9 هل طلب الإشفاء والشفاعة والإعانة [550-584]

SiteTitle

صفحه کاربران ویژه - خروج
ورود کاربران ورود کاربران

LoginToSite

SecurityWord:

Username:

Password:

LoginComment LoginComment2 LoginComment3 .
SortBy
 
مفاهیم القرآن
10 عقائد الوثنیین فی العصر الجاهلی [585-597] خاتمة المطاف [536-549]
ودعوة الصالحین شرک؟
1. هل طلب الإشفاء من غیره سبحانه شرک؟
لا شک فی أنّ هذا الکون عالم منظم، فجمیع الظواهر الکونیة فیه تنبع من الأسباب والعلل التی ـ هی بدورها ـ مخلوقة للّه تعالى، ومعلولة له سبحانه .
وحیث إنّ هذه العلل والأسباب لا تملک من لدن نفسها أی کمال ذاتی، بل وجدت بمشیئة اللّه، وصارت ذات أثر بإرادته سبحانه لذلک صح أن ینسب اللّه آثارها وأفعالها إلى نفسه، کما یصح أن تنسب إلى عللها.
هذا ما أوضحناه فی ما سبق أتم إیضاح وبذلک یظهر أنّ الشفاء تارة ینسب إلى اللّه سبحانه وأُخرى إلى علله القریبة المؤثرة بإذنه، وبذلک یرتفع التعارض الابتدائی بین الآیات، فبینما یخص القرآن الإشفاء باللّه سبحانه ویقول:
(وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ یَشْفِینِ).(1)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الشعراء: 80 .
_____________________________________ [الصفحة 551] _____________________________________
وبینما ینسب الشفاء إلى غیره کالقرآن والعسل، والجواب انّه لیس هنا فی الحقیقة إلاّ فعل واحد وهو الإشفاء ینسب تارة إلى اللّه على وجه التسبیب، وإلى غیره من الأسباب العادیة کالعسل والأدویة وغیرها على وجه المباشرة.
فهو الذی وهب أنبیاءه وأولیاءه القدرة على الإشفاء والمعافاة والإبراء، وهو الذی أذن لهم بأن یستخدموا هذه القدرة الموهوبة ضمن شروط خاصة.
فهذا القرآن إذ یصف اللّه تعالى بأنّه هو الشافی الحقیقی (کما فی آیة 80 الشعراء) یصف العسل بأنّه الشافی أیضاً عندما یقول:
(فِیهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ).(1)
أو ینسب الشفاء إلى القرآن عندما یقول:
(وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنینَ)(2).
وطریق الجمع الذی ذکرناه وارد هنا وجار فی هذا المقام کذلک، وهو بأن نقول:
إنّ الإبراء والإشفاء ـ على نحو الاستقلال ـ من فعل اللّه لا غیر .
وعلى نحو التبعیة واللااستقلال من فعل هذه الأُمور والأسباب، فهو الذی خلقها، وأودع فیها ما أودع من الآثار، فهی تعمل بإذنه وتؤثر بمشیئته.
ففی هذه الصورة إذا طلب أحد الشفاء من أولیاء اللّه وهو ملتفت إلى هذا الأصل(3) کان عمله جائزاً ومشروعاً وموافقاً للتوحید المطلوب تماماً.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . النحل: 69 .
2 . الإسراء: 82.
3 . نعنی کونهم یؤثرون بإذن اللّه وقدرته ومشیئته .
_____________________________________ [الصفحة 552] _____________________________________
لأنّ الهدف من طلب الشفاء من الأولیاء هو تماماً مثل الهدف من طلب الشفاء من العسل والعقاقیر الطبیة، غایة ما فی الباب أنّ العسل والعقاقیر تعطی آثارها بلا إرادة وإدراک منها، بینما یفعل ما یفعله النبیُّ والولی عن إرادة واختیار، فلا یکون الهدف من الاستشفاء من الولی إلاّ مطالبته بأن یستخدم تلک القدرة الموهوبة له ویشفی المریض بإذن اللّه، کما کان یفعل السید المسیح ـ علیه السَّلام ـ ، إذ کان یبرئُ من استعصى علاجه من الأمراض بإذن اللّه والقدرة الموهوبة له من اللّه.
وواضح أنّ مثل هذا العمل لا یعد شرکاً، إذ لا ینطبق على ذلک معاییر الشرک، أو قل المعیار الواحد الحقیقی.
نعم یمکن المناقشة فی أنّهم هل یقدرون على ذلک أو لا؟ وهل أُعطیت لهم تلک المقدرة أو لا؟ غیر أنّ البحث مرکز على کونه طلباً توحیدیاً أو غیر توحیدی.
ومما یوضح ذلک أنّ الفراعنة کانوا یطلبون من موسى کشف الرجز، کما فی قوله سبحانه قالوا:
(یَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّکَ بِمَا عَهِدَ عِندَکَ لَئِنْ کَشَفْتَ عَنَّا الْرِّجْزَ لَنُؤْمِننَّ لَکَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَکَ بَنِی إِسْرَائِیلَ).(1)
ولا نرید أن نستدل بطلب فرعون أو قومه، بل الاستدلال إنّما هو بسکوت موسى أمام مثل هذا الطلب.
2. هل طلب الشفاعة من غیره سبحانه شرک؟
لا مریة فی أنّ الشفاعة حق خاص باللّه سبحانه ، فالآیات القرآنیة ـ مضافة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الأعراف: 134 .
_____________________________________ [الصفحة 553] _____________________________________
إلى البراهین العقلیة ـ تدل على ذلک، مثل آیة:
(قُلْ للّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِیعاً).(1)
إلاّ أنّ فی جانب ذلک دلت آیات کثیرة أُخرى على أنّ اللّه أذن لفریق من عباده أن یستخدموا هذا الحق، ویشفعوا ـ فی ظروف وضمن شروط خاصة ـ حتى أنّ بعض هذه الآیات صرحت بخصوصیات وأسماء طائفة من هؤلاء الشفعاء، کقوله تعالى:
(وَکَمْ مِنْ مَلَک فِی السَّموَاتِ لا تُغْنِی شَفَاعَتُهُمْ شَیْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ یَأْذَنَ اللّهُ لِمَنْ یَشَاءُ وَیَرْضَى).(2)
کما أنّ القرآن أثبت لنبیِّ الإسلام المقام المحمود، إذ یقول:
(عَسَى أَنْ یَبْعَثَکَ رَبُّکَ مَقَاماً مَحْمُوداً).(3)
وقد قال المفسرون: إنّ المقصود بالمقام المحمود هو: مقام الشفاعة، بحکم الأحادیث المتضافرة التی وردت فی هذا الشأن.
کل هذا مما اتفق علیه المسلمون، إنّما الکلام فی أنّ طلب الشفاعة ممن أُعطی له حق الشفاعة کأن یقول: یا رسول اللّه اشفع لنا هل هو شرک أو لا ؟
ولیس البحث فی المقام ـ کما ألمعنا إلى ذلک غیر مرّة ـ فی کون هذا الطلب مجدیاً أو لا، إنّما الکلام فی أنّ هذا الطلب هل هو عبادة أو لا ؟
فنقول: قد ظهر الجواب مما أوضحناه فی الأبحاث السابقة، فلو اعتقدنا بأنّ من نطلب منهم الشفاعة، لهم أن یشفعوا لمن أرادوا ومتى أرادوا وکیفما ارتأوا، دون
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الزمر: 44 .
2 . النجم: 26 .
3 . الإسراء: 79 .
_____________________________________ [الصفحة 554] _____________________________________
رجوع إلى الإذن الإلهی أو حاجة إلى ذلک، فإنّ من المحتّم أنّ هذا الطلب والاستشفاع عبادة وإنّ الطالب یکون مشرکاً حائداً عن طریق التوحید، لأنّه طلب الفعل الإلهی وما هو من شؤونه من غیره.
وأمّا لو استشفعنا بأحد هؤلاء الشفعاء ونحن نعتقد بأنّه محدود مخلوق للّه لا یمکنه الشفاعة لأحد إلاّ بإذنه، فهذا الطلب لا یختلف عن طلب الأمر العادی ماهیة، ولا یکون خارجاً عن نطاق التوحید .
وإنّ تصوّر أحد أنّ هذا العمل، أعنی: طلب الشفاعة من أولیاء اللّه، یشبه ـ فی ظاهره ـ عمل المشرکین، واستشفاعهم بأصنامهم، فهو تصوّر باطل بعید عن الحقیقة.
لأنّ التشابه الظاهری لا یکون أبداً معیاراً للحکم، بل المعیار الحقیقی للحکم إنّما هو: قصد الطالب، وکیفیة اعتقاده فی حق الشافع، ومن الواضح جداً أنّ المعیار هو النیّات والضمائر، لا الأشکال والظواهر، هذا مع أنّ الفرق بین العملین واضح من وجوه:
أوّلاً: أنّه لامریة فی أنّ اعتقاد الموحّد فی حق أولیاء اللّه یختلف ـ تماماً ـ عن اعتقاد المشرک فی حق الأصنام.
فإنّ الأصنام والأوثان کانت ـ فی اعتقاد المشرکین ـ آلهة صغاراً تملک شیئاً من شؤون المقام الإلوهی من الشفاعة والمغفرة، بخلاف أهل التوحید فإنّهم یعتقدون بأنّ من یستشفعون بهم: عباد مکرمون لا یعصون اللّه وهم بأمره یعملون، وأنّهم لا یملکون من الشفاعة شیئاً، ولا یشفعون إلاّ إذا أذن اللّه لهم أن یشفعوا فی حق من ارتضاه.
_____________________________________ [الصفحة 555] _____________________________________
وبالجملة فإنّ تحقق الشفاعة منهم یحتاج إلى وجود أمرین:
1. أن یکون الشفیع مأذوناً فی الشفاعة .
2. أن یکون المشفوع له مرضیاً عند اللّه.
فلو قال مسلم لصالح من الصالحین: (اشفع لی عند اللّه)، فإنّه لا یفعل ذلک إلاّ مع التوجّه إلى کونه مشروطاً بالشرطین المذکورین.
ثانیاً: أنّ المشرکین کانوا یعبدون الأصنام مضافاً إلى استشفاعهم بها، بحیث کانوا یجعلون استجابة دعوتهم واستشفاعهم عوضاً عما کانوا یقومون به من عبادة لها، بخلاف أهل التوحید فإنّهم لا یعبدون غیر اللّه طرفة عین أبداً.
وأمّا استشفاعهم بأُولئک الشفعاء فلیس إلاّ بمعنى الاستفادة من المقام المحمود الذی أعطاه اللّه سبحانه لنبیّه فی المورد الذی یأذن فیه اللّه، فقیاس استشفاع المؤمنین بما یفعله المشرکون لیس إلاّ مغالطة. وقد مر غیر مرّة أنّه لو کان الملاک التشابه الظاهری للزم أن نعتبر الطواف بالکعبة المشرفة، واستلام الحجر، والسعی بین الصفا والمروة، موجباً للشرک وعبادة للحجر .
الوهابیون وطلب الشفاعة
إنّ الوهابیّین یعتبرون مطلق طلب الشفاعة شرکاً وعبادة، ویظنون أنّ القرآن لم یصف الوثنیین بالشرک إلاّ لطلبهم الشفاعة من أصنامهم کما یقول سبحانه : (وَیَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لا یَضُرُّهُمْ وَ لاَ یَنْفَعُهُمْ وَیَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَاللّهِ).(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . یونس: 18 .
_____________________________________ [الصفحة 556] _____________________________________
وعلى هذا فالشفاعة وإن کانت حقاً ثابتاً للشفعاء الحقیقیین، إلاّ أنّه لا یجوز طلبه منهم، لأنّه عبادة لهم، قال محمد بن عبد الوهاب:
إن قال قائل: الصالحون لیس لهم من الأمر شیء ولکن أقصدهم وأرجو من اللّه شفاعتهم، فالجواب أنّ هذا قول الکفار سواء بسواء، واقرأ علیهم قوله تعالى: (وَالَّذِینَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِیَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِیُقَرِّبُونَا إِلَى اللّهِ زُلْفَى) (1)
وقوله: (وَیَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لا یَضُرُّهُمْ ولا یَنْفَعُهُمْ وَیَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّهِ)(2).(3)
وإن قال: إنّ النبی أُعطی الشفاعة، وأنا أطلبه ممّن أعطاه اللّه، فالجواب أنّ اللّه أعطاه الشفاعة ونهاک عن طلبها منه، فقال تعالى: (فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَدَاً)(4) وأیضاً فإنّ الشفاعة أُعطیها غیر النبی فصح أنّ الملائکة یشفعون والأفراد یشفعون والأولیاء یشفعون، أتقول إنّ اللّه أعطاهم الشفاعة فأطلبها منهم؟ فإن قلت هذا رجعت إلى عبادة الصالحین التی ذکرها اللّه فی کتابه.(5)
استدل ابن عبد الوهاب على حرمة طلب الشفاعة بآیات ثلاث:
الأُولى: قوله سبحانه :(ویعبدون من دون اللّه ما لا یضرهم ولا ینفعهم ویقولون هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه) إذ قال بأنّ عبادة المشرکین للأوثان کانت متحققة بطلب الشفاعة منهم لا بأمر آخر .
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الزمر: 3 .
2 . یونس: 18.
3 . کشف الشبهات: 7 ـ 9 طبعة القاهرة .
4 .الجن: 18.
5 . کشف الشبهات: 7 ـ 9 طبعة القاهرة .
_____________________________________ [الصفحة 557] _____________________________________
الثانیة: قوله سبحانه : (وَالَّذِینَ اتّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِیَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِیُقَرِّبُونَا إِلَى اللّهِ زُلْفَى)(1) قائلاً بأنّ عبادة المشرکین للأصنام کانت متحققة بطلب شفاعتهم منها.
الثالثة: قوله سبحانه : (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً ).(2)
ولابد من البحث حول الآیات التی استدل بها القائل على أنّ طلب الشفاعة ممّن له حق الشفاعة عبادة له فنقول:
أمّا الاستدلال بالآیة الأُولى فالإجابة عنه بوجهین:
1. لیس فی قوله سبحانه : (ویعبدون من دون اللّه ما لا یضرهم) إلى آخر الآیة، أیّة دلالة على مقصودهم، وإذا ما رأینا القرآن یصف هؤلاء بالشرک فلیس ذلک لأجل استشفاعهم بالأوثان، بل لأجل أنّهم کانوا یعبدونها لتشفع لهم بالم آل.
وحیث إنّ هذه الأصنام لم تکن قادرة على تلبیة حاجات الوثنیین، لذلک کان عملهم عملاً سفهیاً، لا أنّه کان شرکاً.
فالإمعان فی معنى الآیة وملاحظة أنّ هؤلاء المشرکین کانوا یقومون بعملین: (العبادة، وطلب الشفاعة کما یدل علیه قوله: (ویعبدون) و (ویقولون) ) یکشف عن أنّ علّة اتّصافهم بالشرک واستحقاقهم لهذا الوصف کانت عبادتهم لتلک الأصنام ولیس استشفاعهم بها، کما لا یخفى.
ولو کان الاستشفاع بالأصنام عبادة لها فی الحقیقة لما کان هناک مبرر للإتیان بجملة أُخرى، أعنی: قوله ویقولون هؤلاء شفعاؤنا بعد قوله ویعبدون إذ کان حینئذ تکراراً.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الزمر: 3 .
2 . الجن: 18 .
_____________________________________ [الصفحة 558] _____________________________________
إنّ عطف الجملة الثانیة على الأُولى یدل على المغایرة بینهما، إذن لا دلالة لهذه الآیة على أنّ الاستشفاع بالأصنام کان عبادة، فضلاً عن کون: الاستشفاع بالأولیاء المقربین عبادة لهم، نعم قد ثبت أنّ الاستشفاع بالأصنام کان عبادة لهم بأدلّة أُخر .
2. أنّ هناک فرقاً بین الاستشفاعین، فالوثنی یعتبر الصنم ربّاً مالکاً للشفاعة یمکنه أن یشفع لمن یرید وکیفما یرید، والاستشفاع بهذه العقیدة شرک، ولأجل ذلک یقول سبحانه نقداً لهذه العقیدة: (قُلْ للّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِیعاً)(1) والحال أنّ المسلمین لا یعتقدون بأنّ أولیاءهم یملکون هذا المقام، فهم یتلون آناء اللیل وأطراف النهار قوله سبحانه :
(مَنْ ذَا الَّذِی یَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ)(2).
ومع هذا التفاوت البیّن، والفارق الواضح، کیف یصح قیاس هذا بذلک؟
والدلیل على أنّ المشرکین کانوا معتقدین بکون أصنامهم مالکة للشفاعة أمران:
الأوّل: تأکید القرآن فی آیاته بأنّ شفاعة الشافع مشروطة بإذنه سبحانه و ارتضائه.
قال سبحانه : (مَنْ ذَا الَّذِی یَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ)(3).
وقال: (مَا مِنْ شَفِیع إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ)(4).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الزمر: 44 .
2 . البقرة: 255 .
3 . البقرة: 255 .
4 . یونس: 3 .
_____________________________________ [الصفحة 559] _____________________________________
وقال: (یَوْمَئِذ لاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ).(1).
وقال: (لا تُغْنِی شَفَاعَتُهُمْ شَیْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ یَأذَنَ اللّهُ لِمَنْ یَشَاءُ).(2).
وقال: (وَلا یَشْفَعُونَ إلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى).(3).
الثانی: تأکید القرآن على أنّ الأصنام لا تملک الشفاعة، بل هی لمن یملکها:
قال سبحانه : (وَلا یَمْلِکُ الَّذِینَ یَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ).(4).
وقال سبحانه : (لاَ یَمْلِکُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً).(5).
فالشفاعة محض حق لمالکها، ولیس هو إلاّ اللّه، کما تصرّح بذلک الآیات السابقة، وأمّا المشرکون فکانوا یعتقدون أنّ أصنامهم تملک هذا الحق، ولذلک کانوا یعبدونها أوّلاً، ویطلبون منها الشفاعة عند اللّه ثانیاً.
نعم: انّ الظاهر من قوله سبحانه : (لاَ یَمْلِکُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً).(6).
وقوله سبحانه : (وَلا یَمْلِکُ الَّذِینَ یَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ)(7) هو: انّ المتخذین للعهد والشاهدین بالحق یملکون الشفاعة کما هو مقتضى الاستثناء.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . طه: 109 .
2 . النجم: 26 .
3 . الأنبیاء: 28 .
4 . الزخرف: 86 .
5 . مریم: 87 .
6 . مریم: 87 .
7 . الزخرف: 86 .
_____________________________________ [الصفحة 560] _____________________________________
لکن المراد من المالکیة فی هاتین الآیتین هو: المأذونیة بقرینة سائر الآیات، لا المالکیة بمعنى التفویض، وإلاّ لزم الاختلاف والتعارض بین مفاد الآیات، وما ورد فی السیر والتواریخ من أنّ المشرکین کانوا یقولون عند الإحرام والطواف:
(الا شریک هو لک تملکه وما ملک)(1) یحتمل الأمرین.
وبذلک یظهر ضعف الاستدلال بالآیة الثانیة: (ما نعبدهم إلاّ لیقربونا...)إذ حمل ابن عبد الوهاب قوله سبحانه : (ما نعبدهم) على طلب الشفاعة، مع أنّ الآیة المتقدّمة صریحة فی مغایرة العبادة لطلب الشفاعة.
نعم إنّما یکون عبادة إذا اتخذ المستشفع المدعو إلهاً، أو من صغار الآلهة ـ کما تقدم ـ .
وأمّا ما اعترف به ابن عبد الوهاب (ضمن کلامه المنقول سلفاً) من أنّ اللّه أعطى الشفاعة لنبیّه ولکنَّه تعالى نهى الناس عن طلبها منه، فغریب، إذ لا آیة ولا سنّة تدل على النهی عن طلبها، مضافاً إلى غرابة هذا النهی من الناحیة العقلیة، إذ مثله أن یُعطی للسقّاء ماء وینهى الناس عن طلب السقی منه، أو یُعطی الکوثر لنبیّه وینهى الأُمّة عن طلبه.
وأمّا قوله: (فلا تدعوا مع اللّهِ أحَدَاً) وهی ثالثة الآیات التی استدل بها ابن عبد الوهاب فسیوافیک مفادها عن قریب حیث نبیّن ـ هناک ـ انّ المراد من الدعوة فی الآیة المذکورة هو: العبادة، فیکون معنى: فلا تدعوا هو: فلا تعبدوا مع اللّه أحداً، فالحرام المنهی عنه عبادة غیر اللّه، لا مطلق دعوة غیر اللّه، ولیس طلب الشفاعة إلاّ طلب الدعاء من الغیر لا عبادة الغیر، وبین الأمرین بون شاسع.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الملل والنحل: 2/255 .
_____________________________________ [الصفحة 561] _____________________________________
ومن ذلک یظهر ضعف دلیل رابع لمحمد بن عبد الوهاب فی کشف الشبهات، ما حاصله:
إنّ الطلب من الشفیع ینافی الإخلاص فی التوحید الواجب على العباد فی قوله: (مُخْلِصینَ لَهُ الدین) (1).
إنّ دعوة الشفیع ـ بعد ثبوت الإذن له والرضا من اللّه ـ لیست عبادة للشفیع حتى تنافی إخلاص العبادة للّه سبحانه، بل هو طلب الدعاء منه، وإنّما یشترط الإخلاص فی العبادة، لا فی طلب الدعاء من الغیر، کما لا تنافی دعوة اللّه ولا تنفک عنها، إذ الشفاعة من الشفع، وطلب الشفاعة من الشفیع بمعنى أنّ المستشفع یدعو الشفیع لأن ینضم إلیه، ویجتمعا ویدعوا اللّه سبحانه ـ معاً ـ فدعوة المستشفع للشافع لیس إلاّ دعوة الثانی إلى أن یدعو اللّه لا أکثر، فأیُّ ضیر فی هذا یا ترى؟!
ومن العجب تفسیر طلب الشفاعة من النبی وغیره بأنّه دعاء للنبی مع اللّه کما فی أسئلة الشیخ ابن بلیهد: قاضی القضاة عن علماء المدینة(2) حیث قال:
وما یفعل الجهّال عند هذه الضرائح من التمسّح بها ودعائها مع اللّه.
ولا یخفى ما فی کلامه من ضعف:
أمّا أوّلاً: فإنّ هؤلاء المتوسلین عند الضرائح لا یشرکون أحداً فی الدعاء (الذی هو مخ العبادة) ولا یدعون إلاّ اللّه الواحد القهّار، وإنّما یطلبون من أولیائهم أن یضموا دعاءهم إلى دعاء المتوسلین، فیشترکوا معهم فی دعاء اللّه
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . کشف الشبهات: 8 .
2 . نقلت جریدة أُم القرى فی عددها 69 المؤرخ 17 شوال عام 1344هـ کل نص هذه الأسئلة والأجوبة.
_____________________________________ [الصفحة 562] _____________________________________
لنجاح حاجتهم، ولولا ذلک لما کان لطلب الشفاعة معنى، فإنّ الشفاعة مأخوذة من الشفع ـ کما قلنا ـ الذی هو ضد الوتر، فهو یطلب من ولیّه أن ینضم إلیه فی الدعاء ویجتمع معه فی العمل، فأین ذلک من تشریک غیر اللّه معه فی الدعاء؟
وثانیاً: أنّ المسلمین لا یدعون الضرائح، بل یطلبون من صاحب الضریح أن یشترک معهم فی الدعاء، لأنّه ذو مکانة مکینة عند اللّه، وإن کان متوفّیاً، ولکنّه حی یرزق عند ربّه ـ بنص الکتاب العزیز ـ وانّه لا یرد دعاؤه لقوله سبحانه فی حق النبی ـ صلَّى الله علیه وآله وسلَّم ـ مثلاً:
(وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوکَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّاباً رَحِیماً).(1)
(وَصَلِّ عَلَیْهِمْ إِنَّ صَلاَتَکَ سَکَنٌ لَهُمْ).(2)
ثم إنّه یظهر من ابن تیمیة فی بعض رسائله(3)، وتلمیذ مدرسته محمد بن عبد الوهاب فی رسالة أربع قواعد(4) إنّهما استدلا على تحریم طلب الشفاعة من غیر اللّه بقوله سبحانه : (قُلْ للّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِیعاً).(5)
وکأنّ الاستدلال مبنی على أنّ معنى الآیة هو: وللّه طلب الشفاعة فقط.
ولکنه تفسیر للآیة بغیر ظاهرها، إذ لیس معنى الآیة أنّ اللّه وحده هو الذی یشفع وغیره لا یشفع، لأنّه تعالى لا یشفع عند أحد، ثم قد ثبت أنّ الأنبیاء
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . النساء: 64.
2 . التوبة: 103.
3 . رسالة زیارة القبور والاستغاثة بالمقبور : 156 .
4 . ص 25، راجع کشف الارتیاب: 240 ـ 241 وکشف الشبهات لمحمد بن عبد الوهاب: 8 .
5 . الزمر: 44 .
_____________________________________ [الصفحة 563] _____________________________________
والصالحین والملائکة یشفعون لدیه.
کما أنّه لیس معناها أنّه لا یجوز طلب الشفاعة إلاّ منه سبحانه، بل معناها أنّ اللّه مالک أمرها فلا یشفع عنده أحد إلاّ بإذنه.
قال سبحانه : (مَنْ ذَا الَّذِی یَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ)، وقال: (وَلا یَشْفَعُونَ إلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى).
ویتضح ما قلناه إذا لاحظنا صدر الآیة وهو:
(أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ کَانُوا لا یَمْلِکُونَ شَیْئاً وَلا یَعْقِلُونَ *قُلْ للّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِیعاً).(1)
فالمقطع الأخیر من الآیة بصدد الرد على الذین اتَّخذوا الأصنام والأحجار شفعاء عند اللّه، وقالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه مع أنّها ما کانت تملک شیئاً، فکیف کانت تملک الشفاعة وهی لا عقل لها حتى تشفع؟
یقول الزمخشری ـ فی کشافه ـ :
(مِنْ دُونِ اللّهِ) أی من دون إذنه (قُلْ للّهِ الشَّفَاعَةَ جَمِیعاً) أی مالکها فلا یشفع أحد إلاّ بشرطین:
أن یکون المشفوع له مرتضى، وأن یکون الشفیع مأذوناً له، وهاهنا الشرطان مفقودان جمیعاً.(2)
وما ذهب إلیه ابن عبد الوهاب ومن قبله ابن تیمیة وأتباعهما من أنّ الآیة هذه تدل على أنّ طلب الشفاعة لا یکون إلاّ من اللّه وحده، دون طلبها من المخلوق وإن کان له حق الشفاعة، لم یذکره أحد من المفسرین.
***
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الزمر: 43 و44.
2 . تفسیر الکشاف: 3/34.
_____________________________________ [الصفحة 564] _____________________________________
ثم إنّه کیف یمکن التفریق بین طلب الشفاعة من الحی وطلبها من المیت، فیجوز الأوّل بنص قوله تعالى:
(وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوکَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّاباً رَحِیماً)(1)، وبدلیل طلب أولاد یعقوب من أبیهم الشفاعة وقولهم: (یَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا)(2) ووعد یعقوب ـ علیه السَّلام ـ إیّاهم بالاستغفار لهم،
بینما لا یکون الثانی (أی الاستشفاع بالمیت) جائزاً؟
أفیمکن أن تکون الحیاة والممات مؤثرتین فی ماهیة عمل؟! وقد سبق أنّ الحیاة أو الممات لیست معیاراً للتوحید والشرک، وبالنتیجة لجواز الشفاعة أو عدم جوازها.
وإذا لاحظت کتب الوهابیین لرأیت أنّ الذی أوقعهم فی الخطأ والالتباس هو مشابهة عمل الموحدین فی طلب الشفاعة والاستغاثة بالأموات والتوسّل بهم، لعمل المشرکین عند أصنامهم، ومعنى ذلک أنّهم اعتمدوا على الأشکال والظواهر وغفلوا عن النیّات والضمائر .
وأنت أیها القارئ لو وقفت على ما فی ثنایا هذه الفصول، لرأیت أنّ الفرق بین العملین من وجوه کثیرة، نذکر منها:
1. انّ المشرکین کانوا یقولون بالوهیة الأصنام بالمعنى الذی مرّ ذکره، بخلاف الموحّدین.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . النساء: 64.
2 . یوسف: 97.
_____________________________________ [الصفحة 565] _____________________________________
2. انّ الأوثان والأصنام کانت أعجز من أن تلبی دعوتهم، وهذا بخلاف الأرواح الطاهرة المقدسة، فإنّها أحیاء بنص الکتاب العزیز، وقادرة على ما یطلب منها فی الدعاء.
3. انّ الأوثان والأصنام لم یأذن اللّه لها، بخلاف النبی الأکرم فإنّه مأذون بنص القرآن الکریم:
قال سبحانه : (عَسَى أَنْ یَبْعَثَکَ رَبُّکَ مَقَاماً مَحْمُوداً).(1)
والمقام المحمود ـ باتّفاق المفسرین ـ هو مقام الشفاعة.
3. هل الاستعانة بغیر اللّه شرک؟
إنّ الاستعانة بغیر اللّه یمکن أن تتحقق بصورتین:
1. أن نستعین بعامل ـ سواء کان طبیعیاً أم غیر طبیعی ـ مع الاعتقاد بأنّ عمله مستند إلى اللّه بمعنى أنّه قادر على أن یعین العباد ویزیل مشاکلهم بقدرته المکتسبة من اللّه وإذنه.
وهذا النوع من الاستعانة ـ فی الحقیقة ـ لا ینفک عن الاستعانة باللّه ذاته، لأنّه ینطوی على الاعتراف بأنّه هو الذی منح تلک العوامل ذلک الأثر وأذن به وإن شاء سلبها وجرّدها منه.
فإذا استعان الزارع بعوامل طبیعیة کالشمس والماء وحرث الأرض، فقد استعان باللّه ـ فی الحقیقة ـ لأنّه تعالى هو الذی منح هذه العوامل، القدرة على
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الإسراء: 79.
_____________________________________ [الصفحة 566] _____________________________________
إنماء ما أودع فی بطن الأرض من بذر ومن ثم إنباته والوصول به إلى حد الکمال.
2. وإذا استعان بإنسان أو عامل طبیعی أو غیر طبیعی مع الاعتقاد بأنّه مستقل فی وجوده، أو فی فعله عن اللّه فلا شک أنّ ذاک الاعتقاد یصیر شرکاً والاستعانة معه عبادة.
فإذا استعان زارع بالعوامل المذکورة وهو یعتقد بأنّها مستقلّة فی تأثیرها، أو أنّها مستقلة فی وجودها، ومادتها کما فی فعلها وقدرتها فالاعتقاد شرک والطلب عبادة.
مع مؤلّف المنار فی تفسیر حصر الاستعانة
إنّ مؤلف المنار تصوّر أنّ حد التوحید هو: أن نستعین بقدرتنا ونتعاون فیما بیننا ـ فی الدرجة الأُولى ـ ثم نفوّض بقیة الأمر إلى اللّه القادر على کل شیء، ونطلب منه ـ لا من سواه ـ ویقول فی ذلک:
یجب علینا أن نقوم بما فی استطاعتنا من ذلک ونبذل لإتقان أعمالنا کل ما نستطیع من حول وقوة وأن نتعاون، ویساعد بعضنا بعضاً، ونفوض الأمر فیما وراء کسبنا إلى القادر على کل شیء ونلجأ إلیه وحده، ونطلب المعونة للعمل والموصل لثمرته منه سبحانه دون سواه(1).
إذ صحیح أنّنا یجب أن نستفید من قدرتنا، أو من العوامل الطبیعیة المادیة ولکن یجب بالضرورة أن لا نعتقد لها بأیة أصالة وغنى واستقلال وإلاّ خرجنا عن حدود التوحید.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . تفسیر المنار: 1/59.
_____________________________________ [الصفحة 567] _____________________________________
فإذا اعتقد أحد بأنّ هناک ـ مضافاً إلى العوامل والقوى الطبیعیة ـ سلسلة من العلل غیر الطبیعیة التی تکون جمیعها من عباد اللّه الأبرار الذین یمکنهم تقدیم العون(1) لمن استعان بهم تحت شروط خاصة وبإذن اللّه وإجازته دون أن یکون لهم أی استقلال لا فی وجودهم ولا فی أثرهم، فإنّ هذا الفرد لو استعان بهذه القوى غیر الطبیعیة ـ مع الاعتقاد المذکور ـ لا تکون استعانته عملاً صحیحاً فحسب، بل تکون ـ بنحو من الأنحاء ـ استعانة باللّه ذاته کما لا یکون بین هذین النوعین من الاستعانة (الاستعانة بالعوامل الطبیعیة والاستعانة بعباد اللّه الأبرار) أی فرق مطلقاً.
فإذا کانت الاستعانة بالعباد الصالحین ـ على النحو المذکور ـ شرکاً لزم أن تکون الاستعانة فی صورتها الأُولى هی أیضاً معدودة فی دائرة الشرک، والتفریق بین الاستعانة بالعوامل الطبیعیة و الاستعانة بغیرها إذا کانتا على وزان واحد وعلى نحو الاستمداد من قدرة اللّه وبإذنه ومشیئته بکونها موافقة للتوحید فی أُولى الصورتین، ومخالفة له فی ثانیة الصورتین،
لا وجه له.
من هذا البیان اتضح هدف صنفین من الآیات وردا فی مسألة الاستعانة:
الصنف الأوّل: یحصر الاستعانة باللّه فقط ویعتبره الناصر والمعین الوحید دون سواه.
والصنف الثانی: یدعونا إلى سلسلة من الأُمور المعینة غیر اللّه ویعتبرها ناصرة ومعینة إلى جانب اللّه.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . البحث مرکز فی أنّ طلب العون والحال هذه شرک أو لا، وأمّا أنّه هل أُعطیت لهم تلک المقدرة على العون أو لا ؟ فخارج عن موضوع بحثنا وإنّما إثباته على عاتق الأبحاث القرآنیة الأُخرى وقد نبهنا على ذلک غیر مرة.
_____________________________________ [الصفحة 568] _____________________________________
أقول: من البیان السابق اتضح وجه الجمع بین هذین النوعین من الآیات وتبیّن أنّه لا تعارض بین الصنفین مطلقاً، إلاّ أنّ فریقاً نجدهم یتمسّکون بالصّنف الأوّل من الآیات فیخطّئون أی نوع من الاستعانة بغیر اللّه، ثم یضطرون إلى إخراج الاستعانة بالقدرة الإنسانیة والأسباب المادیة من عموم تلک الآیات الحاصرة للاستعانة باللّه بنحو التخصیص بمعنى أنّهم یقولون:
إنّ الاستعانة لا تجوز إلاّ باللّه، إلاّ فی الموارد التی إذن اللّه بها، وأجاز أن یستعان فیها بغیره، فتکون الاستعانة بالقدرة الإنسانیة والعوامل الطبیعیة ـ مع أنّها استعانة بغیر اللّه ـ جائزة ومشروعة على وجه التخصیص، وهذا مما لا یرتضیه الموحّد.
فی حین أنّ هدف الآیات هو غیر هذا تماماً، فإنّ مجموع الآیات یدعو إلى أمر واحد وهو: عدم الاستعانة بغیر اللّه، وانّ الاستعانة بالعوامل الأُخرى یجب أن تکون بنحو لا یتنافى مع حصر الاستعانة باللّه بل تکون بحیث تعد استعانة باللّه لا استعانة بغیره.
وبتعبیر آخر: أنّ الآیات ترید أن تقول: بأنّ المعین والناصر الوحید والذی یستمد منه کل معین وناصر، قدرته وتأثیره، لیس إلاّ اللّه سبحانه ، ولکنه ـ مع ذلک ـ أقام هذا الکون على سلسلة من الأسباب والعلل التی تعمل بقدرته وأمره، استمداد الفرع من الأصل، ولذلک تکون الاستعانة بها کالاستعانة باللّه، ذلک لأنّ الاستعانة بالفرع استعانة بالأصل.
وإلیک فیما یلی إشارة إلى بعض الآیات من الصنفین:
(وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ الْعَزِیزِ الْحَکِیمِ).(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . آل عمران: 126.
_____________________________________ [الصفحة 569] _____________________________________
(إِیَّاکَ نَعْبُدُ وَإِیَّاکَ نَسْتَعِینُ).(1).
(وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِیزٌ حَکِیمٌ).(2).
هذه الآیات نماذج من الصنف الأوّل، وإلیک فیما یأتی نماذج من الصنف الآخر الذی یدعونا إلى الاستعانة بغیر اللّه من العوامل والأسباب:
(وَاسْتَعِینُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ).(3).
(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِّرِ وَالتّقْوَى).(4).
(مَا مَکّنِّی فِیهِ رَبِّی خَیْرٌ فَأَعِینُونِی بِقُوَّة).(5).
(وَإِنْ اسْتَنْصَرُوکُمْ فِی الدِّینِ فَعَلَیْکُمُ النَّصْرُ).(6).
ومفتاح حل التعارض بین هذین الصنفین من الآیات هو ما ذکرناه وملخّصه:
إنّ فی الکون مؤثراً تاماً، ومستقلاً واحداً غیر معتمد على غیره لا فی وجوده ولا فی فعله وهو اللّه سبحانه .
وأمّا العوامل الأُخر فجمیعها مفتقرة ـ فی وجودها وفعلها ـ إلیه، وهی تؤدی ما تؤدی بإذنه ومشیئته وقدرته، ولو لم یعط تلک العوامل ما أعطاها من القدرة، ولم تجر مشیئته على الاستمداد منها لما کانت لها أیة قدرة على شیء.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الحمد: 4.
2 . الأنفال: 10.
3 . البقرة: 45.
4 . المائدة: 2.
5 . الکهف: 95.
6 . الأنفال: 72.
_____________________________________ [الصفحة 570] _____________________________________
فالمعین الحقیقی فی کل المراحل ـ على هذا النحو تماماً ـ هو اللّه فلا یمکن الاستعانة بأحد باعتباره معیناً مستقلاً، لهذه الجهة حصرت مثل هذه الاستعانة باللّه وحده، ولکن هذا لا یمنع بتاتاً من الاستعانة بغیر اللّه باعتباره غیر مستقل
(أی باعتباره معیناً بالاعتماد على القدرة الإلهیة)، ومعلوم أنّ استعانة ـ کهذه ـ لا تنافی حصر الاستعانة باللّه سبحانه لسببین:
أوّلاً: لأنّّ الاستعانة المخصوصة باللّه هی غیر الاستعانة بالعوامل الأُخرى، فالاستعانة المخصوصة باللّه هی: ما تکون باعتقاد أنّه قادر على إعانتنا بالذات، وبدون الاعتماد على غیرها، فی حین أنّ الاستعانة بغیر اللّه سبحانه إنّما هی على نحو آخر، أی مع الاعتقاد بأنّ المستعان قادر على الإعانة مستنداً على القدرة الإلهیة، لا بالذات، وبنحو الاستقلال، فإذا کانت الاستعانة ـ على النحو الأوّل ـ خاصة باللّه تعالى، فإنّ ذلک لا یدل على أنّ الاستعانة بصورتها الثانیة مخصوصة به أیضاً.
ثانیاً: أنّ استعانة ـ کهذه ـ غیر منفکة عن الاستعانة باللّه، بل هی عین الاستعانة به تعالى، ولیس فی نظر الموحّد
(الذی یرى أنّ الکون کله من فعل اللّه ومستند إلیه) مناص من هذا.
وممّا سبق یتبیَّن لک أیها القارئ الکریم ما فی کلام ابن تیمیة من الإشکال، إذ یقول:
أمّا من أقرّ بما ثبت بالکتاب والسنّة والإجماع من شفاعته ـ صلَّى الله علیه وآله وسلَّم ـ والتوسّل به ونحو ذلک، ولکن قال: لا یدعى إلاّ اللّه وإنّ الأُمور التی لا یقدر علیها إلاّ اللّه فلا تطلب إلاّ منه، مثل غفران الذنوب وهدایة القلوب وإنزال المطر وإنبات النبات ونحو ذلک، فهذا مصیب فی ذلک، بل هذا مما لا نزاع فیه بین المسلمین
_____________________________________ [الصفحة 571] _____________________________________
أیضاً، کما قال تعالى:
(وَمَنْ یَغْفِرُ الْذُنُوبَ إِلاَّ اللّه).(1).
وقال: (إِنَّکَ لا تَهْدِی مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَکِنَّ اللّهَ یَهْدِی مَنْ یَشَاءُ)(2).
وکما قال تعالى: (یا أَیُّها النَّاسُ اذْکُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَیْکُمْ هَلْ مِنْ خَالِق غَیْرُ اللّهِ یَرْزُقُکُمْ مِنَ الْسَّمَاءِ والأرْضِ).(3).
وکما قال تعالى: (وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَکُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبکُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ).(4).
وقال: (ألاّ تَنْصُرُوه فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِینَ کَفَروا ثَانِی اثنِین إِذْ هُمَا فِی الغَارِ إِذْ یَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إنَّ اللّهَ مَعَنَا)(5).(6)
فقد غفل ابن تیمیة عن أنّ بعض هذه الأُمور یمکن طلبها من غیر اللّه مع الاعتقاد بعدم استقلال هذا الغیر فی تحقیقها، وهذا لا ینافی طلبها من اللّه مع الاعتقاد باستقلاله وغناه عمن سواه فی تحقیقها.
نعم لاتقع هذه الاستعانة مفیدة إلاّ إذا ثبتت قدرة غیر اللّه سبحانه على إنجاز الطلب، ولکنّه خارج عن محط بحثنا، فإنّ البحث مرکز على کون هذا العمل شرکاً أو لا ، وأما کون المستعان قادراً أو لا فالبحث عنه خارج عن هدفنا.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 .آل عمران: 135.
2 .القصص: 56.
3 .فاطر: 3.
4 .آل عمران: 126.
5 .التوبة: 40.
6 . مجموعة الرسائل الکبرى لابن تیمیة الرسالة الثانیة عشرة: 482.
_____________________________________ [الصفحة 572] _____________________________________
وربّما یتوهم أنّها لا تنفع أیضاً إلاّ إذا ثبتت مأذونیة الغیر من قبله سبحانه فی الإعانة، کما یتوقف على ذلک جواز أصل طلب العون، وإن کان غیر شرک.
ولکنه مدفوع، بأنّ إعطاء القدرة دلیل على المأذونیة فی أعمالها فی الجملة، إذ لا معنى لأن یعطیه اللّه القدرة ویمنعه عن الأعمال مطلقاً، أو یعطیه القدرة ویمنع الغیر عن طلب أعمالها.
ویکفی فی الجواز، کون الأصل فی فعل العباد، الجواز والإباحة، دون الحظر والمنع إلاّ أن ینطبق على العمل أحد العناوین المحرمة فی الشرع.
وأخیراً نذکّر القارئ الکریم بأنّ مؤلّف المنار حیث إنّه لم یتصور للاستعانة بالأرواح إلاّ صورة واحدة لذلک اعتبرها ملازمة للشرک، فقال:
ومن هنا تعلمون: انّ الذین یستعینون بأصحاب الأضرحة والقبور على قضاء حوائجهم وتیسیر أُمورهم وشفاء أمراضهم ونماء حرثهم وزرعهم، وهلاک أعدائهم، وغیر ذلک من المصالح هم عن صراط التوحید ناکبون، وعن ذکر اللّه معرضون(1).
ولا یخفى عدم صحته إذ الاستعانة بغیر اللّه (کالاستعانة بالعوامل الطبیعیة) على نوعین:
أحدهما عین التوحید والآخر موجب للشرک، أحدهما مذکر باللّه والآخر مبعد عن اللّه.
إنّ حد التوحید والشرک لیس هو کون الأسباب ظاهریة أو غیر ظاهریة إنّما هو الاستقلال وعدم الاستقلال،
هو الغنى والفقر، هو الأصالة وعدم الأصالة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . تفسیر المنار: 1/59.
_____________________________________ [الصفحة 573] _____________________________________
إنّ الاستعانة بالعوامل غیر المستقلة المستندة إلى اللّه، التی لا تعمل ولا تؤثر إلاّ بإذنه تعالى لیس فقط غیر موجبة للغفلة عن اللّه، بل هو خیر موجه، ومذکر باللّه، إذ معناها: انقطاع کل الأسباب وانتهاء کل العلل إلیه.
ومع هذا کیف یقول صاحب المنار: أُولئک عن ذکر اللّه معرضون ولو کان هذا النوع من الاستعانة موجباً لنسیان اللّه والغفلة عنه للزم أن تکون الاستعانة بالأسباب المادیة الطبیعیة هی أیضاً موجبة للغفلة عنه.
على أنّ الأعجب من ذلک هو شیخ الأزهر الشیخ محمود شلتوت الذی نقل ـ فی هذا المجال ـ نص کلمات عبده دون زیادة ونقصان، وختم المسألة بذلک، وأخذ بظاهر الحصر فی (إیّاک نستعین)غافلاً عن حقیقة الآیة وعن الآیات الأُخرى المتعرضة لمسألة الاستعانة.(1)
نقد نظر ثالث
وهناک رأی آخر یتوسط بین الرأیین وهو أنّه تجوز الاستعانة بالأسباب الطبیعیة فی الحوائج الحیویة، ولا تجوز الاستعانة بالأسباب غیر العادیة إلاّ إذا کان بصورة التوسل والاستشفاع إلى اللّه سبحانه .
وهذا القول وإن کانت علیه مسحة من الحق ولمسة من الصدق إلاّ أنّه لیس عینه.
فإنّ المنع عن الاستعانة بالأسباب غیر العادیة لماذا؟ إن کان لأجل کونه مستلزماً للشرک، فالمفروض عدمه، إذ المستعین إنّما یستعین، باعتقاد أنّ المستعان إنّما یعین بالقدرة المعطاة له من اللّه سبحانه ، ویعملها بإذنه ومشیئته، وطلب
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . راجع تفسیر شلتوت: 36 ـ 39.
_____________________________________ [الصفحة 574] _____________________________________
العون مع هذا الاعتقاد لا یستلزم الشرک، ومع فرضه فأی فرق بین الممنوع (طلب العون) والمجاز وهو التوسل والاستشفاع؟
وإن کان المنع لأجل عدم وجود القدرة فیهم على الإعانة، فهو مناقشة، وهو فی الصغرى خارج عن موضوع بحثنا، فإنّ البحث إنّما هو على فرض قدرتهم.
وإن کان المنع، لأجل کون الأصل فی فعل المکلّف، هو المنع حتى یثبت الجواز، فهو محجوج بأصالة الإباحة ما لم یمنع عنه دلیل قاطع، وعدم ورود تلک الاستعانة فی الأدعیة وغیرها على فرض صحته لا یدل على المنع.
ولو کان المنع لأجل أنّ قوله سبحانه : (وإیّاک نستعین) شامل لهذه الاستعانة التی لا تنفک عن الاستعانة به سبحانه کما أوضحناه، فلا یمکن تخصیصه بالتوسل والاستشفاع، لأنّ لسانه آب عن التخصیص وغیر قابل له.
4. هل دعوة الصالحین عبادة لهم؟
تبیّن من البحوث السابقة أنّ طلب الحاجة من غیر اللّه مع الاعتقاد بأنّه لا یملک شیئاً من شؤون المقام الالوهی، ولم یفوض إلیه شیء، بل لو قام بشیء لا یقوم به إلاّ بإذن اللّه سبحانه ، لا یکون شرکاً.
وبقی فی هذا المجال مطلب آخر وهو : انّ القرآن الکریم نهى ـ فی موارد متعددة ـ عن دعوة غیر اللّه سبحانه غیر أنّ الوهابیة استنتجت من هذه الآیات مساوقة الدعوة للعبادة.
وإلیک فیما یأتی الآیات المتضمّنة، بل المصرحة بهذا المطلب:
_____________________________________ [الصفحة 575] _____________________________________
(وَأَنَّ المَسَاجِدَ للّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً).(1).
(لَهُ دَعْوَةَ الْحَقِّ وَالَّذِینَ یَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا یَسْتَجِیبونَ لَهُمْ بِشَیء).(2).
(وَالَّذِینَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا یَسْتَطِیعُونَ نَصْرَکُمْ وَلاَ أَنْفُسَهُمْ یَنْصُرُونَ).(3)
(إِنَّ الَّذِینَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُکُمْ).(4).
(وَالَّذِینَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا یَمْلِکُونَ مِنْ قِطْمِیر).(5).
(قُلِ ادْعُوا الَّذِینَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ یَمْلِکُونَ کَشْفَ الضُّرِّ عَنْکُمْ وَلا تَحْوِیلا).(6).
(أُوْلَئِکَ الَّذِینَ یَدْعُونَ یَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِیلَةَ).(7).
(وَ لاَ تَدْعُ مِنْ دِونِ اللّهِ مَا لا یَنْفَعُکَ وَلا یَضُرُّکََ).(8).
(إِنْ تَدْعُوهُمْ لا یَسْمَعُوا دُعَاءَکُمْ).(9).
(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ یَدْعُوا مِنْ دُونِ اللّهِ مَنْ لا یَسْتَجِیبُ لَهُ إِلَى یَوْمِ الْقِیَامَةِ)(10).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الجن: 18.
2 . الرعد: 14.
3 . الأعراف: 197.
4 . الأعراف: 194.
5 . فاطر: 13.
6 . الإسراء: 56.
7 . الإسراء: 57.
8 . یونس: 106.
9 . فاطر: 14.
10 . الأحقاف: 5.
_____________________________________ [الصفحة 576] _____________________________________
فقد جعل دعاء الغیر ـ فی هذه الآیات ـ مساویاً مع دعاء اللّه ویستنتج من ذلک أنّ دعاء الغیر عبادة له، ومن هذه الآیات یستنتج الوهابیون کون دعوة الأولیاء والصالحین ـ بعد وفاتهم ـ عبادة للمدعو .
وملخص کلامهم: أنّ من قال متوسّلاً: یا محمد، فنداؤه ودعوته بنفسها عبادة للمدعو .
یقول الصنعانی فی هذا الصدد:
وقد سمّى اللّه الدعاء: عبادة بقوله (إِدْعُونِی أَسْتَجِبْ لَکُمْ إِنَّ الَّذِینَ یَسْتَکْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِی)ومن هتف باسم نبی أو صالح بشیء، أو قال: اشفع لی إلى اللّه فی حاجتی، أو استشفع بک إلى اللّه فی حاجتی أو نحو ذلک، أو قال: اقض دینی أو اشف مریضی أو نحو ذلک، فقد دعا ذلک النبی والصالح والدعاء عبادة بل مخّها، فیکون قد عبد غیر اللّه، وصار مشرکاً، إذ لا یتم التوحید إلاّ بتوحیده تعالى فی الإلهیة باعتقاد أنّ لا خالق ولا رازق غیره، وفی العبادة بعدم عبادة غیره ولو ببعض العبادات وعباد الأصنام إنّما أشرکوا لعدم توحید اللّه فی العبادة(1).
***
ولکن لا مریة فی أنّ لفظة الدعاء تعنی فی لغة العرب: النداء لطلب الحاجة، فلا یتحقّق مفهوم الدعوة إلاّ بطلب الحاجة، ولو استعملت فی مورد فی مطلق النداء ولم یکن معه طلب حاجة، فإنّما هو لأجل أنّ المنادی یطلب توجّه المنادى إلى نفسه، بینما تعنی لفظة العبادة معنى آخر (وهو الخضوع النابع من الاعتقاد بالإلوهیة والربوبیة على ما مر تفصیله)(2)، ولا یمکن اعتبار اللفظتین
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 .تنزیه الاعتقاد للصنعانی کما فی کشف الارتیاب: 272 ـ 274.
2 . راجع ص 455 ـ 468 من کتابنا هذا
_____________________________________ [الصفحة 577] _____________________________________
مترادفتین، ومشترکتین فی المفاد والمعنى بأن یکون معنى الدعاء هو العبادة لأسباب عدیدة هی:
أوّلاً: انّ القرآن استعمل لفظة الدعوة والدعاء فی موارد لا یمکن أن یکون المراد فیها العبادة مطلقاً مثل:
(قالَ رَبِّ إِنِّی دَعَوْتُ قَوْمِی لَیْلاً وَنَهَاراً).(1).
فهل یمکن أن نقول إنّ مراد نوح ـ علیه السَّلام ـ هو أنّه عبد قومه لیلاً ونهاراً؟!
وأیضاً مثل قوله تعالى حاکیاً عن الشیطان قوله:
(وَمَا کَانَ لِیَ عَلَیْکُمْ مِنْ سُلْطَان إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُکُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِی).(2).
فهل یحتمل أن یکون مقصود الشیطان هو أنّه عبد أتباعه؟ فی حین أنّ العبادة ـ لو صحت وافترضت ـ فإنّما تکون من جانب أتباعه له لا من جانبه تجاه أتباعه.
ومثل هاتین الآیتین ما یأتی من الآیات :
(وَیَا قَوْمِ مَا لِی أَدْعُوکُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِی إِلَى النَّارِ).(3).
(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ یَتَّبِعُوکُمْ).(4).
(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ یَسْمَعُوا).(5).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . نوح 5.
2 . إبراهیم: 22.
3 . غافر: 41.
4 . الأعراف: 193.
5 . الأعراف: 198.
_____________________________________ [الصفحة 578] _____________________________________
(وَإِنَّکَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاط مُسْتَقِیم).(1).
(فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَکُمْ).(2).
ففی هذه الآیات وأمثالها استعملت لفظة الدعاء والدعوة فی غیر معنى العبادة، ولهذا لا یمکن أن نعتبرهما مترادفتین، ولذلک فلو دعا أحد ولیاً أو نبیاً أو رجلاً صالحاً، فإنّ عمله ذلک لا یکون عبادة له، لأنّ الدعاء أعم من العبادة وغیرها(3).
ثانیاً: أنّ المقصود من الدعاء فی مجموع الآیات (المذکورة فی مطلع البحث هذا) لیس هو مطلق النداء، بل نداء خاص یمکن أن یکون ـ م آلاً ـ مرادفاً للفظ العبادة.
لأنّ مجموع هذه الآیات وردت حول الوثنیین الذین کانوا یتصوّرون بأنّ أصنامهم آلهة صغار قد فوّض إلیها بعض شؤون المقام الالوهی، ویعتقدون فی شأنها بنوع من الاستقلال فی التصرف والفعل.
ومعلوم أنّ الخضوع والتذلّل أو أی نوع من القول والعمل أمام مخلوق باعتقاد أنّه إله کبیر أو إله صغیر لکونه رباً أو مالکاً لبعض الشؤون الإلهیة، یکون عبادة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . المؤمنون: 73.
2 . آل عمران: 61.
3 . النسبة بین الدعاء والعبادة عموم وخصوص من وجه: ففی هذه الموارد یصدق الدعاء ولا تصدق العبادة، وأمّا فی العبادة الفعلیة المجردة عن الذکر کالرکوع والسجود فتصدق العبادة، لأنّها تقترن مع الاعتقاد بالوهیة المسجود له ولا یصدق الدعاء لخلوّه عن الذکر اللفظی. ویصدق کلا المفهومین: الدعاء والعبادة فی أذکار الصلاة، لأنّها دعوة بالقول ناشئة عن الاعتقاد بالوهیة المدعو.
_____________________________________ [الصفحة 579] _____________________________________
لا شک أنّ خضوع الوثنیین ودعاءهم واستغاثتهم أمام أوثانهم کانت بوصف أنّ هذه الأصنام آلهة أو أرباب أو مالکة لحق الشفاعة، وباعتقاد أنّها آلهة مستقلة فی التصرف فی أُمور الدنیا والآخرة، ومن البدیهی أنّ أیة دعوة لهذه الموجودات وغیرها مع هذه الشروط، عبادة لا محالة.
وتدل طائفة من الآیات :على أنّ دعوة الوثنیین کانت مصحوبة بالاعتقاد بالوهیة الأصنام أو مالکیتها لمقام الشفاعة والمغفرة، وإلیک بعضها:
(فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ الَّتِی یَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ شَیْء)(1).
ففی هذه الآیة یتضح جلیاً بأنّهم کانوا یعبدونها متصوّرین ومعتقدین بأنّها تغنیهم من شیء کما یمکن للإله الحقیقی أن یفعل ذلک.
(وَلا یَمْلِکُ الَّذِینَ یَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ).(2).
(وَالَّذِینَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا یَمْلِکُونَ مِنْ قِطْمِیر).(3).
(فَلا یَمْلِکُونَ کَشْفَ الضُّرِّ عَنْکُمْ وَلاَ تَحْوِیلاً).(4).
فالآیات المذکورة (فی مطلع هذا الفصل) لا ترتبط بموضوع بحثنا مطلقاً، إذ الموضوع هو الدعوة دون الاعتقاد بإلوهیة، ولا مالکیة لشیء ولا استغناء، واستقلاله فی التصرف فی أُمور الدنیا والآخرة، بل لأجل أنّ المدعو عبد من عباد اللّه المکرمین، وأنّه ذو مقام معنوی استحق به منزلة النبوة، أو الإمامة، ولأنّه وعد المتوسّلون به بقبول أدعیتهم، وإنجاح طلباتهم فیما إذا قصدوا اللّه عن طریقه، کما
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . هود: 101.
2 . الزخرف: 86.
3 . فاطر: 13.
4 . الإسراء: 56.
_____________________________________ [الصفحة 580] _____________________________________
ورد فی حق النبی الأعظم ـ صلَّى الله علیه وآله وسلَّم ـ :
(وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوکَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّاباً رَحِیماً).(1).
ثالثاً: یمکن أن یقال أنّ المراد من الدعاء فی هذه الآیات هو القسم الخاص منه، أعنی ما کان ملازماً للعبادة لا بمعنى أنّ الدعاء مستعمل فی مفهوم العبادة ابتداء ،بل بمعنى أنّها مستعملة فی معناها الحقیقی، غیر أنّها لما کانت فی موارد الآیات مقرونة باعتقاد الدعاة بالوهیتهم یکون المنهی عنه ذلک القسم من الدعوة لا مطلقاً، وتکون عقیدة الدعاة فی حق المدعوین قرینة متصلة على أنّ المقصود ذلک القسم المعین لا جمیع أقسامها ومن المعلوم أنّ الدعاء مع هذه العقیدة یکون مصداقاً للعبادة.
والدلیل على أنّ المراد من الدعوة فی هذه الآیات هو القسم الملازم للعبادة أنّه ربّما وردت فی إحدى الآیتین ذاتی مضمون واحد لفظة الدعوة ووردت فی الآیة الأُخرى لفظة الدعاء، مثل قوله:
(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لا یَمْلِکُ لَکُمْ ضَرَّاً وَلا نَفْعاً).(2).
بینما یقول فی الآیة الأُخرى وهی:
(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لا یَنْفَعُنا وَلاَ یَضُرُّنَا).(3).
ویقول أیضاً فی الآیة 12 من سورة فاطر:
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . النساء: 64.
2 . المائدة: 76.
3 . الأنعام: 71.
_____________________________________ [الصفحة 581] _____________________________________
(والَّذِینَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا یَمْلِکُونَ مِنْ قِطْمِیر) .
ففی هذه الآیة وما قبلها استعملت لفظة تدعون وندعوا فی حین استعملت فی الآیة الأُولى لفظة تعبدون.
ونظیر ما سبق قوله سبحانه :
(إِنَّ الَّذِینَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لا یَمْلِکُونَ لَکُمْ رِزْقاً).(1).
هذا وقد ترد کلا اللفظتین فی آیة واحدة وتستعملان فی معنى واحد:
(قُلْ إِنّی نُهِیتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِینَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ).(2).
وقوله سبحانه : (وَقَالَ رَبُّکُمْ ادْعُونِی اسْتَجِبْ لَکُمْ إِنَّ الَّذِینَ یَسْتَکْبِرُونَ عَنْ عَبَادَتِی سَیَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرینَ).(3).
والآیة وما تقدمها ظاهرتان فی أنّ المراد من الدعوة هو العبادة لا مطلق النداء وطلب الحاجة، وذاک لیس بمعنى استعمال الدعاء ابتداء فی معنى العبادة حتى یکون الاستعمال مجازیاً بل إنّما استعملت فی معناها الحقیقی، أعنی: الدعاء، ولکن لمّا کان الدعاء مقروناً باعتقاد الداعی بالوهیة المدعو صار المراد منه ـ بالم آل ـ العبادة، وقد تقدمت تلک النکتة آنفاً.
ویؤید ما ذکرناه ما ورد فی دعاء سید الساجدین مشیراً إلى مفاد الآیة المتقدمة حیث یقول:
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . العنکبوت: 17.
2 . الأنعام: 56.
3 . غافر: 60.
_____________________________________ [الصفحة 582] _____________________________________
وسمیت دعاءک عبادة، وترکه استکباراً، وتوعّدت على ترکه دخول جهنم داخرین(1).
وإنا لنطلب من القارئ الکریم أن یراجع بنفسه مادة الدعوة فی المعجم المفهرس، فسیرى ورود مضمون واحد تارة بلفظ العبادة، وأُخرى بلفظ الدعاء والدعوة.
وهذا هو أوضح دلیل على أنّ المقصود من الدعوة فی الآیات المذکورة(فی مطلع هذا الفصل)هو العبادة ولیس مطلق النداء.
هذا والقارئ الکریم إذا درس مجموع الآیات التی ورد فیها لفظ الدعوة وأُرید منه القسم الملازم للعبادة لرأى أنّ الآیات أمّا وردت حول خالق الکون الذی یعترف جمیع الموحدین بإالوهیته وربوبیته ومالکیته، أو وردت فی مورد الأوثان التی کان عبدتها یتصورون إلوهیتها وأنّها مالکة لمقام الشفاعة، وفی هذه الحالة فإنّ الاستدلال بهذه الآیات فی مورد بحثنا الذی هو الدعاء مجرداً عن تلک العقیدة لمن أعجب العجب.
سؤال وجواب
إلى هنا تبیَّن أنّ دعوة العباد الصالحین بأی شکل کان، سواء أکان لأجل التوسل والاستشفاع أم لأجل طلب الحاجة وإنجازها لیست عبادة، ولا تشملها الآیات الناهیة عن الدعوة بتاتاً غیر أنّه ینطرح هنا سؤال، وهو: انّه إذا کان غیره سبحانه لا یملک من قطمیر ولا یملک کشف الضر والتحویل، فما فائدة هذه الدعوة، إذ قال سبحانه :
(فَلا یَمْلِکُونَ کَشْفَ الضُّرِّ عَنْکُمْ وَلاَ تَحْوِیلاً)(2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الصحیفة السجادیة، الدعاء: 49.
2 . الإسراء: 56.
_____________________________________ [الصفحة 583] _____________________________________
(وَالَّذِینَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا یَمْلِکُونَ مِنْ قِطْمِیر)؟.(1).
والجواب: انّ البحث فی هذا الفصل مرکز على تمییز العبادة عن غیرها، وأمّا کون الدعوة مفیدة أو لا ، فخارج عن موضوع بحثنا، أضف إلى ذلک أنّ الآیات التی استدل بها تهدف إلى موضوع آخر لا یرتبط بالمقام.
ملخّص البحث
إنّ هذه الآیات راجعة إلى أصنام العرب الخشبیة والمعدنیة والحجریة ویتضح ذلک من سیاق الآیات ، هذا أوّلاً، وثانیاً أنّ الهدف من نفی المالکیة عن غیر اللّه لیس هو مطلقها، بل المراد المالکیة المناسبة لمقامه سبحانه، أعنی: المالکیة المستقلة، ونفی هذه المالکیة عن غیره سبحانه لا یدل على انتفاء ما یستند إلیه سبحانه ، عنهم، ویؤید ذلک أنّه سبحانه یقول:
(یَا أَیُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الْغَنِیُّ الْحَمِیدُ)(2)
والمراد من الفقر هنا هو الفقر الذاتی ولا ینافی القدرة المکتسبة والفعالة بإذنه سبحانه .
والدلیل على أنّ العرب کانوا یعتقدون فی أصنامهم القدرة المستقلة قوله سبحانه :
(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لاَ یَمْلِکُ لَکُمْ ضَرّاً ولا نَفْعاً).(3).
وقوله سبحانه : (ویَعْبُدونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لا یَمْلِکُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمواتِ والأرْضِ شَیْئاً وَلا یَسْتَطِیعُونَ).(4).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . فاطر: 13.
2 . فاطر: 15.
3 . المائدة: 76.
4 . النحل: 73.
_____________________________________ [الصفحة 584] _____________________________________
وعلى ذلک فلو قال سبحانه لا یملکون عن اللّه کشف الضر ولا تحویلاً فالمقصود هو نفی تلک المالکیة لا الأعم منها ومن المکتسبة.
البحث مرکز على معرفة التوحید فی العبادة
قد ثبت بحمد اللّه أنّ طلب الشفاء والشفاعة والعون من عباد اللّه الصالحین لیست عبادة لهم، وأمّا أنّهم قادرون على الإجابة أم لا، مأذونون فی الإعانة من قبله سبحانه أو لا، أو أنّ هذا الطلب جائز فی الشرع أو لا وإن لم یکن شرکاً؟ أو غیر ذلک من الأسئلة، فکلّها خارجة عن محط البحث الذی هو التعرف على معاییر التوحید والشرک، وتطلب أجوبة تلک الأسئلة من مظانها.
نعم کفانا فی الإجابة علیها ما کتبه أعلام السنّة والشیعة فی هذا المقام، فراجع الدرر السنیة للسید أحمد زینی دحلان المکی، وکشف الارتیاب للعلامة الأمین العاملی، والتوسل والزیارة فی الشریعة الإسلامیة للعلاّمة المعاصر محمد الفقی من علماء الأزهر الشریف، فقد تکفّلت هذه الکتب الإجابة علیها، ولم تبق لأی مشکک مجالاً للتشکیک، شکر اللّه مساعیهم.
_____________________________________ [الصفحة 585] _____________________________________
10 عقائد الوثنیین فی العصر الجاهلی [585-597] خاتمة المطاف [536-549]
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma