما فی الآیة المتقدمة ـ .
(وَللّهِ یَسْجُدُ مَا فِی السَّمواتِ وَمَا فِی الأرْضِ مِنْ دَابَّة).(1)
ثم تحدث ثالثاً عن سجود النباتات والأشجار إذ قال:
(وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ یَسْجُدَان).(2)
ثم تحدّث رابعاً عن سجود أکثر شمولاً ، إذ قال وهو یخبر عن سجود ظلال الأجسام:
(أَوَ لَمْ یَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِنْ شَیْء یَتَفَیَّؤُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْیَمِینِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً للّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ).(3)
وقد تقدم فی التعلیقة السابقة دلالة قوله: (وَظِلالُهُمْ) على مفاد هذه الآیة أیضاً.
وتحدّث خامساً عن سجود الشمس والقمر والکواکب والجبال والشجر والدواب إذ یقول:
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ یَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِی السَّموَاتِ وَمَنْ فِی الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدوَابُّ وَکَثِیرٌ مِنَ النَّاسِ).(4)
فهذه النصوص القرآنیة تفید بأنّ السجود ظاهرة عامة، وحالة تشمل کل
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . النحل: 49.
2 . الرحمن: 6.
3 . النحل: 48.
4 . الحج: 18.
_____________________________________ [الصفحة 233] _____________________________________
أجزاء هذا الوجود دون أن تختص بشیء معین.
إنّ ما هو المهم ـ هنا ـ هو فهم حقیقة هذا السجود، وکیف أنّ هذه الموجودات أجمع (عاقلها وغیر عاقلها) تظهر الخضوع أمام اللّه وتسجد له سبحانه.
ما هو المقصود من سجود أجزاء الکون؟
یؤدّی الإنسان عمل السجود ـ عادةـ بالهوی إلى الأرض ، ووضع الجبین أو الذقن على التراب، وإلى هذا یشیر القرآن الکریم إذ یقول:
(إِنَّ الَّذِینَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا یُتْلَى عَلَیْهِمْ یَخِرُّونَ للإذْقَانِ سُجَّداً).(1)
وهذه الهیئة ـ ما هی فی الحقیقة ـ إلاّ الشکل الظاهری للسجود، ولکن جوهرها وروحها هو إظـهار غایة التذلّل والخضوع أمام المعبود.
وهنا ینطرح هذا السؤال وهو: هل یلزم ـ فی السجود ـ وجود هیئة خاصة بحیث لا یصح استعمال هذه اللفظة مع عدم تلک الصورة الخاصة، أو أنّ ملاک السجود هو مجرد إظهار الخضوع، فإذا تحقّق ذلک، تحقّقت حقیقة السجود وصح إطلاق لفظة السجود على ذلک المورد دونما إشکال، حتى وان لم یکن فی البین تلک الهیئة الخاصة، حتى أنّ إطلاق السجود على الهیئة الخاصة لیس إلاّ باعتبار أنّ تلک الهیئة تحکی فی نظر العرف عن غایة التواضع ومنتهى الخضوع وباعتبار أنّها ـ فی الحقیقةـ طریق إلى إظهار الصغار والتذلّل أمام المعبود ؟
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الإسراء: 107.
_____________________________________ [الصفحة 234] _____________________________________
الحق أنّ القرآن یختار فی هذه المسألة الطریق الثانی، بمعنى أنّ السجود فی نظر القرآن الکریم هو إظهار التذلّل والخضوع فی أیة صورة تحقّق وفی أی شکل وقع.
ویدلّ علیه أنّ أئمّة اللغة فسّـروا السجود بالذل والتطامن تارة، وطأطأة الرأس وانحنائه تارة أُخرى بلا إشارة إلى الهیئة المخصوصة الرائجة.
قال ابن فارس: سجد یدلّ على تطامن وذل، یقال: سجد، إذا تطامن وکل ما ذلّ فقد سجد، قال أبو عمرو: سجد الرجل، إذا طأطأ رأسه وانحنى.
قال أبو عبیدة أنشدنی أعرابی أسدی:
وقلن له اسجد للبلى فاسجدا
یعنی البعیر إذاطأطأ رأسه.(1)
قال الراغب فی مفرداته: السجود أصله التطامن والتذلّل ، وجعل ذلک عبارة عن التذلّل للّه وعبادته، وهو عام فی الإنسان والحیوان والجماد، وذلک ضربان:
سجود باختیار ولیس ذلک إلاّ للإنسان.
وسجود تسخیر وهو للإنسان والحیوان والنبات حتى فسر قوله تعالى: (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً) (2)، بقوله متذلّلین منقادین.(3)
وعلى ذلک فاحتمال انّ السجدة مختصة بالهیئة المخصوصة واستعمالها فی
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . المقاییس: 2/13 مادة سجد.
2 . البقرة: 58.
3 . مفردات الراغب: مادة سجد.
_____________________________________ [الصفحة 235] _____________________________________
غیرها مجاز ، بعید، کاحتمال أنّ المقصود هو أنّنا ندرک الخضوع والسجود من الموجودات غیر الشاعرة لا أنّها تظهر من نفسها التذلّل والخضوع الذی هو أبعد، لکونه خلاف المتبادر من نسبة السجود إلى ذوات الموجودات بأنفسها، لا أنّ الغیر یدرک ذلک منها من دون أن توجد حقیقة السجود فی ذواتها.
على أنّ العرف والعقل هما أیضاً اختارا هذا الطریق (أی عدم الخصوصیة) فی أمر استعمال الألفاظ.
فعندما استعملت لفظة المصباح على المصابیح البدائیة کالشمعة التی لا تضیء إلاّ بضع سانتیمترات حولها وما عداها من المصابیح البدائیة ذات الهیئة الخاصة التی لا تشبه المصابیح الضخمة الحاضرة فی أیة جهة من الجهات.
أقول: یوم استعملت هذه اللفظة أُرید منها ـ فی الحقیقة ـ ما یضیء، ولذلک حیث إنّ خاصیة تلکم المصابیح القدیمة موجودة ـ بذاتها ـ فی المصابیح الحاضرة وبنحو أکمل جاز وصح استعمال اللفظة المذکورة فی المصابیح الضخمة القویة الضوء، أیضاً دون أی تغییر .
حقیقة سجود الکائنات
جمیع الکائنات فی هذا الوجود ، تظهر من نفسها التذلّل والخضوع للّه، وبنحو خاص.
وإنّ أعلى مظاهر ذلک الخضوع، والتذلّل للّه هو کون العالم بأسره تحت أمره سبحانه وفی قبضته، وهو کونها ـ دون استثناء ـ مطیعة له تعالى، ومؤتمرة بأوامره، وخاضعة لمشیئته المطلقة.
_____________________________________ [الصفحة 236] _____________________________________
وبتعبیر آخر: انّ علامة هذا الخضوع الکونی الشامل هو: سیادة الإرادة الواحدة على الکون برمّته واتّباع کلّ أجزاء هذا العالم لتلک الإرادة العلیا الواحدة دون مقاومة، أو تمرّد، ودون طغیان أو تردّد .
وبناء على هذا لا یمکن تصور أی نوع من الإکراه والکراهیة فی السجود بهذا المعنى ونعنی به: الإطاعة المطلقة للأرادة الإلهیة النافذة فی مجال التکوین.
إذ الإکراه إنّما یتصور عندما یملک الشیء إرادة واختیاراً من نفسه، لیتمکن من معاندة المکره ومقاومته، ومخالفة أمره فی حین لا یملک أی واحد من هذه الکائنات وجوده دون الاستناد إلى اللّه، فکیف یمکن لها ـ والحال هذه ـ أن تخالف مشیئة اللّه، ویصدق علیها أنَّها مکرهة فی سجودها أمام العظمة الإلهیة، وخضوعها أمام المشیئة الربانیة؟
السجود الطوعی والإکراهی
إذا کان معنى السجود هو خضوع الموجود أمام إرادة اللّه ومشیئته، فلا معنى لتقسیمه إلى الطوعی والإجباری مع أنّا نرى القرآن الکریم یثبت للإنسان ولغیره من ذوی العقول نوعین من السجود إذ یقول:
(وَللّهِ یَسْجُدُ مَنْ فِی السَّموَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَکَرْهاً).(1)
سجود عن طواعیة ورغبة.
وسجود عن کراهیة وإجبار.
وفی هذه الصورة لابد أن نختار لهذین النوعین من السجود معنى آخر غیر
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الرعد: 15.
_____________________________________ [الصفحة 237] _____________________________________
ما سلف فنقول: إنّ المراد بـ السجود الطوعی هو قبول تلک الحالات الملائمة للطبع البشری أو لطبع أی موجود آخر، کالنمو، ودوران الدم، وضربان القلب، بینما یکون المقصود بـ السجود الإجباری هو قبول تلک الحالات المنافیة للطبع کالموت والبلاء والمحنة التی تقضی على الإنسان أو الحیوان قبل حلول أجله الطبیعی.
والجدیر بالذکر أنّ القرآن الکریم استعمل هاتین اللفظتین: طوعاً وکرهاً فی مورد سجود السماوات والأرض، ومن الطبیعی أنّ المقصود من ذلک هو ما قلناه کذلک.
فمراد اللّه من خطابه للسماوات والأرض إذ یقول لهما: (ائتیا طوعاً أو کرهاً قالتا أتینا طائعین ) هو دعوة السماوات و الأرض إلى أن تقبل أی نوع من التغیّـرات والتبدّلات والحالات سواء أکانت ملائمة لطبعها أم لا ؟
وعلى هذا فإنّ قبول الشیء للوجود، وقبوله لأی نوع من التصرّفات سواء أکانت موافقة لطبعه أم مخالفة له، خضوع وإظهار للتذلّل أمام اللّه، غایة ما هنالک أنّ قبول هذه الأُمور قد یکون کلّه عن رغبة وطواعیة باعتبار، وقد یکون قبول بعض هذه الحالات عن کراهیة عندما تکون على خلاف طبع الشیء.
على أنّه لیس وجود الموجودات هو وحده فی قبضة اللّه تعالى، بل ظلالها هی الأُخرى تابعة لإرادته تعالى فی حرکاتها، وتحوّلاتها، بکرة وعشیاً کما قال سبحانه :
(أَوَ لَمْ یَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِنْ شَیْء یَتَفَیَّؤُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْیَمِینِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً للّهِ).(1)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . النحل: 48.
_____________________________________ [الصفحة 238] _____________________________________
فهل ترى یجوز للإنسان ـ وهو یجد جمیع الکائنات حتى ظلالها تسبِّح للّه وحده ـ .
هل یجوز لهذا الإنسان أن یشرک فی سجوده أو یمتنع من الخضوع أمامه تعالى، وله یسجد کل ما عداه؟!
وبعد أن تعرّفنا على معنى سجود الموجودات آن الأوان أن نتحدّث بتفصیل أکثر عن تسبیحها وحمدها للّه وتمجیدها له سبحانه .
* * *
إذا وقفت على ما تعنیه آیات السجود فلا یمکن أن یستفاد منها علم الموجودات بسجود نفسها، بعد ما کان معنى السجود هو مطلق خضوعها وتذلّلها لدى إرادة بارئها.
نعم یستفاد سریان العلم فی جمیع الموجودات من آیات التسبیح کما سیمر علیک.
الحمد والتسبیح الکونیان کیف؟
کل الکائنات ـ فی هذا الوجود ـ تسبح للّه، وتحمده، وتمجّده.
هذه ـ کما قلنا ـ حقیقة نطق بها الکتاب العزیز فی أکثر من موضع.
وقد مر علیک أنّ الحمد یعنی ثناء الموجودات على اللّه، لأجل أفعاله الجمیلة وکمالاته الاختیاریة، وأنّ التسبیح یعنی تنزیهه عن کل عیب ونقیصة، وبالتالی وصف اللّه بالتنزیه عن الصفات السلبیة التی لا تلیق بشأنه.
قال ابن فارس فی مقاییسه: التسبیح: هو تنزیه اللّه جل ثناؤه من کل سوء،
_____________________________________ [الصفحة 239] _____________________________________
والتنزیه: التبعید، والعرب تقول: سبحان من کذا: أی ما أبعده.
وحیث إنّ بعض الآیات ذکرت کلا اللفظین فی مکان واحد، لذلک سنبحث عنهما فی مقام واحد أیضاً دون تفریق.
وسنذکر کل الآیات الواردة فی هذا الباب فیما یأتی.
***
1. ربما عرض القرآن موضوع تسبیح الموجودات فی نطاق واسع، واعتبره أمراً عاماً، وحالة شاملة لکل الکائنات بلا استثناء عندما یقول:
(سَبَّحَ للّهِ مَا فِی السَّموَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِیزُ الْحَکِیمُ). (1)
ولفظة (ما) على العکس ممّا یتصوره البعض، تستعمل فی العاقل وغیره، والمقصود ـ هنا ـ فی هذه الآیة هو کل موجود وکائن فی السماوات و الأرض.
وعلى هذا الغرار أیضاً کل ما جاء فی المواضع التالیة من القرآن :
(سَبَّحَ للّهِ مَا فِی السَّموَاتِ وَمَا فِی الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِیزُ الْحَکِیمُ). (2)
(یُسَبِّحُ لَهُ مَا فِی السَّموَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِیزُ الْحَکِیمُ). (3)
(سَبَّحَ للّهِ مَا فِی السَّموَاتِ وَمَا فِی الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِیزُ الْحَکِیمُ). (4)
(یُسَبِّحُ للّهِ مَا فِی السَّموَاتِ وَ مَا فِی الأرْضِ الْمَلِکِ الْقُدُّوسِ الْعَزِیزِالْحَکِیمِ). (5)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الحدید: 1.
2 . الحشر: 1.
3 . الحشر: 24.
4 . الصف: 1.
5 . الجمعة: 1.
_____________________________________ [الصفحة 240] _____________________________________
(یُسَبِّحُ للّهِ مَا فِی السَّموَاتِ وَمَا فِی الأرْضِ لَهُ الْمُلْکُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى کُلِّ شَیْء قَدِیرٌ).(1)
على أنّ أشد آیة صراحة فی هذا الشأن هو قوله تعالى:
(تُسَبِّحُ لَهُ السَّموَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِیهِنَّ).(2)
والجدیر بالذکر أنّ هذه الآیة تحمل فی ذیلها دلیل ما ادّعیناه وهو قوله:
(وَ لکِنْ لا تَفْقَهوُنَ تَسْبِیحَهُمْ).(3)
وهی عبارة تکشف عن أنّ التسبیح العام أمر واقع وکائن، ولکن البشر لا یفقه ذلک.
2. وربّما تحدّث القرآن عن تسبیح الملائکة بالصراحة تارة، وبالکنایة تارة أُخرى، إذ یقول:
(وَالْمَلائِکَةُ یُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ).(4)
وقد ورد الإخبار بتسبیح الملائکة فی آیات أُخرى غیر هذه الآیة أیضاً، وهی:
(إِنَّ الَّذِینَ عِنْدَ رَبِّکَ لا یَسْتَکْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَیُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ یَسْجُدُونَ).(5)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . التغابن: 1.
2 . الإسراء: 44.
3 . الإسراء: 44.
4 . الشورى: 5.
5. الأعراف: 206.
_____________________________________ [الصفحة 241] _____________________________________
(وَیُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِکَةُ مِنْ خِیفَتِهِ).(1)
(وَلَهُ مَنْ فِی السَّموَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا یَسْتَکْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ یَسْتَحْسِرُونَ *یُسَبِّحُونَ اللَّیْلَ وَالنَّهَارَ لا یَفْتَرُونَ).(2)
(الَّذِینَ یَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ یُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَیُؤْمِنُونَ بِهِ).(3)
(فَإِنْ اسْتَکْبَرُوا فَالَّذِینَ عِنْدَ رَبِّکَ یُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّیْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا یَسْئَمُونَ).(4)
(وَتَرَى المَلاَئِکَةَ حَافِّینَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ یُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ).(5)
3. وربما ذکر القرآن ـ بعد الاخبار عن عموم التسبیح ـ تسبیح الطیر إذ یقول:
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الرعد: 13.
2 . الأنبیاء: 19 ـ 20.
3 . غافر: 7.
4 . فصلت: 38.
5 . الزمر: 75.
_____________________________________ [الصفحة 242] _____________________________________
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ یُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِی السَّمواتِ وَالأرْضِ وَالطَّیْرُ صَافَّات کُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِیحَهُ).(1)
إنّ الإمعان فی هذه الآیة یفید أنّ القرآن الکریم ینسب العلم والوعی إلى الفریق المسبِّح، ویصرّح بأنّ کل واحد من هذه الموجودات یعلم تسبیح نفسه بمعنى أنّ ما یقع منها من تسبیح یقع عن وعی وشعور بذلک، إذ یقول:
(کُلٌّ (أی کل واحد من الموجودات العاقلة والطیر) قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِیحَهُ) .
وقد ورد تسبیح الطیر فی آیات أُخرى، وهی:
(وَلَقَدْ آتَیْنَا دَاوُدَ مِنّا فَضْلاً یَا جِبَالُ أَوِّبِی مَعَهُ وَالطَّیْرَ (2)). (3)
(إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ یُسَبِّحْنَ بِالْعَشِىِّ وَالإشْرَاقِ * وَالْطَیْرَ مْحْشُورَةً کُلٌّ (من الجبال والطیر) لَهُ أَوَّابٌ).(4)
4. وفی آیات أُخرى صرح القرآن الکریم بتسبیح الجبال فی أوقات خاصة معینة، إذ یقول:
(إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ یُسَبِّحْنَ بِالْعَشِىِّ وَالإِشْرَاقِ).(5)
وقد جاء تسبیح الجبال فی آیات غیر هذه الآیة أیضاً، وهی:
(وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ یُسَبِّحْنَ).(6)
(وَلَقَدْ آتَیْنَا دَاوُدَ مِنّا فَضْلاً یَا جِبَالُ أَوِّبِی مَعَهُ).(7)
5. وتحدث القرآن عن تسبیح الرعد، فقال:
(وَیُسَبِّحُ الْرَّعْدُ بِحَمْدِهِ).(8)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . النور: 41.
2 .عطف على محل الجبال، أی ودعونا الطیر لتسبّح معه.
3 . سبأ: 10.
4 . ص: 18 و 19.
5 . ص: 18.
6 . الأنبیاء: 79.
7 . سبأ: 10.
8 . الرعد: 13.
_____________________________________ [الصفحة 243] _____________________________________
والآن یجب أن نعرف ماذا یعنی التسبیح؟
التسبیح لغة یعنی التنزیه عن النقائص والمعایب.
فعندما ینزّه شخص أحداً عن النقائص والمعایب یقال: سبحه، وقدسه.
إذن فینطوی التسبیح على معنى التقدیس والتنزیه، وأی تفسیر للتسبیح لا یکون حاکیاً عن تنزیه اللّه، وتقدیسه من النقائص والعیوب لا یمکن أن یکون تفسیراً صحیحاً ومقبولاً.
آراء المفسرین فی تسبیح الکائنات
إنّ بعض المفسرین ـ وإن قال بأنّ المراد من لفظة (ما) فی قوله تعالى: (مَا فِی السَّموَاتِ)هو الموجودات العاقلة المدرکة الشاعرة کالإنسان والملائکة التی تقدّس الباری، وتنزّهه بکامل شعورها وإدراکها ووعیها ـ ولکن کثیراً من المفسرین لم یرتضوا هذا الرأی وقالوا: بأنّ المقصود من (ما) هو مطلق الموجودات (عاقلة وغیر عاقلة، مدرکة وغیر مدرکة) وظاهر الآیة یؤید هذا الرأی، إذ أنّ لفظة (ما) تستعمل عادة فی مطلق الموجودات على عکس (من) التی تطلق ـ فی الأغلب ـ على أصحاب العقل والإدراک.
أضف إلى ذلک أنّ الآیة الدالة على سجود الموجودات غیر العاقلة لا تختص بالآیات التی وردت فیها لفظة (ما)، بل کان هناک لفیف من الآیات ذکر فیها تسبیح الطیر والجبال والرعد.
وعلى ذلک فالتوجیه المزبور لو صح لتم فی القسم الأوّل من الآیات لا فی القسم الثانی.
_____________________________________ [الصفحة 244] _____________________________________
وقد ذکر فریق من المفسرین توجیهات مختلفة للتسبیح، ولکن أکثرها وإن کانت صحیحة غیر أنّها لا ترتبط بالمعنى الحقیقی للتسبیح، وسوف نشیر فیما یلی إلى جملة من هذه الآراء.
النظریة الأُولى(1)
قال أصحاب هذه النظریة : إنّ المراد من التسبیح هو التسبیح التکوینی بمعنى أنّ وجود کل موجود حادث یشهد
ـ بحدوثه ـ أنّ له صانعاً خالقاً حتى أنّ وجود المادی الملحد المنکر للّه بلسانه، هو أیضاً، یشهد بوجود الخالق الصانع.
بید أنّ هذا الرأی ـ رغم صحته واستقامته فی حد نفسه ـ لا یمکن أن یکون تفسیراً صحیحاً ومقبولاً للتسبیح، لما قلناه من انطواء التسبیح على معنى (التنزیه) والتقدیس من العیوب والنقائص، ولا ربط لدلالة الموجودات على وجود خالق لها بمسألة التنزیه و التقدیس عن العیب والنقص والشریک.
النظریة الثانیة
وتقول هذه النظریة : إنّ المقصود من التسبیح هو الخضوع التکوینی الذی یبدیه کل واحد من الموجودات الکونیة تجاه مشیئة اللّه وأمره، إذ نحن نلمس بالوجدان کیف یخضع کل الوجود بلا استثناء أمام الإرادة الإلهیة، سواء أکان فی تقبل الوجود، أم فی اتّباع السنن الطبیعیة التی قررها وأرساها اللّه فی عالم الکون.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . هذه النظریة إجمال ما سیوافیک فی النظریة الثالثة، ولعل مراد من فسر التسبیح بما فی هذه النظریة، هو ما سیأتی فی ثالثتها من أنّ العالم کما یدل على وجود خالقه یدل على صفاته من توحیده وعلمه و ... وعلى ذلک تتحد النظریتان.
_____________________________________ [الصفحة 245] _____________________________________
فهذه الطاعة المطلقة أزاء تلک الإرادة الإلهیة العلیا، وهذا الانصیاع لتلکم السنن الإلهیة هو تسبیح الموجودات لیس غیر .
ثم یستدل أصحاب هذا الرأی على تسلیم جمیع الموجودات تجاه الإرادة الإلهیة النافذة بآیات، مثل قوله تعالى:
(ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِیَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِیَا طَوْعاً أَوْ کَرْهاً قَالَتَا أَتَیْنَا طَائِعِینَ)(1).
وبناء على هذه النظریة فإنّ جمیع الآیات التی نسب فیها السجود والخضوع إلى کل ما فی السماوات والأرض، یمکن أن تکون مؤیدة للرأی المذکور .
ولکنّنا نتصور أنّ هذا الرأی غیر صحیح هو أیضاً، ذلک لأنّ مسألة خضوع الوجود بأسره وبکل أجزائه، وتسلیمه للسنن والقوانین الإلهیة لا یرتبط بمسألة تنزیه اللّه، وتقدیسه تعالى من العیب والنقص والشرک، وینبغی أن لا نخلط بین هذین الموضوعین، وإن کان کل منهما صحیحاً وصائباً فی حد ذاته.
النظریة الثالثة
ذهب کثیر من المفسرین إلى تفسیر تسبیح عموم الموجودات على النحو الآتی ، إذ قالوا:
إنّّ النظام العجیب المستخدم فی تکوین کل واحد من هذه الموجودات والدقة المتناهیة فی هذا النظام دلیل على قدرة علیا و حکمة و علم مطلقین لصانعها وخالقها.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . فصلت: 11.
_____________________________________ [الصفحة 246] _____________________________________
فالکیان المعقّد والعجیب لکل واحد من هذه الموجودات، والملیء بالأسرار کما یشهد بصدق وجلاء على صانع لها، کذلک یشهد ـ بلسان التکوین ـ على خالق واحد، عالم وقدیر وحکیم، وعلى الجملة على علم ذلک الصانع وحکمته و قدرته وخلوّه عن أی نوع من الجهل والعجز والعی، بل یکفی فی التسبیح دلالتها على صفاته الکمالیة فقط، الملازم لدفع الصفات السلبیة ولا یجب أن یکون بصورة سلب النقائص ابتداء.
ففی مجال تنزیه اللّه عن الشریک مثلاً، تأتی شهادة هذه الموجودات على النحو الآتی:
إنّ النظام الواحد الذی یسود فی الذرة والمجرّة على السواء یشهد بأنّ الکون بأسره وجد بإرادة خالق وصنع صانع واحد دون أن تکون لأی خالق آخر مشارکة فی هذا الخلق والصنع، وأنّ وحدة النظام دلیل على وحدة المنظم وعدم الشریک له سبحانه .
وکذا إنّ سیادة نظام موحد على مجموع أجزاء الکون کما تفید أنّ ثمة منظماً واحداً یحکم هذا العالم، کذلک تکشف الأسرار الدقیقة، والتقدیر المتقن عن علم صانعها و حکمته و قدرته الملازم لتنزّهه عن الجهل واللعب والعجز(1)، وقد مر أنّه یکفی فی التسبیح دلالة الشیء على کمال المؤثر الملازم
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . هذا مضافاً إلى أنّ هذه النظریة تفصیل لما أجمل فی النظریة الأُولى، فإنّ القائل بالنظریة الأُولى أجمل القول واکتفى بالقول بأنّ کل موجود حادث یدل على وجود محدثه، لکن القائل بالنظریة الثالثة بسط الکلام وأفاد بأنّ وجود کل حادث کما یدل بحدوثه على وجود محدثه، کذلک یدل بصفاته (أعنی: النظام السائد فیه) على صفات موجده من العلم والقدرة والحکمة، وخلوّه عن العجز والجهل والعبث. ولأجل هذا قلنا إنّ النظریة الثالثة تفصیل لما جاء فی الأُولى.
_____________________________________ [الصفحة 247] _____________________________________
لدفع العیب عنه ولا یلزم أن یدل على تنزیهه من الجهل مطابقة.
ولنا على هذا الرأی الذی اعتمد علیه کثیر من المفسرین ملاحظات من عدة جهات:
1. إذا کان هذا هو مقصوده سبحانه من تسبیح عموم الموجودات، فهو ممّا یدرکه ویفقهه جمیع الناس أو أکثرهم، ولا معنى لأن یقول القرآن فی سورة الإسراء الآیة 44: (ولکن لا تفقهون تسبیحهم) .
وقد اضطر البعض إلى إصلاح هذه النظریة بتفسیر جملة (لا تفقهون)بأنّها بمعنى عدم الانتباه والالتفات، وإنّ أکثر الناس غیر منتبهین إلى تسبیح الموجودات، أمّا لانغماسهم فی المادیة، أو لأجل کون دلالة الموجودات على تنزیه اللّه عظیمة جداً بحیث لا یمکن للبشر أن یقف على مداها.
ولکن لا یخفى انّ هذا التوجیه خلاف ظاهر الآیة ، ولو صح ما فسروا به جملة (لا تفقهون)للزم أن یقول ولکنکم إذا لاحظتم تفقهون أو ما یناسب ذلک مع ما نعرف من الدقة فی التعبیر القرآنی ، لا أن یسلب عنهم العلم والفهم بتاتاً.
هب أنّ أکثر الناس غیر واقفین على دقة الخلقة وأسرارها والروابط السائدة على المخلوقات غیر أنّ ذلک لا یصحح سلب العلم عن الناس عامة، جاهلهم وعالمهم، ولا سیما فی هذا العصر الذی ظهرت فیه البواطن والأسرار واکتشفت الحقائق.
2. إذا کان تسبیح الموجودات بالمعنى المذکور فی هذه النظریة ، (أی أنّنا یمکن أن ندرک من التدبّر فی خلقة الأشیاء نزاهة خالقها وصانعها من الجهل والعجز)
_____________________________________ [الصفحة 248] _____________________________________
فلماذا وصف القرآن بعض الحیوانات کالطیر بإدراکها لتسبیحها وتنزیهها لربها وکونها تعلم بحقیقة تسبیحها إذ قال:
(کُلّ (أی کل من فی السماوات والأرض والطیر) قَد عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِیحَهُ).(1)
وبتعبیر أوضح: لماذا نسب القرآن الکریم العلم إلى الطیر بشکل صریح فی حین أنّ مقتضى هذه النظریة هو أنّها لا تعلم بتسبیح نفسها، ولا تشعر ولا تدرک ذلک، بل نحن فقط نشعر ونعلم بتسبیحها التکوینی من التدبّر فی خلقتها ودقة صنعتها دون أن تشعر هی نفسها بذلک.
اللّهم إلاّ أن یخصص العلم ـ بحکم ظاهر الآیة ـ بالموجودات العاقلة للفظة (من فی السموات والأرض) وخصوص الطیر 3. إذا کان المقصود من تسبیح الکائنات هو ما جاء فی هذه النظریة لما کان لهذا التسبیح وقت خاص، وزمان معین.
بل هو (أی التسبیح بلسان التکوین) حقیقة ملازمة للکائنات فی کل وقت وآن، بحیث یدرکها البشر أنّى تدبّر فی خلقتها، وأنّى تفکّر فی تکوینها، وتمعّن فی صنعها، فی حین أنّ القرآن الکریم یحدّد زمن تسبیح الجبال بأوقات خاصة من طرفی النهار بکرة وأصیلاً، إذ یقول فی سورة (ص الآیة 18):
(یُسَبِّحْنَ بِالْعَشِىِّ وَالإِشْرَاقِ).(2)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . النور: 14.
2 . إلاّ أن یکون العشی والإشراق کنایتین عن مداومة التسبیح طول اللیل والنهار، وعند ذلک لا یصلح هذا الوجه للاستدلال.
_____________________________________ [الصفحة 249] _____________________________________
نعم یمکن أن یقال: إنّ تحدید تسبیحها بالعشی والإشراق، لأجل أنّ تسبیح داود کان محدّداً بهذین الوقتین وکانت الجبال یسبحنّ معه، ولأجل تلک التبعیة صار تسبیح الجبال محدّداً بها.
ولکن ذلک لا یضر بالمقصود، إذ هو حاک عن سریان شعور مرموز إلیها بحیث تدرک تسبیح ولی اللّه سبحانه فی أوقات خاصة فتنطلق تسبح معه کما هو صریح الآیة.
واحتمال أنّ تسبیح الجبال کتکلّم شجرة موسى، وأنّ التسبیح إذا صدر من عباد اللّه الصالحین، تتجاوب معه الجبال بصورة خارقة کتکلم الشجرة بأمره، ولأجل ذلک صح اسناد التسبیح إلى الجبال، احتمال لا یمکن الرکون إلیه فی تفسیر الآیة إلاّ بشاهد من نفسها أو خارجها والظاهر هو المتبع ما لم یذدنا عنه البرهان.
على أساس هذه الملاحظات ـ بالرغم من صحة نظریة التسبیح التکوینی فی کل موجود فی حد ذاتها ـ لا یمکن حمل آیات التسبیح الکونی علیها والقول بأنّها ناظرة إلى هذا المعنى.
النظریة الرابعة
وهذه النظریة هی للفیلسوف الإسلامی الجلیل المرحوم صدر المتألّهین صاحب الآراء الجلیلة فی الإلهیات، وما وراء الطبیعة، وأحد کبار المؤسّسین
_____________________________________ [الصفحة 250] _____________________________________
لأُصول الفلسفة الإسلامیة، المحقّقین النادرین(1).
یقول هذا الفیلسوف الإسلامی ما توضیحه:
إنّ الکون بجمیع أجزائه یسبح للّه ویحمده ویثنی علیه تعالى عن شعور وإدراک.
فلکل موجود من هذه الموجودات نصیب من الشعور والإدراک بقدر ما یملک من الوجود من نصیب .
وعلى هذا الشعور تسبّح الموجودات کلّها، خالقها، وبارئها، وربها سبحانه وتنزّهه عن کل نقص وعیب.
ثم یقول:
إنّ العلم والشعور والإدراک کل ذلک متحقّق فی جمیع مراتب الوجود، ابتداء من واجب الوجود إلى النباتات والجمادات، وأنّ لکل موجود یتحلّـى بالوجود سهماً من الصفات العامة کالعلم والشعور والحیاة و .. و .. ولا یخلو موجود من ذلک أبداً، غایة ما فی الأمر أنّ هذه الصفات قد تخفى علینا ـ بعض الأحیان ـ لضعفها وض آلتها.
على أنّ موجودات الکون کلّما ابتعدت عن المادة والمادیة، واقتربت إلى التجرد ، أو صارت مجردة بالفعل ازدادات فیها هذه الصفات قوة وشدة ووضوحاً
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . ولد عام 979 هـ فی شیراز من بلاد إیران، و توفّی عام 1050 هـ فی طریق الحج فی البصرة. لقد أنشأ المرحوم السید حسین البروجردی فی تاریخ وفاته قوله ـ کما فی کتابه نخبة المقال ـ : ثم ابن إبراهیم صدر الأجل فی سفر الحج مریضاً ارتحل قدوة أهل العلم والصفــاء یروی عن الداماد والبهائـــی
_____________________________________ [الصفحة 251] _____________________________________
بینما کلما ازدادت اقتراباً من المادةوالمادیة، وتعمقت فیها، ضعفت فیها هذه الصفات، وضؤلت حتى تکاد تغیب فیها بالمرة، کأنّها تغدو خلوة من العلم والشعور والإدراک ولکنّها لیست کذلک (أی أنّها لیست خلوة من العلم والشعور والإدراک) ـ کما نتوهم ـ إنّما بلغ فیها ذلک من الضعف، والض آلة بحیث لا یمکن إدراکها بسهولة وسرعة(1).
ثم إنّ صاحب هذه النظریة أثبتها عن طریق الأدلة والبراهین الفلسفیة، والمکاشفات النفسانیة.
على أنّه خطا خطوة أکبر ، إذ قال: انّ ما یقوله القرآن بأنّ البشر لا یفقه تسبیح الموجودات، ناظر إلى أغلب الناس، لأنّ أغلبهم لا یفقهون هذا التسبیح، ولا یمنع ذلک من أن یفقهه بعض العارفین الذین ارتبطت أرواحهم بحقائق الموجودات ، فلمسوا تسبیح الکائنات عامة، بعین القلب، واطّلعوا على تقدیسها للّه سبحانه ، وانقیادها لمشیئته، وخضوعها له.
أجل أنّ القلوب الخالیة من الوساوس الشیطانیة، الطاهرة من العلائق المادیة التی صارت محلاً للنور الإلهی ومحطّاً للفیوض الربانیة، ومهبطاً للبرکات المعنویة قادرة على مشاهدة هذه الحقائق العلیا، مشاهدة وجدانیة، وإدراکها إدراکاً قلبیاً لا یتطرق إلیه شک، وماذا یمنع من ذلک یا ترى؟
***
وبعد أن وصل البحث إلى هذه النقطة یلزم أن نحاول الوصول إلى هذه الحقیقة القرآنیة ، بالتدبّر فی آیاتها التی تنسب الشعور والعلم إلى عموم
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . راجع الأسفار: 1/18 و 6/139 ـ 140، الطبعة الجدیدة.
_____________________________________ [الصفحة 252] _____________________________________
الموجودات، لأنّ القرآن إذا نسب التسبیح والحمد إلى عمومها، فهو فی نفس الوقت یصف کل ذرات العالم بأنّها شاعرة، ومدرکة، وسامعة.
فإذا وضعنا هاتین الطائفتین من الآیات إلى جانب بعض، ثبتت لنا صحة النظریة التی ذهب إلیها صدر المتألّهین.
وإلیک ـ فیما یأتی ـ الآیات الدالة على سریان الشعور، والعلم فی عامة الموجودات بدءاً من الذرة وانتهاء بالمجرة، مع ما یمکن استنباطه واستفادته من هذه الآیات .
سریان الشعور فی عموم الموجودات
ویمکن إثبات هذا الادّعاء عن طریقین:
أوّلاً: عن طریق الآیات التی تشهد على وجود الشعور، وسریانه فی جمیع موجودات هذا العالم، أحیائها، وغیر أحیائها.
ثانیاً: عن طریق البراهین والدلائل العقلیة التی تثبت وجود الشعور فی کل ذرات الکون.
وإلیک الطریق الأوّل: ویتألف من آیات متعددة هی:
1. یشهد القرآن ـ بصراحة ووضوح ـ على أنّ النمل تتمتع بشعور خاص، لأنّها عندما مر على وادیها سلیمان وجنوده راحت نملة تخاطب بنی نوعها وتحثّها على الدخول فی بیوتها لئلاّ یسحقها سلیمان وجنوده، کما یحدثنا القرآن إذ یقول:
(یَا أَیُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاکِنَکُمْ لا یَحْطِمَنَّکُمْ سُلَیْمَانُ وَجُنُودُهُ). (1)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . النمل: 18.
_____________________________________ [الصفحة 253] _____________________________________
وکان هذا النداء التطمینی (أو التحذیری) من تلک النملة، نداء حقیقیاً، واقعیاً، ولا یمکن أن نحمله على معنى مجازی، وندعی بأنّ ما قالته النملة کان بلسان الحال، وذلک لأنّ سلیمان تبسّم على أثر سماعه ذلک النداء، ودعا ربّه أن یوفقه للشکر على ما وهبه وأنعم علیه وعلى والدیه، إذ یقول القرآن :
(فَتَبَسَّمَ ضَاحِکاً مِنْ قَوْلِهَا(1) وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِی أَنْ أَشْکُرَ نِعْمَتَکَ الَّتِی أَنْعَمتَ عَلَیَّ وَعَلَى وَالِدَیَّ).(2)
2. انّ فی القرآن قصة عن الهدهد تکشف عن شعور خاص لدى هذا الطائر، بحیث یمکن للهدهد أن یمیز بواسطته: الموحد عن المشرک وبحیث کان سلیمان یبعثه فی إنجاز مهام معینة تحتاج إلى الشعور وتتطلب العلم والفهم.
وإلیک هذه القصة بلسان القرآن نفسه:
(وَتَفَقَّدَ الطَّیْرَ فَقَالَ مَالِیَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ کَانَ مِنَ الْغَائِبِینَ * لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِیداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَیَأْتِیَنِّی بِسُلْطَان مُبِین * فَمَکَثَ غَیْرَ بَعِید فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَم تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُکَ مِنْ سَبَإ بِنَبَإ یَقِین * إِنِّی وَجَدْتُّ امْرَأَةً تَمْلِکُهُمْ وَأُوتِیَتْ مِنْ کُلِّ شَیء وَلَهَا عَرْشٌ عَظِیمٌ*وَجَدْتُّهَا وَقَوْمَهَا یَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللّهِ وَزَیَّنَ لَهُمُ الْشَّیْطَانُ أعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِیلِ فَهُمْ لا یَهْتَدُونَ* أَلاَّ یَسْجُدُواللّهِ الَّذِی یُخْرِجُ الْخَبْءَفِی السَّمواتِ وَالأَرْضِ وَیَعْلَمُ مَا تُخُفْونَ وَمَا تُعْلِنُونَ*اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِیم*
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . إنّ فی لفظة قولها دلالة على أنّ نداءها لم یکن بلسان الحال، بل کان بالکلام والقول الذی ینطلق من شعور و ادراک.
2 . النمل: 19.
_____________________________________ [الصفحة 254] _____________________________________
قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ کُنْتَ مِنَ الْکَاذِبِینَ * اذْهَب بِکِتَابِی هَذا فَأَلْقِهِ إِلَیْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا یَرجِعُونَ).(1)
ألا یدل فعل هذا الطائر ـ العجیب ـ الذی یدرک کل الأُمور الدقیقة، ویخبر عنها بدقة وأمانة، ویمتثل لأُوامر سیده سلیمان على أحسن وجه.
أقول: ألا یدل کل هذا على أنّ هذا الطائر یتمتع بشعور خاص وإدراک مخصوص هو الذی أهّله لتحمّل تلک المسؤولیة الکبیرة الدقیقة؟
3. یعد القرآن من مفاخر سلیمان: علمه بمنطق الطیر،وهذا یکشف عن وجود منطق خاص للطیر کاشف عن شعوره بما یقول، إذ قال:
(وَوَرِثَ سُلَیْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ یَا أَیُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّیْرِ).(2)
کما أنّ القرآن یخبرنا بأنّ سلیمان ألّف جیشاً ضخماً من الإنسان والجن والطیر، وکانت جمیعها تحت أمره، ورهن إرادته، وإشارته:
(وَحُشِرَ لِسُلَیْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّیْرِ).(3)
وهکذا یستفاد من مجموع هذه الآیات أنّ الطیور والنمل تتمتع بنوع خاص من الوعی والشعور، وأنّه لو أُتیح للإنسان أن یحکم على الکون کله، لاستطاع أن یتحدث معها ویعرف حدیثها، وأن یستفید منها فی إرساء النظام التوحیدی وتقویة دعائمه، وتحطیم مظاهر الشرک والوثنیة وتقویض قواعدها، کما استفاد سلیمان من الهدهد ذلک الأمر، والظاهر أنّه لا خصوصیة للمورد.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . النمل: 19 ـ 28.
2 . النمل: 16.
3 . النمل: 17.
_____________________________________ [الصفحة 255] _____________________________________






سریان الشعور فی الجمادات [255-260]
تحدّثت الآیات القرآنیة عن هذه الحقیقة بنحو ما، وراحت تنسب أفعالاً إلى (الجمادات) تقترن بالشعور وتثبت الإدراک لها.
فالقرآن الکریم یرى أنّ سقوط بعض الصخور من نقطة ما إنّما هو نتیجة خوفها من اللّه وخشیتها منه تعالى إذ یقول:
(وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا یَهْبِطُ مِنْ خَشْیَةِ اللّهِ).(1)
نعم ربما یحتمل أنّ المراد من قوله تعالى: (وإِنَّ مِنها (مِنَ الحْجَارَةِ) لَمَا یَهْبِطُ مِنْ خَشْیَةِ اللّهِ ...) هو التعبیر عن شدّة قسوة قلوب الیهود، بشهادة أنّ من الحجارة ما تتفجّر منه الأنهار، دون قلوبهم، وانّ من الحجارة ما یهبط من خشیة اللّه دونها، وعند ذاک لا تصلح الآیة للاستدلال على سریان الشعور فی الموجودات عامّة.
غیر انّ هذا الاحتمال لا یضر بما ذهبنا إلیه، فإنّ التعبیر عن شدّة قسوة قلوبهم یجتمع مع دلالة الآیة على سریان الشعور فی عامّة الموجودات، فإنّ الآیة أثبتت للحجارة صفتین: التفجّر، والهبوط من خشیة اللّه.
فکما أنّ التفجّر أمر حقیقی لها، فکذلک الهبوط من خشیة اللّه أمر حقیقی لها، ومع ذلک تدلّ على شدّة قسوة قلوبهم.
وفی آیة أُخرى یخبر القرآن الکریم عن قضیة عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال، وامتناع هذه الأشیاء عن حملها خشیة و إشفاقاً فیقول:
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . البقرة: 74.
_____________________________________ [الصفحة 256] _____________________________________
(إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّموَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَیْنَ أَنْ یَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ).(1)
غیر أنّ طائفة من المفسرین فسّـروا هذه الآیة ونظائرها بالمعانی المجازیة، وبأنّ کل هذا الذی یخبر عنه القرآن تم بلسان الحال، بمعنى أنّها أبین وأشفقن عن تحمّل الأمانة المعروضة علیها، بلسان حالها، لا بلسان مقالها الکاشف عن الشعور فی حین أنّ هذا التفسیر والحمل ضرب من اتخاذ المواقف قبل البحث والدرس وهو أمر لا مبرر له، إذ لا دلیل على حمل مثل هذه الآیات على غیر ظاهرها، وتأویل هذه الحقیقة ـ التی یتحدّث عنها القرآن بصراحة ـ بمعان مجازیة، ومحامل لم یقم علیها دلیل.
على أنّ عدم توصل العلم إلى هذه الحقیقة، أعنی: وجود الشعور عند عامّة الموجودات لا یکون دلیلاً ـ أبداً ـ على عدم وجود هذا الشعور عند هذه الکائنات، لأنّ وظیفة العلم إنّما هی الإثبات فقط، ولیس للعلم حق النفی والسلب، والإنکار .
إنّ العلم لم یبلغ تلک المرحلة من المعرفة، والإحاطة بحقائق الکون، إحاطة یمکنه معها أن ینکر ما لا یعرف وجوده أو عدمه(2).
وفی موضع آخر یقول القرآن فی هذا الصدد :
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الأحزاب: 72.
2 . وهذه إحدى الفروق بین العلم والفلسفة فإنّ للثانیة حق النفی والإثبات ولیس للأوّل ذلک الحق، لأنّ الوسائل التی یتوسل بها العلم للتحقیق أقصر من أن یتوسل بها إلى الإحاطة بجمیع الموجودات ، وهذا بخلاف الفلسفة فإنّها تجعل صفحة الوجود مسرحاً لنقاشها ونفیها، وإثباتها وللبحث عن الفرق الکامل بین العلم والفلسفة موضع آخر .
_____________________________________ [الصفحة 257] _____________________________________
(لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَل لَرَأَیْتَهُ خَاشِعَاً مُتَصَدِّعَاً مِنْ خَشْیَةِ اللّهِ).(1)
ولا ریب أنّنا لو تجرّدنا عن آرائنا الشخصیة حول الآیات القرآنیة ، لوجب علینا أن نقول: إنّ هذه الجبال لابدّ أنّها تنطوی على قابلیة الخشوع والتصدّع لکی یصح أن یتوجه إلیها الخطاب الإلهی القرآنی .
إذ لیس من المعقول أن ینسب القرآن الکریم ـ ولیس من شأنه المبالغة الکاذبة ـ هذا النوع من الحالة (أی حالة الخشوع) إلى ما لا یکون قابلاً لها.
وربّما یحتمل أنّ الآیة کنایة عن عظمة القرآن وجلالة قدره، بدلیل انّه لو أنزله اللّه على جبل لخشع وتصدّع، ولا یستلزم هذا إثبات قابلیة الشعور فی الجبال.
غیر انّ الإجابة على هذا الاحتمال واضحة جداً، فإنّ هذا التفسیر مبنی على ما سلّم به القائل مسبقاً من أنّه لا شعور فی الجبال، ولذلک عاد ففسر الآیة على ما بنى علیه.
ولو تخلّـى عن هذه الفکرة ـ کما قلناه آنفاً ـ ودرس الآیة بدون فکرة سابقة لوقف على أنّ الآیة مع دلالتها على عظمة القرآن تدل أیضاً على وجود شعور فی الجبال، وقابلیة للخضوع والخشوع الحقیقیین لدیها.
ولیست دلالة الآیة على عظمة القرآن مانعة عن دلالتها على الأمر الثانی.
ویستفاد وجود مثل هذا الشعور والوعی فی الجبال من بعض الآیات الأُخرى عندما تقول:
(وَقَدْ مَکَرُوا مَکْرَهُمْ وَعِنْدَ اللّهِ مَکْرُهُمْ وَإِنْ کَانَ مَکْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ).(2)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الحشر: 21.
2 . إبراهیم: 46.
_____________________________________ [الصفحة 258] _____________________________________
وکقوله تعالى:
(تَکَادُ السَّموَاتُ یَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً)(1).
فإذا لم تکن فی الجبال تلک القابلیة وذلک الوعی لما یدور خارجها لما صحت هذه التوصیفات والنسب، ولوجب حینئذ أن نفترض لهذه الآیات معانی مجازیة من قبیل المبالغة، والتمثیل تماماً کما ذهب إلیها بعض المفسرین حیث ارتکبوا حملها على التجوز والتمثیل .
نعم یمکن أن تکون الآیة وسابقتها ناظرتین إلى أمر آخر وهو: أنّ عظم مکرهم بلغ إلى حد یمکن أن تنقلع به الجبال وتنشق السماء والأرض، والإزالة والانشقاق أثر المکر لا أن تزول وتنشق بتأثر ناشئ عن إدراک وشعور لدیها.
فمکرهم أو قولهم بأنّ اللّه اتخذ ولداً قد بلغ من التأثیر السیّء إلى حد الآلة الهدامة.
على أنّ الآیات المرتبطة بیوم القیامة تکشف النقاب عن وجود هذا الوعی والشعور ـ فضلاً عن إمکانه ـ حیث إنّها تخبرنا عن تکلّم الأیدی والأرجل والجلود وشهادتها على الإنسان فی ذلک الیوم الرهیب بأمر اللّه، فإذا بها تشهد على العصاة بکل ما فعلوا من أفاعیل، وآثام، بدقة متناهیة.
وإلیک هذه الآیات :
(یَوْمَ تَشْهَدُ عَلَیْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَیْدِیهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا کَانُوا یَعْمَلُونَ).(2)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . مریم: 90.
2 . النور: 24.
_____________________________________ [الصفحة 259] _____________________________________
(الْیَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْواهِهِمْ وَتُکَلِّمُنَا أَیْدِیهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا کَانُوا یَکْسِبُونَ).(1)
(وَیَومَ یُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ یُوزَعُونَ * حَتَّى إَذَا مَا جَاءُوها شَهِدَ عَلَیْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا کَانُوا یَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَیْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللّهُ الَّذِی أَنْطَقَ کُلَّ شَیْء وَهُوَ خَلَقَکُمْ أَوَّلَ مَرَّة وَإِلَیْهِ تُرْجَعُونَ).(2)
نعم الآیة واردة فی شهادة الجلود یوم القیامة و الاستدلال بها على إمکانیة وجود الشعور فی جلود الإنسان هنا فی الدنیا یحتاج إلى لطافة ذوق فإنّ النشأة الأُخرویة لیست مباینة للنشأة الدنیویة.
ثم إنّ القرآن یشهد ـ بصراحة تامة ـ فی آیات أُخرى بأنّ الارض تتحدث بأمر اللّه وتخبر عما وقع على ظهرها إذ یقول:
(یَوْمَئِذ تُحَدِّثُ (أی الأرض) أخْبَارَها * بِأَنَّ رَبَّکَ أَوْحَى لَهَا).(3)
کما أنّ القرآن الکریم یخبرنا عن طاعة السماوات والأرض الکاشفة عن وجود مثل هذا الوعی فیها إذ یقول:
(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّمَاءِ وَهِیَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ ائْتِیَا طَوْعاً أَوْ کَرْهاً قَالَتَا أَتَیْنَا طَائِعِینَ).(4) (5)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . یس: 65.
2 . فصلت: 19 ـ 21.
3 . الزلزلة: 4 ـ 5.
4 . فصلت: 11.
5 . والخطاب إلى السماء والأرض باعتبار أنّ الخطاب توجّه إلیهما بعد إیجاد مادتهما الأُولى بشهاد قوله سبحانه :
(وهی دخان)فلا یمکن قیاس تلک الآیة بالآیات التی ورد فیها لفظ کن،فإنّ الخطاب هناک تکوینی لغرض الإیجاد،دون المقام.
_____________________________________ [الصفحة 260] _____________________________________
هذه الآیات ونظائرها تفید ـ حسب نظر من یتخلّـى عن آرائه الشخصیة عند فهم مقاصد القرآن ـ سریان الشعور والفهم فی جمیع أجزاء هذا العالم، وذراته.
أمّا کیف وماذا تکون حقیقة هذا الشعور والفهم والوعی، وما هو مستواها وحجمها فذلک ما لیس بواضح ولا معلوم لنا، بید أنّ هذا الجهل لا یمکن أن یکون سبباً للإنکار فما أکثرها من حقائق فی هذا الوجود لا یعرفها البشر المحدود الرؤیة والتفکیر ومما یجدر بالذکر أنّ الأدعیة الإسلامیة قد أشارت إلى هذا الموضوع، نذکر من باب المثال بعض النماذج:
تسبّح لک الدواب فی مراعیها والسباع فی فلواتها، والطیر فی وکورها، وتسبح لک البحار بأمواجها والحیتان فی میاهها.(1)
کما أنّنا نقرأ فی الصحیفة السجادیة نظیر هذا حیث یخاطب الإمام السجاد الهلال عند رؤیته، إذ یقول ـ علیه السَّلام ـ:
أیّها الخلق المطیع الدائب السریع المتردّد فی منازل التقدیر، المتصرّف فی فلک التدبیر ... .(2)
بعد ملاحظة هذه الآیات والروایات الکاشفة عن سریان الشعور والفهم فی کل الموجودات یتعیّـن علینا أن نختار نظریة المرحوم صدر المتألّهین التی فسر فیها التسبیح المذکور فی مورد الکائنات عامة، بالتسبیح الحقیقی الواقعی بمعنى أنّ الموجودات تسبّح للّه، عن شعور وإدراک لا بلسان الحال والتکوین کما ذهبت إلیه النظریات الأُخرى.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . راجع کتب الأدعیة.
2 . الصحیفة السجادیة: الدعاء: 43.
_____________________________________ [الصفحة 261] _____________________________________






البرهان العقلی على هذا الرأی [261-264]
ویمکن إثبات هذا الرأی بالدلیل العقلی، وأُصول الحکمة المتعالیة(1) وخلاصة ذلک هی: أنّ الوجود ـ فی کل مراتبه ـ ملازم للشعور والعلم والوعی، وکل شیء نال حظاً من الوجود، فإنّه یتمتع بالوعی والعلم والشعور بقدر ما نال من الوجود ویتألّف الدلیل الفلسفی لهذا الادّعاء من مقدمتین ونتیجة:
1. انّ ما هو أصیل فی الکون، ومصدر لجمیع الآثار والکمالات هو : الوجود .
فهو منبع کل فیض معنوی ومادی وهو منشأ کل علم وقدرة وکل إدراک وحیاة.
فکل ذلک ناشئ من وجود الأشیاء، بحیث لو انتفى الوجود من البین، لتوقّفت جمیع الحرکات وسکنت جمیع النشاطات وانعدمت کل الفیوض وآل کل ذلک إلى العدم .
2. لیس للوجود ـ فی کل مراحله من واجب وممکن ومجرد ومادی وعرض وجوهر ـ إلاّ حقیقة واحدة لا أکثر .
وحقیقة الوجود وان لم تکن واضحة لنا ولکننا یمکننا أن نتعرف علیها
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . هذه اللفظة تشیر إلى مدرسة شیخ المتألّهین صدر الدین الشیرازی ـ رحمه اللّه ـ .
_____________________________________ [الصفحة 262] _____________________________________
بسلسلة من المفاهیم الذهنیة ونقول:
إنّ الوجود هو الذی یطرد العدم وتفیض العینیة والتحقّق منه للأشیاء.
وبعبارة أُخرى: لیست للوجود ـ من أشرفه إلى أخسّه، من واجبه إلى ممکنه ـ إلاّ حقیقة واحدة، تتفاوت فی الشدة والضعف حسب تفاوت مراتبه ودرجاته ولیست الشدة إلاّ نفس الوجود، لا أمراً منضماً إلیه ولیس الضعف إلاّ محدودیة الوجود .
فللوجود ـ فی جمیع مراتبه ـ حقیقة واحدة، ونشیر إلى تلک الحقیقة الواحدة بأنّها طاردة للعدم أو کونها نفس العینیة الخارجیة، وإن کانت لتلک الحقیقة مراتب مختلفة من الشدة والضعف لکن الاشتداد لیس إلاّ نفس الوجود لا أمراً زائداً علیه، کما أنّ الضعف لیس إلاّ محدودیته، لا أمراً ینضم إلیه.
فإذا اعتبرنا الوجود منبعاً للکمالات، وأنّه لیس له إلاّ حقیقة واحدة لا أکثر وجب أن نستنتج من تلک المقدمات هذه النتیجة وهی: إذا کان الوجود فی مرتبة خاصة من مراتبه ـ کوجود الحیوانات ـ ذا أثر، وهو العلم والشعور فلابد أن یکون هذا الأثر ساریاً فی کل المراتب بنسبة ما فیها من الوجود.
وغیر هذه الحالة یجب إمّا أن لا یکون الوجود منشأ للکمالات ومنبعاً للآثار وإمّا أن نتصور للوجود حقائق متباینة، أی أن نعتبر حقیقته فی مرتبة الحیوانات متغایرة عما هی فی مرتبة النباتات والجمادات.
إذ لیس من المعقول أن یکون لحقیقة واحدة أثر معین فی
_____________________________________ [الصفحة 263] _____________________________________
مرتبة دون مرتبة أُخرى منها.
وبتعبیر آخر إذا کان الوجود ذا حقائق متباینة جاز أن یکون ذا أثر معین فی مورد ما بینما یکون فاقداً لذلک الأثر فی مورد آخر .
ولکن إذا کانت للوجود حقیقة واحدة، ولم تختلف مصادیقها إلاّ فی الشدة والضعف فحینئذ لا معنى لأن یکون الوجود ذا أثر فی مرحلة بینما یکون فاقداً لذلک الأثر فی مرحلة أُخرى.
هذه هی خلاصة البرهان الفلسفی الذی تحدث عنه المرحوم صدر المتألّهین فی مواضع مختلفة من کتبه.
على أنّ ظواهر الآیات القرآنیة تؤید هذه الحقیقة إذ تقول: (وَإِنْ مِنْ شَیْء إِلاَّ یُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَکِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِیحَهُمْ).(1)
سریان الشعور والعلم الحدیث
من حسن الحظ أنّ العلوم الحدیثة ـ الیوم ـ أثبتت بفضل جهود المحققین والباحثین: وجود الوعی والعلم فی عالم النبات إلى درجة أنّ علماء روس اعتقدوا بأنّ للنبات أعصاباً على غرار الإنسان،وأنّها تصرخ وتظهر من نفسها ردود فعل معینة.
وإلیک ما نشرته صحیفة اطلاعات فی هذا الصدد :
کشفت إذاعة موسکو عن نتائج جدیدة لتحقیقات علماء روس فی عالم النبات حیث قالت: بأنّ العلماء توصلوا مؤخراً إلى أنّ للنباتات أجهزة عصبیة شبیهة بالأجهزة فی الحیوانات.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الإسراء: 44.
_____________________________________ [الصفحة 264] _____________________________________
ولقد توصل العلماء إلى هذه الحقیقة بعد أن علّقوا أجهزة سمع وبث الکترونیة دقیقة على ساق نبات القرع ثم لاحظوا
ـ بوضوح ـ ظهور ردود فعل غریبة على ساق النبات المذکور عندما راحوا یقطعون بعض جذوره!!
وفی الوقت ذاته کانت قد أُجریت اختبارات مشابهة فی المختبر الفسیولوجی للنبات بأکادیمیة العلوم الزراعیة أفرزت نتائج مشابهة أیضاً!
ففی هذه الاختبارات وضعوا جذور إحدى النباتات فی ماء ساخن فضبطوا على أثره صیحات ألم وأنات صدرت من النبات غیر أنّ هذه الأصوات لم تسمع بالطبع بالأُذن المجردة، وإنّما أجهزة تسجیل الأصوات الالکترونیة الدقیقة هی التی التقطت هذه الصرخات، وسجلتها على أشرطة خاصة.(1)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . جریدة اطلاعات.
_____________________________________ [الصفحة 265] _____________________________________






الفصل الخامس [265-266]
اللّه والتوحید الذاتی
وانّه لا نظیر ولا مثیل له
_____________________________________ [الصفحة 266] _____________________________________
اللّه والتوحید الذاتی
1. أنواع الوحدات.
2. شهادة اللّه على وحدانیته سبحانه .
3. بحث حول کیفیة شهادته سبحانه .
4. إجابة عن سؤال.
5. وجود اللّه غیر متناه .
6. عوامل المحدودیة منتفیة فی ذاته تعالى.
7. اللامحدود لا یتعدد .
8. سؤال وجواب.
9. سؤال آخر وجواب.
10. أحادیث أئمّة أهل البیت حول وحدانیة اللّه.
11. وحدة اللّه لیست وحدة عددیة.
12. الآلهة الثلاثة أو خرافة التثلیث.
13. کیف تسرب التثلیث إلى النصرانیة؟
14. رأی القرآن فی التثلیث.
15. آثار المسیح البشریة.
_____________________________________ [الصفحة 267] _____________________________________








التوحید فی الذات [267-287]
قبل الخوض فی دراسة الآیات القرآنیة وتحلیل الدلائل العقلیة والمرتبطة بوحدانیة الذات الإلهیة المقدسة یلزم أن نذکّر القارئ الکریم بنقاط هی:
1. قلنا فیما تقدم أنّ المحقّقین الإسلامیین اختصروا ولخصوا مراتب التوحید فی أربع هی :
أ. التوحید الذاتی.
ب. التوحید الصفاتی.
ج. التوحید الإفعالی.
د. التوحید العبادی.
لکن مراتب التوحید ـ فی الحقیقة ـ لا تنحصر فی هذه الأقسام الأربعة، بل ثمة مراتب أُخرى له قد ورد ذکرها فی الکتاب العزیز، وسوف یوافیک شرحها، وبیانها تدریجیاً.
والمقصود من التوحید الذاتی هو أنّ اللّه لا شریک ولا نظیر ولا شبیه ولا مثیل له.
وبتعبیر أوضح، إنّ التوحید الذاتی هو أنّ الذات الإلهیة لا تقبل التعدّد
_____________________________________ [الصفحة 268] _____________________________________
ولا یمکن أن یتصوّر الذهن مصداقاً وفرداً آخر للّه فی عالم الخارج، فالذات الإلهیة تکون بحیث لا تقبل التعدّد والتکثّر .
***
2. یترکز اهتمام القرآن ـ فی الأغلب ـ على : مسألة التوحید الافعالی والتوحید العبادی وقلّما یهتم القرآن ـ فی الظاهر ـ بالتوحید الذاتی و التوحید فی الصفات وقلّما یتناولهما بالبحث والبیان.
بید أنّ الناظر فی المفاهیم والمعارف التی یتناولها القرآن الکریم لو أجاد النظر فی الآیات القرآنیة لوجد أنّ القرآن تعرض للمسألتین الأخیرتین أیضاً، ولکن فی مستویات أرفع یحتاج فهمها واستیعابها واستنتاجها إلى مزید فحص وإمعان.
***
3. لقد قسّم الفلاسفة الإسلامیون الوحدة إلى أربعة أنواع:
أ. الوحدة الشخصیة (العددیة).
ب. الوحدة الصنفیة .
ج. الوحدة النوعیة.
د. الوحدة الجنسیة.
ولتوضیح ذلک نقول:
هناک وحدة شخصیة و واحد بالشخص کما أنّ هناک وحدة صنفیة و واحداً بالصنف ثم وحدة نوعیة و واحداً بالنوع کما أنّ هناک وحدة جنسیة و واحداً بالجنس.
_____________________________________ [الصفحة 269] _____________________________________
وربما یخلط بینهما وإلى هذا الاختلاط والالتباس یشیر الحکیم السبزواری فی منظومته الفلسفیة قائلاً:
و واحد بالنوع غیر النوعی فی مثله التمییز أیضاً مرعی
وعمدة الفرق بین الصورتین أنّ الأمرین اللّذین یقعان تحت الصنف أو النوع الواحد مثلاً یسمیان واحداً بالنوع أو بالصنف أو بالشخص أو بالجنس.
فزید وعمرو بما أنّهما داخلان تحت نوع واحد وهو الإنسانیة فهما واحدان بالنوع کما أنّ مفهوم الإنسانیة له وحدة نوعیة.
و الإنسان والفرس بما أنّهما داخلان تحت جنس واحد فهما واحدان بالجنس أعنی الحیوانیة، کما أنّ ذلک المفهوم
أی مفهوم الحیوانیة له وحدة جنسیة.
وقس علیه الوحدة الصنفیة مثلاً ، فالطالبان بما أنّهما داخلان تحت عنوان طلبة العلم فهما واحدان بالصنف ویکون لمفهوم الطالبیة وحدة صنفیة.
4. على هذا الأساس لا یمکن ولا یجوز أن نصف اللّه تعالى بالوحدة العددیة بأن نقول اللّه واحد لیس باثنین.
إذ أنّ هذا التعبیر إنّما یجوز استعماله فیما یمکن تصور فرد ثان للشیء الموصوف بالوحدانیة، فی الخارج، أو فی عالم الذهن، وان لم یکن للمفهوم المعین سوى مصداق واحد.
ولکن إذا کانت کیفیة وجود الشیء بحیث لا یمکن تصور فرد آخر مثیل له أبداً، کما بالنسبة إلى اللّه سبحانه ،
ففی هذه الصورة لا تتحقق الوحدة العددیة مطلقاً، ولا یصح إطلاقها واستعمالها فی مثل هذا المورد بتاتاً.
_____________________________________ [الصفحة 270] _____________________________________
إنّ الدلائل العقلیة، التی سنذکر طائفة منها ـ فی هذا المقام ـ لتذکرنا وتهدینا إلى النقطة الهامة، وهی: أنّ الذات الإلهیة حقیقة خارجیة لا تقبل التعدّد والکثرة بأی شکل من الأشکال وحتى لو أمکننا افتراض ثان له فإنّه سیکون نفسه لا غیره(1).
هذا مضافاً إلى أنّ الوحدة العددیة إنّما تصح إذا اندرج الفرد الواحد المعین تحت ماهیة کلیة کالفرد أو الفردین من أفراد الإنسان التی تندرج تحت عنوان الإنسان .
وهذا التصور باطل فی شأن اللّه، إذ لا تندرج ذاته سبحانه أبداً تحت أیة ماهیة کلیة.
وبتعبیر فلسفی، إنّ اللّه منزّه عن الماهیة وأن یندرج تحت مفهوم ذاتی.
5. سنبحث فی الفصل التاسع من هذا الکتاب حول لفظة الإله و اللّه وسوف نقول هناک أنّ لفظة إله ولفظة اللّه ترجعان ـ لفظاً ومعنى ـ إلى شیء واحد غیر أنّ لفظة إله عامّة ولفظة اللّه اسم خاص، ولذلک یجمع الأوّل لکونه اسماً عاماً، فی حین لا یمکن جمع الثانی لکونه اسماً خاصاً، وعلماً.
فعلى هذا تکون الآیات التی وردت فی القرآن الکریم بشکل لا إله إلاّ اللّه وما شابهها ناظرة إلى وحدانیة الذات الإلهیة، ونفی المثیل والنظیر له تعالى.
وقد أخطأ من حمل هذه الآیات على التوحید العبادی ونفی معبودات غیر اللّه، لأنّ إله کما قلنا لیس بمعنى المعبود، بل هو ولفظة اللّه سواسیة فی اللفظ والمعنى.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . سوف نوضح هذا البرهان بمزید من البیان فی المستقبل.
_____________________________________ [الصفحة 271] _____________________________________
6. انّ أوضح آیة دلالة على توحید الذات ونفی الشریک والنظیر للّه سبحانه هو قوله تعالى:
(شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِکَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِیزُ الْحَکِیمُ).(1)
وقد وردت فی القرآن آیات أُخرى بهذا المضمون وفی عبارات متنوعة مثل:
(لاَ إِلهَ إِلاَّ اللّهُ).(2)
(لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ).(3)
(لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ).(4)
(لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنَا).(5)
وغیر ذلک مما یمکن الوقوف علیها بمراجعة المعجم المفهرس لألفاظ القرآن بسهولة ویسر .
وإلیک آیات أُخرى فی هذا الصدد :
(فَاطِرُ السَّموَاتِ وَالأرْضِ جَعَلَ لَکُمْ مِنْ أَنْفُسِکُمْ أَزْواجَاً وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْوَاجاً یَذْرَؤُکُمْ فِیهِ لَیْسَ کَمِثْلِهِ شَیءٌ وَهُوَ السَّمِیعُ الْبَصِیرُ).(6)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . آل عمران: 18.
2 . محمد: 19.
3 . الحشر: 22.
4 . الأنبیاء: 87.
5 . النحل: 2.
6 . الشورى: 11.
_____________________________________ [الصفحة 272] _____________________________________
وهل الکاف فی الآیة زائدة فیکون هدف الآیة نفی المثل له، أو غیر زائدة فیکون معناها نفی مثل المثل له، ویستلزم ذلک نفی المثل بالدلالة الالتزامیة إذ من الطبیعی أنّه إذا لم یکن لمثل الشیء مثل فلن یکون لذاته مثل أصلاً.
وتوضیح ذلک:
قال التفتازانی: إنّ الآیة بصدد نفی شیء بنفی لازمه، لأنّ نفی اللازم یستلزم نفی الملزوم کما یقال: لیس لأخی زید أخ فأخو زید ملزوم والأخ لازمه، لأنّه لابد لأخی زید من أخ هو زید، فنفیت هذا اللازم والمراد نفی ملزومه، أی لیس لزید أخ، إذ لو کان له أخ لکان لذلک الأخ أخ هو زید.
فکذا نفیت أن یکون لمثل اللّه مثل، والمراد نفی مثله تعالى إذ لو کان له مثل لکان هو مثل مثله إذ التقدیر انّه موجود .
ثم نقل عن صاحب الکشاف وجهاً آخر لعدم زیادة الکاف، وهو : انّهم قد قالوا مثلک لا یبخل والغرض نفیه عن ذاته، فسلکوا طریق الکنایة قصداً إلى المبالغة، لأنّهم إذا نفوه عما یماثله وعمّن یکون على أخص أوصافه فقد نفوه عنه. فحینئذ لا فرق بین قوله: لیس کاللّه شیء وقوله: لیس کمثله شیء، إلاّ ما تعطیه الکنایة من فائدتها وهما عبارتان معتقبتان على معنى واحد وهو نفی المماثلة عن ذاته.(1)
(قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ * اللّهُ الصَّمَدُ * لَمْ یَلِدْ وَلَمْ یُولَدْ * وَلَمْ یَکُنْ لَهُ کُفُواً أَحَدٌ).(2)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . المطول: بحث المجاز المفرد 320.
2 . الإخلاص: 1 ـ 4.
_____________________________________ [الصفحة 273] _____________________________________
توضیحات حول الآیة الأُولى
تذکر الآیة الأُولى ـ بجلاء تام ـ شهادة اللّه والملائکة والعلماء على وحدانیة اللّه، وعلینا هنا أن نعرف کیف تکون شهادة اللّه على هذا الموضوع.
1. یمکن أن تحمل هذه الشهادة على الشهادة القولیة کما نشهد نحن على وحدانیته بقولنا: لا إله إلاّ اللّه.
وقد شهد اللّه على وحدانیته بالشهادة اللفظیة عن طریق القرآن وهو الوحی والکلام الإلهی، ضمن الآیات التی تعرضت لبیان هذه الوحدانیة وإثباتها، وقد أشرنا إلى بعضها ـ فیما تقدم ـ .
وجملة (قَائِمَاً بِالقِسطِ) إشارة إلى القسط الإلهی فی القول والعمل، ومن المعلوم أنّ قبول الشهادة فرع عدالة الشاهد وصدقه فلما کان الشاهد عادلاً کانت شهادته صادقة وصحیحة.
2. یمکن أن تکون هذه الشهادة (المذکورة فی الآیة ) شهادة عملیة، لأنّ اللّه بخلقه الکون الذی یسوده نظام واحد، وتترابط أجزاؤه، وکأنّـها موجود واحد، وکائن فارد أثبت عملیاً وحدانیة الذات المدبرة لهذا الکون ووحدانیة الإرادة المنظمة، الحاکمة على هذا العالم.
ألیس لو کان یحکم إلهان أو أکثر على هذا الکون لم یکن هذا النظم، ولما کان لهذا التلاحم والترابط وجود ولا أثر ؟
والحق أنّ الرأی الأوّل أفضل وأقوم، لانسجام هذا الرأی مع شهادة الفریقین الآخرین، أعنی: شهادة الملائکة وأُولی العلم، التی یناسب أن تکون شهادتهما قولیة، وحفظ سیاق الآیة یقتضی تفسیر الشهادات الثلاث بمعنى واحد.
_____________________________________ [الصفحة 274] _____________________________________
هذا مع العلم أنّ هذه الآیة لیست هی الآیة الوحیدة التی تخبر عن شهادة اللّه، بل ورد نظیر ذلک فی آیات أُخرى أیضاً، ولا یمکن لأحد حملها على الشهادة العملیة فقط .. وذلک مثل:
(لَکِنِ اللّهُ یَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَیْکَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِکَةُ یَشْهَدُونَ وَکَفَى بِاللّهِ شَهِیداً).(1)
ولأجل ورود مثل هذه الشهادة فی القرآن الکریم (خاصة بالنظر إلى قوله یشهد بما أنزل) ینبغی أن نحمل الشهادة المذکورة فی الآیة المبحوثة على: الشهادة اللفظیة، التی یحکی الوحی الإلهی عنها.
سؤال فی المقام
إنّ الهدف من الشهادة هو أن یتعرف السامع على حقیقة ما، لاعتقاده بعدالة الشاهد وصدقه حتى إذا کان المشهود به من القضایا الاعتقادیة اعتقد به، وإذا کان من الوظائف العملیة أتى به.
ولا شک فی أنّه لا شاهد أعدل من اللّه ولا أصدق منه حدیثاً، فإذا شهد بوحدانیة نفسه، أزالت هذه الشهادة کل شک فی ذلک وکل ریب وتردد.
ولکن من أین یمکن إثبات أنّ هذا القرآن الذی یتضمن شهادة اللّه، هو کلام اللّه وحدیثه وخطابه ووحیه؟!
والجواب: أنّ القرآن أثبت انتسابه إلى اللّه تعالى عن طریق تحدی الناس، وأنّه
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . النساء: 166.
_____________________________________ [الصفحة 275] _____________________________________
لیس من صنع الفکری البشری، وعن طریق عجز الناس عن مواجهة هذا التحدی، والإتیان بمثل القرآن فی جمیع الدهور .
وإذا ثبت کون القرآنوحیاًإلهیاًعن هذا الطریق، لزم قبول کل الشهادات الواردة فیه ـ بشکل مطلق ـ دونما مناقشة أوتردد
***
وأمّا الفریق الثانی من الشهود، أعنی: الملائکة، فهو یسبح للّه باستمرار وعلى الدوام وینزّهه، ویقدّسه عن کلّ عیب ونقص وخاصة عن الشریک.
وقد نقلت شهادة هذا الفریق فی الکتاب العزیز بنحو آخر، إذ یقول القرآن:
(وَالْمَلائِکَةُ یُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ).(1)
***
وأمّا الفریق الثالث من الشهود، أعنی: أُولی العلم، فهم یشهدون بوحدانیة اللّه بالاستلهام من البراهین المتنوعة، کبرهان الفطرة، لأنّ الإنسان یتوجه عند الشدائد، إلى اللّه الواحد دائماً، وهذا هو خیر دلیل على وحدانیته سبحانه .
هذا بالإضافة إلى غیره من الأدلّة العقلیة، وآیات وحدانیة ذاته تعالى، التی تهدیهم إلى هذه الشهادة ، ونحن ـ فی هذا الفصل ـ سنشیر إلى بعض هذه الأدلة العقلیة الدالة على وحدانیة الذات الإلهیة، کما سنورد الدلائل الآفاقیة، والأنفسیة، على وحدانیة خالق الکون فی فصل التوحید فی الخالقیة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الشورى: 5.
_____________________________________ [الصفحة 276] _____________________________________
ولا یفوتنا أن نطلب من القارئ الکریم فی هذا المقام أن یعید مطالعة الآیة المبحوثة ویمعن فیها وفی مفادها ثم یسلم ویخضع أمام منزلها وموحیها، لکی یکون فی عداد الشهود بوحدانیة اللّه، مع الملائکة وأُولی العلم.
قال الزبیر بن العوّام: قلت لأدنونّ هذه العشیة من رسول اللّه ـ صلَّى الله علیه وآله وسلَّم ـ، وهی عشیة عرفة حتى أسمع ما یقوله، فحبست ناقتی بین ناقة رسول اللّه وناقة رجل کانت إلى جنبه فسمعته ـ صلَّى الله علیه وآله وسلَّم ـ
یقول: (شهد اللّه أنّه لا إله إلاّ هو)إلى آخرها، فما زال یردّدها حتى رفع.(1)
والآن حین انتهینا من دراسة الآیة الأُولى، یلزم أن نعطی بعض التوضیحات حول الآیة الثانیة، والثالثة.
ففی الآیة 11 من سورة الشورى جاء قوله سبحانه هکذا:
(لَیْسَ کَمِثْلِهِ شَیءٌ) .
وفی الآیة الرابعة من سورة الإخلاص نقرأ قوله سبحانه :
(وَ لَمْ یَکُنْ لَهُ کُفُواً أَحَدٌ) .
فلماذا لیس للّه مثیل ولا نظیر؟
فهل من غیر الممکن أن یکون له نظیر؟
أم أنّ ذلک ممکن ـ أساساً ـ ولکن لم یکن للّه تعالى نظیر ولا مثیل من باب المصادفة والاتفاق.
إنّ الدلائل العقلیة والقرآنیة تهدینا إلى امتناع مثل هذا الکفو والنظیر ـ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . مجمع البیان: 1 ـ 2/717.
_____________________________________ [الصفحة 277] _____________________________________
أساساً ـ ولذلک یتعین علینا أن نتوقف هنا قلیلاً ونصغی إلى شهادة العقل.
لقد استدل الفلاسفة الإسلامیون على وحدانیة الذات الإلهیة المقدسة من طریقین:
أ. الوجود غیر المتناهی لا یقبل التعدّد.
ب. الوجود المطلق لا یقبل التعدّد.
وسنعمد ـ هنا ـ إلى توضیح البرهان الأوّل فحسب، لکونه ذا جذور قرآنیة.
وأمّا البرهان الثانی فیطلب توضیحه من الکتب الفلسفیة والکلامیة، التی تتحدث عن الصفات الإلهیة.(1)
وإذا ثبتت لنا لا محدودیة وجود اللّه، حینئذ یسهل علینا تصوّر توحیده.
والآن یجب علینا إثبات الأمرین(2) بأوضح دلیل وبرهان.
أ. وجود اللّه غیر متناه
إنّ محدودیة الموجود ملازمة للتلبس بالعدم.
لنفترض کتاباً طبع بحجم خاص ثم لننظر إلى کل طرف من أطرافه الأربعة، فإنّا نرى أنّه ینتهی ـ ولا شک ـ إلى حد معین ینتهی إلیه وجود الکتاب، وحدود حجمه، ولا شیء وراء ذلک.
ولنفترض جبال الهملایا فهی مع عظمتها محدودة أیضاً، ولذلک لا نجد بین
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . شرح المنظومة للحکیم السبزواری: 143، وفی ذلک یقول: صرف الوجود کثرة لم تعرضا لأنّه أمّا التوحد اقتضــــى
2 . أی لا محدودیة اللّه، واستلزام ذلک، لتوحیده تعالى.
_____________________________________ [الصفحة 278] _____________________________________
کل جبلین من جبال الهملایا أی أثر للجبل وذلک دال على أنّ کلاًّ من الجبلین محدود.
من هذا البیان نستنتج أنّ محدودیة أیة حادثة من حیث الزمان أو محدودیة أی جسم من حیث المکان هی أن یکون وجوده مزیجاً بالعدم، وانّ المحدودیة والتلبس بالعدم متلازمان.
ولذلک فإنّ جمیع الظواهر والأجسام المحدودة زماناً ومکاناً مزیجة بالعدم، ویصح لذلک أن نقول فی حقّها بأنّ الحادثة الفلانیة، لم تتحقق فی الزمان الفلانی أو أنّ الجسم الفلانی لا یوجد فی المکان الفلانی.
على هذا الأساس لا یمکن اعتبار ذات اللّه محدودة، لأنّ لازم المحدودیة هو الامتزاج بالعدم، والشیء الموجود الممزوج بالعدم موجود باطل لا یلیق للمقام الربوبی الذی یجب کونه حقاً ثابتاً مائة بالمائة کما هو منطق القرآن الکریم والعقل حول اللّه سبحانه .
(ذلِکَ بأنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ وأنَّ ما یَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الباطِلُ).(1)
ویمکننا أن نستدل لإثبات لا محدودیة الذات الإلهیة بدلیل آخر هو :
عوامل المحدودیة منتفیة فی ذاته
ویقصد من انتفاء عوامل المحدودیة فی ذاته أنّ للمحدودیة موجبات وأسباباً، منها: الزمان والمکان فهما من أسباب محدودیة الظواهر والأجسام.
فالحادثة التی تقع فی برهة خاصة من الزمان حیث إنّ وجودها مزیج بالزمان، فمن الطبیعی أن لا تکون هذه الظاهرة فی الأزمنة الأُخرى.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 .الحج: 62.
_____________________________________ [الصفحة 279] _____________________________________
کما أنّ الجسم الذی یشغل حیزاً ومکاناً معیناً من الطبیعی أن لا یکون فی مکان وحیز آخر، وهذا هو معنى المحدودیة .
فی هذه الصورة لا بد أن یکون وجود اللّه المنزّه عن الزمان و المکان منزّهاً من هذه القیود المحدّدة.
وحیث لا یمکن تصوّر الزمان والمکان فی شأنه تعالى، لزم وصفه سبحانه باللامحدودیة من جانب الزمان والمکان.
وبتعبیر آخر، أنّ الشیء الذی یتصف بالکم والکیف لابدّ و أن یکون محدوداً بحد، إذ لازم اتصاف الشیء بکمیة أو کیفیة معینة، هو عدم اتصافه بکمیة وکیفیة آخرى مضادة.(1)
أمّا عندما یکون الشیء خالیاً وعاریاً عن أی نوع من أنواع الکیفیة والکمیة، بل یکون وجوده أعلى من الاتصاف بهذه الأوصاف فإنّه یکون لا محالة غیر متناه وغیر محدود من هذه الجهات، کما هو واضح وبدیهی.
إلى هنا استطعنا أن نثبت ـ ببیان واضح ـ لا محدودیة الذات الإلهیة، وقد حان الأوان أن نثبت المطلب الثانی، أعنی:
عدم إمکان تعدّد اللامحدود.
ب. اللامحدود لا یتعدّد
هذا أمر یتضح بأدنى تأمل، لأنّنا إذا اعتبرنا اللامحدود متعدداً فإنّنا
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . لأنّ التکیّف والاتصاف بالکیفیات والکمیات والإضافات والانتسابات توجب للأشیاء المحدودیة بالحدود، والموجود العاری عن هذه القیود لا یتحدد بأی نوع من المحدودیة، واللّه سبحانه منزَّه عن الکیف والکم، منزَّه عن الانتساب والإضافة.
_____________________________________ [الصفحة 280] _____________________________________
نضطر حینئذ ـ لإثبات الاثنینیة ـ إلى أن نعتبر کل واحد منهما متناهیاً من جهة أو جهات، لیمکن أن نقول: هذا غیر هذا.
لأنّ ذینک الشیئین إذا کان أحدهما عین الآخر من کل الجهات لم یصدق ـ حینئذ ـ کونهما اثنین، أی لم تصح الاثنینیة.
وبعبارة أُخرى: انّ نتیجة قولنا: هذا غیر ذاک. هی أنّ وجود کل واحد منهما خارج عن وجود الآخر ، وإنّ الثانی یوجد حیث لا یوجد الأوّل ویوجد الأوّل حیث لا یوجد الثانی، وهذه هی المحدودیة و التناهی، فی حین أنّنا أثبتنا فی الأصل الأوّل: عدم محدودیة اللّه وعدم تناهیه.
ومن باب المثال نقول: إنّما یمکن افتراض خطین غیر متناهیین فی الطول إذا کانا متوازیین
(أی کانا بحیث لا یشغل الأوّل مکان الثانی)، ففی مثل هذه الصورة فقط یمکن افتراض اللانهائیة واللامحدودیة فی کل من الخطین.
أمّا عندما نفترض جسماً غیر متناه فی الکبر والسعة فی جمیع أبعاده فإنّه لا یمکن ـ حینئذ ـ أن نفترض وجود جسم آخر غیر متناه فی الکبر والسعة فی جمیع أبعاده على غرار الجسم الأوّل.
لأنّ المفروض أنّ الجسم الأوّل لکونه غیر محدود فی الکبر والسعة، شغل کل الفضاء، وبهذا لم یترک أی مجال لجسم آخر، وإلاّ لعاد الجسم الأوّل محدوداً وهو خلاف ما افترضناه.
وحینئذ إمّا أن یکون الجسم الثانی عین الجسم الأوّل قطعاً، وإمّا أن یکون الجسم الأوّل محدوداً من جهة أو من جهات.
وهکذا الأمر فی الحقیقة الإلهیة التی لا حد لها ولا نهایة.
***
_____________________________________ [الصفحة 281] _____________________________________
من هذین البیانین اتضح مقصود القرآن الکریم من قوله:
(لیس کمثله شیء) .
وقوله:
(ولم یکن له کفواً أحد) .
کما اتضح أیضاً لماذا لا تکون الوحدة التی نصف بها الذات الإلهیة، وحدة عددیة، لأنّ مثل هذه الوحدة (أی العددیة) إنّما تتصور إذا أمکن تصور فردین أو أفراد للشیء، فی حین لا یمکن تصور التعدّد فی مورد اللامحدود، لأنّ کل واحد من الفردین عند افتراض التعدّد، غیر الآخر، ومنتهى حدود الآخر، ولهذا یکون أی واحد منهما غیر محدود، وغیر متناه فی حین أنّنا افترضنا الأوّل غیر محدود، وغیر متناه.
سؤال فی المقام
نرى فی الکتاب العزیز مجیء وصف القهار عقیب وصف اللّه بـ الواحد مثل قوله:
(وَمَا مِنْ إِله إِلاَّ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ).(1)
(سُبْحَانَهُ هُوَ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ).(2)
(وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ).(3)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . ص: 65.
2 . الزمر: 4.
3 . الرعد: 16.
_____________________________________ [الصفحة 282] _____________________________________
وهنا ینطرح سؤال عن وجه الارتباط بین وصفی الوحدانیة والقهاریة؟
الجواب:
الحق أنّ القهاریة دلیل على وحدانیة اللّه، لأنّ الشیء المحدود المتناهی مقهور للحدود والقیود الحاکمة علیه، وعلامة المقهوریة هی أن یصح سلب أُمور منه، مثلاً یصح أن یقال فی شأنه:
هذا الجسم لیس هناک أو أنّه لم یکن فی ذلک الوقت.
وعلى هذا فإنّ المقهوریة هی سبب المحدودیة.
وأمّا إذا کان الشیء قاهراً من کل الجهات، فلا تتحکم فیه الحدود قطعاً، واللامحدودیة تستلزم الوحدانیة والتفرّد، ولأجل ذلک قورنت صفة الوحدانیة بوصف القاهریة، وقال: ( الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) .
وفی الحقیقة یمکن اعتبار هذا النوع من الوصف (أی الوصف بالقهاریة) إشارة إلى ذلک الدلیل العقلی الذی ذکرناه فی هذه الإجابة.
وهکذا یتضح وجه الارتباط بین وصفی الوحدانیة و القهّاریة اللّذین اجتمعا فی بعض الآیات القرآنیة .
سؤال آخر:
إذا کان وجود اللّه منزّهاً عن الوحدة العددیة، ففی هذه الصورة ماذا یکون معنى الآیات التی تصف اللّه بأنّه الواحد، والواحد، کما نعلم، هو ما یقابل الاثنین والثلاث إلى غیرهما من الأعداد ، کقوله سبحانه :
_____________________________________ [الصفحة 283] _____________________________________
(وَإِلهُکُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِیمُ)(1)
(وَإِلَهُنَا وَإِلَهُکُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).(2)
خاصة إذا عرفنا بأنّ هذه الآیات نزلت فی مقام الرد على ما کان یذهب إلیه المشرکون من الاعتقاد بـ تعدّد الآلهة ، والذین کانوا یقولون:
(أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَیْءٌ عُجَابٌ).(3)
الجواب: انّ الهدف من هذه الآیات ـ فی الحقیقة ـ هو استنکار ما کان یعتقده المشرکون بأنّ لکل قبیلة وقوم إلهاً خاصاً بها کانوا یعبدونه ولا یعتقدون بآلهة الآخرین.
فالمقصود من هذه الآیات هو إبطال إلوهیة هذه الأوثان والآلهة المدّعاة وتوجیه الأذهان إلى اللّه الواحد بدل تلک الآلهة المتعددة.
وأمّا أنّ وحدته کیف؟ وعلى أی وجه؟ ومن أی نوع من أنواع الوحدات الأربع تکون هذه الوحدة؟ فلیست الآیات المذکورة ناظرة إلیه، بل یجب استفادة هذا الأمر من الإشارات التی وردت فی القرآن إلى هذه الوحدة فی مواضع أُخرى .
أحادیث أئمّة أهل البیت ـ علیهم السَّلام ـ حول وحدانیة اللّه
لقد ورد هذان الموضوعان، أعنی: عدم تناهی ذاته سبحانه وعدم الوحدة العددیة، المذکوران فی البرهان العقلی فی أحادیث أئمّة أهل البیت ـ علیهم السَّلام ـ أیضاً فهی
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . البقرة: 163.
2 . العنکبوت: 46.
3 . ص: 5.
_____________________________________ [الصفحة 284] _____________________________________
صرّحت بنفی المحدودیة والتناهی فی الذات الإلهیة، و صرّحت أیضاً بعدم صدق الوحدة العددیة فی حقّه سبحانه .
فقد قال الإمام الثامن علی بن موسى الرضا ـ علیه السَّلام ـ فی خطبة ألقاها على جماعة من العلماء:
لیس له حد ینتهی إلى حده، ولا له مثل فیعرف بمثله(1).
ومما یستحق الإمعان والدقة أنّ الإمام ـ علیه السَّلام ـ ـ بعد نفیه الحد عن اللّه ـ نفى المثیل له سبحانه لارتباط اللامحدودیة وملازمتها لنفی المثیل على النحو الذی مر بیانه.
ومن ذلک ما قاله الإمام علی ـ علیه السَّلام ـ فی وقعة الجمل عندما کان بریق السیوف یشد إلیها العیون، وکانت ضربات الطرفین تنتزع النفوس والأرواح التفت إلیه رجل من أهل العراق وسأله عن کیفیة وحدانیة اللّه، فلامه أصحاب الإمام وحملوا علیه قائلین له: یا أعرابی أما ترى ما فیه أمیر المؤمنین من تقسم القلب (أی تشتت الفکر واضطراب البال)؟!
فقال الإمام أمیر المؤمنین ـ علیه السَّلام ـ :
دعوه فإنّ الذی یریده الأعرابی هو الذی نریده من القوم.
ثم قال ـ شارحاً ما سأل عنه الأعرابی ـ :
وقول القائل: واحد یقصد به باب الأعداد، فهذا ما لا یجوز، لأنّ ما لا ثانی له لا یدخل فی باب الأعداد.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . توحید الصدوق: 33.
_____________________________________ [الصفحة 285] _____________________________________
ثم أضاف ـ علیه السَّلام ـ قائلاً:
هو (أی اللّه) واحد لیس له فی الأشیاء شبیه، کذلک ربنا(1).
وهکذا یصرح الإمام بأنّ الواحدیة المذکورة هنا تعنى أنّه لا عدیل له لا أنّه واحد على غرار قولنا: هذا قلم واحد الذی یکون مظنة لإمکان الاثنینیة، إذ فی هذه الصورة یمکن أن یکون ذات مصادیق متعددة و أفراد متکثرة، ولکنه انحصر فی اللّه، وهذا خلف، وغیر صحیح.
الآلهة الثلاثة أو خرافة التثلیث
بعد أن درسنا ـ بالتفصیل ـ الآیات المرتبطة بتوحید اللّه ، یلزم أن نعرف نظر القرآن فی حقیقة التثلیث.
الحقیقة أنّه قلّما نجد عقیدة فی العالم تعانی من الإبهام والغموض کما تعانی منها المسیحیة.
کما أنّه قلّما توجد مسألة فی غایة الإبهام واللامعقولیة کما تکون علیه مسألة التثلیث فی تلک العقیدة.
لقد أدّى تقادم الزمن وتطور الحیاة والتکامل الفکری وتضاؤل العصبیات المذهبیة والتحولات الفکریة، أدّت کل هذه الأُمور إلى ظهور طبقة جدیدة بین مفکری المسیحیة وعلمائها، کما تسببت فی وجود فجوة عمیقة بین العلم والمنطق من جانب، وبین معتقداتهم القدیمة من جانب آخر بشکل لا یمکن ملؤها بأی نحو، وأی شیء.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . توحید الصدوق: 83.
_____________________________________ [الصفحة 286] _____________________________________
غیر أنّ هذه الطبقة الجدیدة من العلماء المسیحیین اتخذت لملء هذه الفجوة الفکریة وهذا الخلاء العقیدی طریقین:
الطریق الأوّل: محاولة البعض منهم لتأویل تلک المعتقدات المسیحیة الباطلة المرفوضة حتى فی المنطق البشری الحاضر، وإعطاء هذه الأفکار الخرافیة صبغة منطقیة عصریة کما نشاهد ذلک فی تأویلهم لمسألة التثلیث.
الطریق الثانی: هو اجتناب التأویل واتباع قاعدة أتفه وهی قولهم: بأنّ طریق العلم یختلف عن طریق الدین وأنّه من الممکن أن یقول الدین بشیء أو یرتضی أصلاً لا یصدقه العلم فیه. وإنّه لیس من الضروری أن یطابق الدین مع العلم دائماً.
وبالتالی قبول خرافة الدین یخالف العلم.
ولکن هؤلاء غفلوا عن نقطة هامة جداً وهی أنّ القول بخرافة: مضادة الدین للعلم ستؤدی فی الم آل إلى إبطال أصل الدین، لأنّ اعتقاد البشر بأی دین من الأدیان یتوقف على الاستدلالات العقلیة والعلمیة، وفی هذه الصورة، نعنی: مضادة العلم للدین، کیف یمکن إثبات صحة الدین بالاستناد إلى الأُسس العقلیة والعلمیة والحال أنّ بین الدین والعلم مباینة ـ حسب هذه النظریة ـ أو أنّ فی الدین ما ربما یخالف العلم والعقل؟!!
إنّ البحث فی العقیدة النصرانیة حول سیدنا المسیح یترکّز فی مسألتین:
1. التثلیث وانّ اللّه سبحانه هو ثالث ثلاثة.
2. کونه سبحانه اتخذ ولداً.
والمسألتان مفترقتان من حیث الفکرة وإقامة البرهان، ولأجل ذلک نعقد لکل واحدة منهما عنواناً خاصاً.
_____________________________________ [الصفحة 287] _____________________________________
کیف تسربت خرافة التثلیث إلى النصرانیة؟
ینقل الأُستاذ فرید وجدی نقلاً عن دائرة معارف لاروس:
أنّ تلامیذ المسیح الأوّلیّین الذین عرفوا شخصه، وسمعوا قوله، کانوا أبعد الناس عن اعتقاد أنّه أحد الأرکان الثلاثة المکونة لذات الخالق وما کان بطرس أحد حوارییه، یعتبره إلاّ رجلاً موحى إلیه من عند اللّه، أمّا بولسن فإنّه خالف عقیدة التلامذة الأقربین لعیسى وقال: إنّ المسیح أرقى من إنسان وهو نموذج إنسان جدید أی عقل سام متولد من اللّه(1).
إنّ التاریخ البشری یرینا أنّه طالما عمد بعض أتباع الأنبیاء ـ بعد وفاة الأنبیاء أو خلال غیابهم ـ إلى الشرک والوثنیة ـ تحت تأثیر المضلّین ـ وبذلک کانوا ینحرفون عن جادة التوحید الذی کان الهدف الأساسی والغایة القصوى لأنبیاء اللّه ورسله.
إنّ عبادة بنی إسرائیل للعجل وترک التوحید الذی هداهم النبی العظیم موسى له، لمن أفضل النماذج لما ذکرناه وهو ما أثبته القرآن والتاریخ للأجیال القادمة، وعلى هذا فلا داعی للعجب إذا رأینا تسرب خرافة التثلیث إلى العقائد النصرانیة بعد ذهاب السید المسیح ـ علیه السَّلام ـ وغیابه عن أتباعه.
إنّ تقادم الزمن قد رسخ موضوع التثلیث وعمّقه فی قلوب النصارى وعقولهم بحیث لم یستطع حتى أکبر مصلح مسیحی ونعنی لوثر الذی هذّب العقائد المسیحیة من کثیر من الأساطیر والخرافات وأسس المذهب البروتستانتی، لم یستطع لوثر هذا من التخلّص من مخالب هذه الخرافة وأحابیلها.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . دائرة معارف القرن العشرین مادة ثالوث.
_____________________________________ [الصفحة 288] _____________________________________
رأی القرآن فی التثلیث [288-300]التوحید الاستدلالی ـ البرهان الثالث عشر [212-225]
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma