التوحید الاستدلالی ـ البرهان الثالث عشر [212-225]

SiteTitle

صفحه کاربران ویژه - خروج
ورود کاربران ورود کاربران

LoginToSite

SecurityWord:

Username:

Password:

LoginComment LoginComment2 LoginComment3 .
SortBy
 
مفاهیم القرآن
الفصل الرابع [227-254]التوحید الاستدلالی: البرهان الثانی عشر [205-211]
الحیوانات والهدایة الإلهیة
(رَبُّنَا الَّذِی أَعْطَى کُلَّ شَیْء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى).(1)
من الأدلّة التی یقیمها القرآن الکریم لمعرفة اللّه هی تلک الهدایة التی تشمل مخلوقات الکون وأحیاءه بحیث تهتدی
ـ بهذه الهدایة ـ إلى طریقها، وتختار ما یصلحها، ویناسبها فی ظل هذه الهدایة الإلهیة.
وهذا هو ما أشار إلیه النبی موسى بن عمران ـ علیه السَّلام ـ ، واصفاً اللّه تعالى عندما سأله فرعون عن ربه؟
فأجابه بالآیة السابقة.
فاهتداء الحیوانات ـ مثلاً ـ إلى طریقها التی تضمن حیاتها وبقاءها دون أن تعرف معلماً أو مدرسة، أو تتلقّى معلوماتها عن طریق الوراثة أو ما شابه، أمر یدلّ على وجود هاد یهدیها، ومرشد یوجّهها إلى ما یضمن بقاءها واستمرار وجودها، ومواصلة السیر إلى هدفها دون أن تخطأ.
إنّاهتداءهذه الحیوانات إلى مایناسب طبیعتها ویوافق خلقتهالایمکن أن یکون بفعل الوراثة ولابفعل الغریزة کمایدّعی البعض.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . طه: 50.
_____________________________________ [الصفحة 213] _____________________________________
أمّا أنّها لا یمکن أن تکون عن طریق الوراثة، فلأنّ المعلومات لا یمکن أن تنتقل من أحد إلى أحد من هذا الطریق، وإلاّ لکان ابن الطبیب طبیباً بالوراثة، ولکان ابن العالم عالماً بالوراثة حتماً دون أن یتلقّى العلم أو الطب من أحد.
وأمّا أنّ هذه الحیوانات لا تفعل ما تفعل بتأثیر الغریزة فقط، فلأنّ الغریزة لا یمکن أن تخضع للانتخاب والاختیار، بینما نجد کثیراً من هذه الحیوانات عندما تواجه مفترق طرق متعدّدة تختار إحداها بفعل ما تتلقّاه من الهدایة والتوجیه، وهذه الهدایة التی تعین الحیوانات على الانتخاب والاختیار هو ما یسمّى فی منطق القرآن بالوحی أو ما سمّـاه بعض العلماء بـ الإلهام(1).
ونمثّل لهذا الأمر بما جاء حول النحل فی القرآن الکریم، إذ یقول:
(وَأَوْحَى رَبُّکَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِی مِنَ الْجِبَالِ بُیُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا یَعْرِشُونَ * ثُمَّ کُلِی مِنْ کُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُکِی سُبُلَ رَبِّکِ ذُلُلاً یَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِیهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِی ذَلِکَ لآیَةً لِقَوم یَتَفَکَّرُونَ).(2)
فحشرة النحل الصانعة لألذ الأشیاء وأطیبها، نعنی: العسل، تبدأ عملها منذ أن تخرج من البیض دون تعب وملل، وفی ذکاء مفرط، وانضباطیة فائقة.
فتختار ـ فی ذکاء ـ أفضل وأطیب الزهور وتمتص عصارتها بنحو عجیب، وتصنع للبشر شهداً من أطیب الشهد.
وتصنع بیوتها سداسیة الشکل فی نظم لا یخطئ، وعلى فواصل دقیقة لا تزید ولا تنقص.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . راجع کتاب العلم یدعو للإیمان : 116.
2 . النحل: 68 ـ 69.
_____________________________________ [الصفحة 214] _____________________________________
ویلاحظ أنّها قبل أن تمتص الزهور تقوم بعملیة انتخاب وتفتیش عن الزهرة المناسبة لها، وهذا ـ کما نرى ـ لا یصدر إلاّ من موجود ملهم، موحى إلیه، موجَّه بتوجیه أعلى، لأنّ فی أعمالها ما یتجلّـى منه القصد والهدفیة، وهذا من خصائص الإلهام لیس إلاّ.
ومن هنا ندرک معنى قوله تعالى:
(وَأَوْحَى رَبُّکَ إِلَى النَّحْلِ) .
یقول العلامة کریسی موریسون حول عجائب ما تفعله نحلة العسل:
إنّ العاملات من نحل العسل تصنع حجرات مختلفات الأحجام فی المشط الذی یستخدم فی التربیة، وتعد الحجرات الصغیرات للعمال، والأکبر منها للیعاسیب (أی الذکر من النحل) وتعد غرفة خاصة للملکات الحوامل،
والنحلة الملکة تضع بیضاً غیر مخصب فی الخلایا المخصصة للذکور وبیضاً مخصباً فی الحجرات الصحیة المعدة للعاملات الإناث والملکات المنتظرات.
والعاملات اللائی هی إناث معدلات بعد أن انتظرن طویلاً مجیء الجیل الجدید، تهیّأن أیضاً لإعداد الغذاء للنحل الصغیرة بمضغ العسل واللقح، ومقدمات هضمه ثم ینقطعن عن عملیة المضغ ومقدمات الهضم عند مرحلة معینة من تطور الذکور الإناث ولا یغذین سوى العسل واللقح، والإناث اللائی یعالجن على هذا الشکل یصبحن عاملات فیما بعد.
أمّا الإناث اللائی فی حجرات الملکة فإنّ التغذیة بالمضغ ومقدمات الهضم تستمر عندهن، وهؤلاء اللائی یعاملن هذه المعاملة الخاصة یتطورن إلى ملکات نحل، وهن وحدهن اللائی ینتجن بیضاً مخصباً، وعملیة تکرار الإنتاج هذه
_____________________________________ [الصفحة 215] _____________________________________
تتضمن حجرات خاصة وبیضاً خاصاً، کما تتضمن الأثر العجیب الذی لتغییر الغذاء. وهذا یتطلب الانتظار والتمییز وتطبیق اکتشاف أثر الغذاء(1).
ویقول کریسی موریسون عن النحلة فی موضع آخر من کتابه:
والنحلة تجد خلیتها مهما طمست الریح فی هبوبها على الأعشاب والأشجار کل ذلک دلیل یرى، وحاسة العودة إلى الوطن هذه هی ضعیفة فی الإنسان، ولکنه یکمل عتاده القلیل منها [ویصل إلى مقصده] بأدوات الملاحة(2).
ومن المعلوم أنّ هذه الأعمال المقصودة الدقیقة التی تقوم بها حشرة النحل دون أن تخطىء أو تضل عن طریقها لو کانت بدافع الغریزة، وتحت تأثیر الجبلة والخلقة لما حسن أن یقول اللّه: (وأوحى) ، والوحی کما نعلم نوع من التوجیه المباشر الإلهی للمخلوق الحی، ونوع من الخطاب الصادر من جانب اللّه إلى الموحى إلیه.
ویدل على ما قلناه توجیه الخطاب إلى النحل بقوله: اتخذی، وکلی، واسلکی.
إنّ ما تفعله هذه الحشرة الذکیة وکلّ الحشرات المثیلة لها کالنمل ـ مثلاً ـ خیر دلیل على وجود هاد لها، یوحی إلیها ما یوحی، ویهدیها إلى سبل حیاتها.
فها هو القرآن الکریم یتحدث لنا عن النمل فی قصة مواجهتها لعرش سلیمان بما یکشف لنا عن فطنة هذه الحشرة،
الکاشفة هی بدورها عن الهدایة العلیا التی تحیط هذه الحشرة بالعنایة والرعایة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . العلم یدعو للإیمان: 114 ـ 118.
2 . العلم یدعو للإیمان: 114 ـ 118.
_____________________________________ [الصفحة 216] _____________________________________
فالقرآن یخبرنا أنّ نملة لما شاهدت جنود سلیمان وأدرکت الخطر نبهت بنی جنسها بذلک:
(قَالَتْ نَمْلَةٌ یَا أَیُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاکِنَکُمْ لا یَحْطِمَنَّکُمْ سُلَیْمَانُ وَجُنُودُهُ)(1).
وهی قصة تکشف عن أنّ النملة تدرک بفعل الإلهام الإلهی ما یحیق بها من أخطار فتتحذر منها وتحذر بنی نوعها.
ولنلقی نظرة على ما یقوله کریسی موریسون فی کتابه المذکور عن النمل:
والنحل والنمل یبدو أنّها تدرک کیف تنظم وتحکم نفسها، فلها جنودها وعمالها وعبیدها ویعاسیبها.
إنّ هناک أنواعاً من النمل تدفعها الغریزة أو التفکیر إلى زرع أعشاش للطعام.
والنمل یأسر طوائف من الدود ویسترقها.
وبعض النمل حین یصنع أعشاشه یقطع الأوراق مطابقة للحجم المطلوب.
کیف یتاح لهذه الحشرة أن تقوم بهذه العملیات المعقدة؟!
لا شک أنّ هناک خالقاً أرشدها إلى کل ذلک(2).
ترى فی أیة مدرسة وأی معهد تلقّت النمل وغیرها من الحشرات هذه المعلومات.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . النمل: 18.
2 . العلم یدعو للإیمان: 130 ـ 132.
_____________________________________ [الصفحة 217] _____________________________________
ومن أی شخص تعلّمت کیف تعرف الخطر وتشخص البلایا وتحذر منها أبناء نوعها.
أم بماذا یمکن تفسیر هذا التمییز والقصد والاختیار الذی تتصف بها تصرفات النمل والنحل وما سواهما من الحشرات؟
هل ذلک إلاّ بوحی من خالقها وإلهام من بارئها وصانعها؟
ولکی نقف على المزید من هذه النماذج التی تدل على وجود الهدایة الإلهیة والإرشاد الربانی فی عالم الحیوانات نقرأ معاً ما یقوله العلاّمة موریسون حول بعض الحیوانات.
فمثلاً یقول موریسون عن سمک السلمون:
إنّ سمکة السلمون التی تسبح فی النهر صعداً إذا نقلت إلى نهر آخر، أدرکت تواً أنّه لیس جدولها، فهی تشق طریقها خلال النهر، ثم تحید ضد التیار قاصدة إلى مصیرها.
فما الذی یجعل السمک یرجع إلى مکان مولده بهذا التحدید؟(1).
ویکتب حول بعض الحیوانات التی تسارع إلى تعویض ما فقدته من الأعضاء فیقول:
وکثیر من الحیوانات هی مثل سرطان البحر الذی إذا فقد مخلباً، عرف أنّ جزءاً من جسمه قد ضاع وسارع إلى تعویضه بإعادة تنشیط الخلایا وعوامل
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . المصدر نفسه: 120.
_____________________________________ [الصفحة 218] _____________________________________
الوراثة، ومتى تم ذلک کفت الخلایا عن العمل لأنَّها تعرف بطریقة ما أنّ وقت الراحة قد حان.(1)
ویشیر موریسون إلى صفة انطباق الحیوانات مع المحیط والبیئة، فیقول عن هذه الصفة فی مجال الخلایا:
وقد یمکن السؤال عما إذا کان للخلایا فهم وإدراک أم لا .
وسواء اعتقدنا أنّ الطبیعة قد زودت الخلایا بالغریزة ـ مهما تکن هذه ـ أو بقوة التفکیر، أم لم نعتقد ذلک، فلا مناص لنا من الاعتراف بأنّ الخلایا ترغم على تغییر شکلها وطبیعتها کلها، لکی تتمشى مع احتیاجات الکائن الذی هی جزء منه، وکل خلیة تنتج فی أی مخلوق حی یجب أن تکیف نفسها لتکون جزءاً من اللحم، أو أن تضحی نفسها کجزء من الجلد الذی لا یلبث حتى یبلى، وعلیها أن تضع میناء الأسنان وأن تنتج السائل الشفاف فی العین أو أن تدخل فی تکوین الأنف أو الآذان.
ثم على کل خلیة أن تکیف نفسها من حیث الشکل وکل خاصیة أُخرى لازمة لتأدیة مهمتها.
ومن العسیر أن نتصور أنّ خلیة ما هی ذات ید یمنى أو یسرى، ولکن إحدى الخلایا تصبح جزءاً من الإذن الیمنى، بینما الأُخرى تصبح جزءاً من الأُذن الیسرى(2).
ألیس کل هذا یکشف عن وجود القصد والتمییز فی هذه الموجودات الحیة؟
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . المصدر السابق: 124.
2 . المصدر السابق: 103.
_____________________________________ [الصفحة 219] _____________________________________
وهل هذا إلاّ تفسیر قول النبی موسى ـ علیه السَّلام ـ ، إذ قال:
(ربّنا الذی أعطى کل شیء خلقه ثم هدى) ؟
یبقى أن نعرف أنّنا نستطیع استنتاج وجود مثل هذا الإلهام والوحی والتوجیه الإلهی الموجّه إلى الحیوانات من قول موسى ـ علیه السَّلام ـ ، إذ یذکر فی کلامه أوّلاً ما یتعلّق بالجانب الخلقی الغریزی فی الحیوانات بقوله:
(ربّنا الذی أعطى کل شیء خلقه) .
ثم أشار إلى ذلک الإلهام والوحی الإلهی بقوله:
(ثم هدى) .
بتقریب أنّ فی الفصل بین الجملتین (أعطى کل شیء خلقه) و (هدى)بـ (ثم) التی هی للعطف المتراخى المتأخّر، دلالة أدبیة على أنّ هذه الهدایة لم تخلق مع الحیوانات والحشرات بنحو فطری وجبلی، بل هی هدایة تصل إلى الحشرات عندما تحتاج إلى مثل هذه الهدایة وعندما تواجه ما یضطرها إلى مثل هذا التوجیه والإرشاد الربانیّین، فحینئذ تأتیها هذه الهدایة وینزل إلیها ذلک الوحی والإلهام.
إنّنا نستطیع أن نکتشف آثار هذه الهدایة وهذا الالهام فی عالم الحشرات بجلاء ووضوح، إذا قایسناها بولید الإنسان الذی لا یعرف شیئاً عندما یولد، ولا یمکنه أن یقوم بأی عمل إلاّ بعد مدة من التربیة والرشد، وإلاّ بعد فترة من التعلم والدراسة، وتلقّی المعلومات والمعارف فی المدارس والمعاهد، وإلاّ بعد سلسلة طویلة من التجارب والأخطاء والهفوات.
_____________________________________ [الصفحة 220] _____________________________________
وخلاصة القول: إنّنا نلاحظ فی فعالیات هذه الحشرات عدة أُمور :
أ. أنّ هذه الحشرات تعرف احتیاجاتها وطریق رفعها، بدون معلم مشهود ومنظور .
ب. أنّ هذه الأحیاء تعرف ـ على وجه الدقة ـ أُصول تقسیم أعمالها، وانتخاب وظائفها وطرق تنفیذها على أحسن وجه وبصورة جماعیة.
ج. أنّ هذه الأحیاء تسعى دوماً إلى تطبیق نفسها مع الأوضاع المحیطیة المتغیرة، بل وتحدث هی بعض التغییرات فی جسمها وأعضائها.
وأمام هذه الظاهرة العجیبة، لنا أن نختار إحدى طرق ثلاث:
1. أمّا أن نحتمل بأنّ هذه الأحیاء تملک بنفسها من العقل والإدارک والفهم ما لم یکتشف الإنسان إلاّ جزءاً ضئیلاً یساوی واحداً بالمائة منها.
غیر أنّ هذا الاحتمال لا یمکن أن یرکن إلیه، لأنّ الخلایا النباتیة والحیوانیة لا تملک العقل والفهم لتعالج مشاکلها على ضوئهما.
ومن هنا یتضح سبب عدم إدخالنا للإنسان فی أمثلة هذا الفصل، واقتصارنا على الحشرات کالنحل والنمل وما شابههما، لأنّ الإنسان إنّما یقوم بأعماله على ضوء ما أُوتی من عقل وفکر، بمعنى أنّ بیولجیته وخلایاه ودماغه الکبیر والمفکّر هی التی تضیء له سبیل حیاته دون حاجة إلى إلهام من العالم الأعلى ووحی من خارج.
هذا أمر أدرکه البشر ذاته، وهی بالتالی فکرة واردة فی شأن الإنسان .
أمّا بالنسبة إلى هذه الحیوانات والحشرات فلا یمکن أن یخطر ببال أحد أنّها تملک عقلاً وفکراً، أو لا یمکن أن یخطر لأحد بأنّ الخلایا النباتیة والحیوانیة تملک ـ ذاتیاً ـ
_____________________________________ [الصفحة 221] _____________________________________
ذلک الفهم والفکر والشعور الهادی وتکون ـ هی بذاتها ـ موجدة للأفکار التی تعین تلک الأحیاء على الاهتداء إلى سبل حیاتها.
وحیث إنّ هذا الاحتمال لا یمکن أن یکون وارداً وصحیحاً، لذلک لابد أن نسلک طریقاً آخر بأن نقول:
2. انّ طبیعة البناء المیکانیکی والترکیب المادی لهذه الأحیاء تکفی ـ دون شیء آخر ـ لإیقاع هذه الأعمال، ونقول بالتالی: إنّ اهتداء هذه الأحیاء وما سوى ذلک من الأعمال التی ذکرناها والتی نشاهدها فی عالم النمل والنحل وحشرة الموروفیل أو الاسفنج البحری، کل ذلک إنّما هو نتیجة انتظام الأجزاء والعناصر الجسمانیة لهذه الأحیاء وانضمامها إلى بعض بنحو یؤدی ذلک النظم والترکیب الخاص إلى صدور هذه العملیات والأفعال من هذه الأحیاء بصورة تلقائیة لا إرادیة.
وبعبارة أُخرى: أنّ الخواص الفیزیاویة والکیمیاویة لخلایا هذه الأحیاء هی التی تقتضی وتوجب هذه السلسلة من الأعمال والنشاطات دون تدخل من خارج.
وفی هذه الصورة لن یکون موضوع اهتداء هذه الأحیاء إلى سبیل حیاتها دلیلاً مستقلاً على وجود اللّه، بل یندرج تحت عنوان برهان النظم لکونه مسألة ترجع إلى النظم، فقد جهّزت خلقة هذه الأحیاء بجهاز متین على نظم خاص رصین یقدر معه وبفضله على القیام بشؤون حیاته کالأشجار فیکون اهتداؤها لیس إلاّ مقتضی کیفیة ترکیب أجزائها.
3. أن نختار ما اختاره بعض المحقّقین إذ قال ما خلاصته: إنّ الحرکات
_____________________________________ [الصفحة 222] _____________________________________
والفعّالیات الصادرة من أی جهاز من الأجهزة إنّما یمکن التنبّؤ بها من قبل ما دامت ترتبط بنفس ذلک الجهاز وترکیبته، بمعنى أنّ نفس الجهاز المادی وتشکیلاته الداخلیة تکون کافیة لأن تکون الإحاطة به سبباً للتنبّؤ بأعماله وفعالیاته.
وبعبارة أُخرى: انّ ما تقوم به هذه الحشرات من الأعمال البدیعة إنّما تصح نسبتها إلى الجهاز المیکانیکی إذا کان ذلک الجهاز کافیاً فی صدور تلک الأعمال منها بأن یکون نفس نظام ذلک الجهاز وکیفیة ترکیبه کافیاً فی القیام بهذه الأعمال.
وأمّا عندما یصل الأمر إلى موضع لا یجب أن یقوم ذلک الجهاز فیه بفعل مخصوص بل یواجه مفترق طریقین، ومع ذلک یختار أحد الطریقین مما یکون موصلاً إلى الهدف فهناک لابد من الإذعان بأنّ مجرد النظم المادی لذلک الجهاز غیر کاف لاختیار أحد الطریقین دون سواه، بل انّ هذا النوع من الاهتداء والانتخاب کاشف عن وجود رابطة خفیة بین الجهاز المذکور وبین مصیره، وأنّ هذه الحقیقة، أعنی: الابتکار والابتداع، دلیل على الهدایة من النوع الثانی أی الذی لا یرتبط بنفس الجهاز ونفس نظامه وترکیبه العضوی بل یرتبط بهدایة علیا.
إنّ آلة حاسبة یمکن أن تصنع وتنظم بشکل تؤدی کل عملیات الجمع والطرح والضرب والتقسیم الحسابیة بدقة متناهیة، ولکن من المستحیل أن تقدر هذه الآلة الحاسبة على القیام بابتکار وابتداع قاعدة ریاضیة واحدة.
وهکذا الأمر بالنسبة إلى آلة ترجمة فإنّها قادرة على ترجمة کلام شخص أو مقالة، ترجمة دقیقة متقنة، ولکن نظمها لا یقدر ـ أبداً ـ على تصحیح أخطاء ذلک
_____________________________________ [الصفحة 223] _____________________________________
القائل والقیام بعمل ابتکاری، وابداعی من هذا النمط.(1)
ونستخلص مما سبق أنّ القدرة الغیبیة الخفیة التی تهدی هذه الأحیاء، قوة واسعة مطلقة تحیط علماً بکل الحشرات، إحاطة شاملة کاملة وهی عنده بمنزلة سواء.
وتلک القوة الهادیة العظیمة لیست سوى اللّه تعالى أو سائر القوى الغیبیة المدبّرة لأُمور الکون العاملة بإذن اللّه ومشیئته، التی أُنیطت إلیها هدایة هذه الحشرات وإرشادها وتوجیهها.
وأخیراً لابد من الإشارة إلى نکتة مهمة وهی:
أنّ هذا البرهان سواء رجع إلى برهان النظم بمعنى أنّ أعمال هذه الأحیاء ما هی إلاّ نتیجة النظم المادی الحاکم على ترکیبتها المادیة، وتشکیلاتها الداخلیة، أو قلنا بأنّ هناک قوة هادیة هی التی تقوم بهدایة هذه الحشرات إلى تلک الأعمال والمواقف العجیبة، وتساعدها فی هذه الابتکارات والإبداعات فیکون هذا برهاناً مستقلاً بنفسه.
أقول: سواء کان هذا أم ذلک فإنّ مما لا شک فیه انّ دراسة الأحیاء فی حد ذاتها واحدة من سبل معرفة اللّه وإحدى الطرق للتعرف علیه.
وقد اعتمد القرآن على ذلک فی غیر الآیة المذکورة ـ فی مطلع بحثنا هذا ـ إذ یقول ـ فی موضع آخر ـ مخبراً عن اللّه بأنّه:
(الَّذِی خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِی قَدَّرَ فَهَدَى).(2)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . راجع تعالیق أُصول الفلسفة للأُستاذ الشهید مرتضى مطهری: 49 ـ 51.
2 . الأعلى: 2 ـ3.
_____________________________________ [الصفحة 224] _____________________________________
والجدیر بالذکر أنّ الإمام علیاً ـ علیه السَّلام ـ أشار إلى هذا البرهان ذاته عندما تحدّث عن خلقة النمل قائلاً:
و لو فکروا فی عظیم القدرة، وجسیم النعمة لرجعوا إلى الطریق وخافوا عذاب الحریق، ولکن القلوب علیلة والبصائر مدخولة!
ألا ینظرون إلى صغیر ما خلق، کیف أحکم خلقه، وأتقن ترکیبه، وفلق له السمع والبصر، وسوى له العظم والبشر ؟
انظروا إلى النملة فی صغر جثتها، ولطافة هیئتها، لا تکاد تنال بلحظ البصر، ولا بمستدرک الفکر، کیف دبتّ على أرضها، وصبت على رزقها، تنقل الحبة إلى جحرها، وتعدّها فی مستقرها، تجمع فی حرّها لبردها، وفی ورودها لصدرها، مکفولة برزقها، مرزوقة بوفقها، لا یغفلها المنّان، ولا یحرمها الدیّان ولو فی الصفا الیابس والحجر الجامس!
ولو فکرت فی مجاری أکلها فی علوها وسفلها، وما فی الجوف من شراسیف بطنها، وما فی الرأس من عینها وأذنها، لقضیت من خلقها عجباً، ولقیت من وصفها تعباً! فتعالى الذی أقامها على قوائمها، وبناها على دعائمها! لم یشرکه فی فطرتها فاطر، ولم یعنه فی خلقها قادر، ولو ضربت فی مذاهب فکرک لتبلغ غایاته ما دلتک الدلالة إلاّ على أنّ فاطر النملة هو فاطر النخلة لدقیق تفصیل کل شیء وغامض اختلاف کل حی، وما الجلیل واللطیف والثقیل والخفیف والقوی والضعیف فی خلقه إلاّ سواء.
وفی سیاق هذا الکلام یقول الإمام ـ علیه السَّلام ـ :
_____________________________________ [الصفحة 225] _____________________________________
وهل یکون بناء من غیر بان، أو جنایة من غیر جان؟.(1)
وتبعه فی ذلک الإمام الصادق ـ علیه السَّلام ـ حیث ذکر فی أمالیه التی أملاها على تلمیذه المفضل إذا قال عن النحل مثلاً:
انظر إلى النحل واحتشاده فی صنع العسل، وتهیئته البیوت المسدّسة، وما ترى فی ذلک من دقائق الفطنة، فإنّک إذا تأمّلت العمل رأیته عجیباً، وإذا رأیت المعمول (أی العسل) وجدته عظیماً شریفاً موقعه من الناس.
وإذا راجعت إلى الفاعل (أی النحل) ألفیته غبیاً جاهلاً بنفسه(2) فضلاً عمّـا سوى ذلک، ففی هذا أوضح الدلالة على أنّ الصواب والحکمة فی هذه الصنعة لیس للنحل، بل هی للذی طبعه علیها وسخّره فیها لمصلحة الناس.(3)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . نهج البلاغة: الخطبة: 180، وللإمام نظیر هذا الکلام فی الخفاش والطاووس والجراد، راجع نهج البلاغة.
2 . قال المجلسی ـ رحمه اللّه ـ فی بحار الأنوار فی تعلیقته: 3/110 على هذا المقطع من کلام الإمام: أی لیس له عقل یتصرف فی سائر الأشیاء على نحو تصرفه فی ذلک الأمر المخصوص، فظهر أنّ خصوص هذا الأمر (الهام) من مدبّر حکیم.
3 . المصدر السابق.
_____________________________________ [الصفحة 226] _____________________________________
_____________________________________ [الصفحة 227] _____________________________________
الفصل الرابع [227-254]التوحید الاستدلالی: البرهان الثانی عشر [205-211]
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma