3 العبادة هی الخضوع عن اعتقاد بإلوهیة [455-468]

SiteTitle

صفحه کاربران ویژه - خروج
ورود کاربران ورود کاربران

LoginToSite

SecurityWord:

Username:

Password:

LoginComment LoginComment2 LoginComment3 .
SortBy
 
مفاهیم القرآن
4 ماذا یراد من التفویض؟ [469-486]2 هل العبادة هی مطلق الخضوع أو التکریم؟ [442-454]
المعبود وربوبیته واستقلاله فی فعله
لفظ العبادة من المفاهیم الواضحة کالماء والأرض، فهو مع وضوح مفهومه یصعب التعبیر عنه بالکلمات رغم حضور هذا المفهوم فی الأذهان، والعبادة کما هی واضحة مفهوماً، فهی واضحة ـ کذلک ـ مصداقاً بحیث یسهل تمییز مصادیقها عن مصادیق التعظیم والتکریم وغیرهما من المفاهیم، فتقبیل العاشق الولهان دار معشوقته، واحتضان ثیابها شوقاً، أو تقبیل تراب قبرها بعد الموت، لا یدعى عبادة للمعشوقة.
کما أنّ ذهاب الناس إلى زیارة من یعنیهم من الشخصیات، والوفود إلى مقابرهم لزیارتها والوقوف أمامها احتراماً، وإجراء مراسم وطقوس خاصة لدیها لا یعد عبادة ـ أبداً ـ وإن کانت هذه الأفعال تبلغ ـ فی بعض الأحایین ـ من حیث شدّة الخضوع إلى درجة کبیرة، إنّ الضمائر الیقظة هی وحدها تقدر على أن تکون الحکم العدل ـ فی مثل هذا البحث ـ لتمییز الاحترام والتعظیم عن العبادة، دون حاجة إلى تکلّف، ولکن إذا تقرر أن نعرّف العبادة بتعریف موضوعی أمکننا أن
_____________________________________ [الصفحة 456] _____________________________________
نعرّفها بثلاثة تعاریف:
التعریف الأوّل
العبادة: هی الخضوع اللفظی أو العملی الناشئ عن الاعتقاد بـ إلوهیة المخضوع له; وسیوافیک معنى الإلوهیة.
وآیات کثیرة تدل على هذا التفسیر، فمن ملاحظة هذه الآیات یتضح لنا أمران:
الأوّل: انّ العرب الجاهلیین الذین نزل القرآن فی أوساطهم وبیئاتهم کانوا یعتقدون بالوهیة معبوداتهم.
الثانی: أنّ العبادة عبارة عن القول أو العمل الناشئین من الاعتقاد بإلوهیة المعبود، وانّه ما لم ینشأ الفعل أو القول من هذا الاعتقاد لا یکون الخضوع أو التعظیم والتکریم عبادة.
فهنا دعویان:
الأُولى: انّ العرب الجاهلیین بل الوثنیین کلّهم وعبدة الشمس والکواکب والجن، کانوا یعتقدون بإلوهیة معبوداتهم، ویتخذونهم آلهة صغیرة وفوقهم الإله الکبیر الذی نسمّیه اللّه سبحانه .
الثانیة: انّ الظاهر من الآیات هو انّ العبادة عبارة عن الخضوع المحکی بالقول والعمل الناشئین من الاعتقاد بالإلوهیة، إلوهیة صغیرة أو کبیرة .
أمّا الدعوى الأُولى، فتدل علیها آیات کثیرة نشیر إلى بعضها:
_____________________________________ [الصفحة 457] _____________________________________
یقول سبحانه :
(الَّذِینَ یَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ یَعْلَمُونَ).(1)
(وَالَّذِینَ لاَ یَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ ).(2)
(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ آلِهَةً لِیَکُونُوا لَهُمْ عِزّاً).(3)
(أَئِنَّکُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى).(4)
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِیمُ لأبِیهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً).(5)
فهذه الآیات تشهد على أنّ دعوة المشرکین کانت مصحوبة بالاعتقاد بإلوهیة أصنامهم، وقد فسر الشرک فی بعض الآیات باتخاذ الإله مع اللّه، وذلک عندما یقول سبحانه :
(وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِکِینَ * إِنَّا کَفَیْنَاکَ الْمُسْتَهْزِئِینَ * الَّذِینَ یَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ یَعْلَمُونَ).(6)
ولذلک یفسر القرآن حقیقة الشرک بـ اعتقادهم بإلوهیة معبوداتهم، إذ قال سبحانه :
(أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَیْرُ اللّهِ سُبْحَانَ اللّهِ عَمَّا یُشْرِکُونَ).(7)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الحجر: 96.
2 . الفرقان: 68.
3 . مریم: 81.
4 . الأنعام: 19.
5 . الأنعام: 74.
6 . الحجر: 94 ـ 96.
7 . الطور: 42.
_____________________________________ [الصفحة 458] _____________________________________
ففی هذه الآیة جعل اعتقادهم بإلوهیة غیر اللّه هو الملاک للشرک، والمراد هنا الشرک فی العبادة.
وبمراجعة هذه الآیات ونظائرها التی تعرضت لموضوع الشرک وبالأخص لموضوع شرک الوثنیین تتجلى هذه الحقیقة ـ بوضوح تام ـ أنّ عبادتهم کانت مصحوبة مع الاعتقاد بإلوهیتها، بل یمکن استظهار أن شرکهم کان لأجل اعتقادهم بإلوهیة معبوداتهم، ولأجل ذاک الاعتقاد کانوا یعبدونهم ویقدّمون لهم النذور والقرابین وغیرهما من التقالید والسنن العبادیة، وبما أنّ کلمة التوحید تهدم عقیدتهم بإلوهیة غیره سبحانه ، کانوا یستکبرون عند سماعه کما قال سبحانه :
(إِنَّهُمْ کَانُوا إِذَا قِیلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلا اللّهُ یَسْتَکْبِرُونَ).(1)
أی یرفضون هذا الکلام لأنّهم یعتقدون بإلوهیة معبوداتهم ویعبدونها لأجل أنّها آلهة ـ حسب تصوّرهم ـ .
ولأجل تلک العقیدة السخیفة کانوا إذا دعی اللّه وحده کفروا به لأنّهم لا یحصرون الإلوهیة به وإذا أشرک به آمنوا، لانطباقه على فکرتهم کما قال سبحانه :
(ذَلِکُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِیَ اللّهُ وَحْدَهُ کَفَرْتُمْ وَإِنْ یُشْرَکْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُکْمُ للّهِ الْعَلِىِّ الْکَبِیرِ).(2)
إلى هنا ظهرت الدعوى الأُولى بوضوح وجلاء.
وأمّا الدعوى الثانیة فتدل علیها الآیات التی تأمر بعبادة اللّه، وتنهى عن عبادة غیره، مدللاً ذلک بأنّه لا إله إلاّ اللّه، إذ یقول:
(یَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ مَالَکُمْ مِنْ إِله غَیْرَهُ).(3)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الصافات: 35.
2 . غافر: 12.
3 . الأعراف: 59.
_____________________________________ [الصفحة 459] _____________________________________
ومعنى ذلک أنّ الذی یستحق العبادة هو من کان إلهاً، ولیس هو إلاّ اللّه، وعندئذ فکیف تعبدون ما لیس بإله؟! وکیف تترکون عبادة اللّه وهو الإله الذی یجب أن یُعبد دون سواه؟!
وقد ورد مضمون هذه الآیة فی (10) موارد أو أکثر فی القرآن الکریم ، ویمکن للقارئ الکریم أن یراجع ـ لذلک ـ الآیات التالیة:
الأعراف: 65، 73، 85، هود: 50، 61، 84، الأنبیاء: 25، المؤمنون: 23، 32، طه: 14.
فهذه التعابیر (التی هی من قبیل تعلیق الحکم على الوصف) تفید أنّ العبادة هی ذلک الخضوع والتذلّل النابعین من الاعتقاد بإلوهیة المعبود، إذ نلاحظ ـ بجلاء ـ کیف أنّ القرآن استنکر على المشرکین عبادة غیر اللّه بأنّ هذه المعبودات لیست آلهة، وإنّ العبادة من شؤون الإلوهیة، فإذا وجد هذا الوصف (أی وصف الإلوهیة) فی الطرف جاز عبادته واتخاذه معبوداً، وحیث إنّ هذا الوصف لا یوجد إلاّ فی اللّه سبحانه لذلک یجب عبادته دون سواه.
سؤال وجواب
أمّا السؤال فهو أنّه لا شک أنّ الدعوى الأُولى ثابتة، فالمشرکون کانوا معتقدین بإلوهیة الأوثان، وما أورد من الآیات قد أثبتت ذلک بوضوح، غیر أنّ الدعوى الثانیة غیر ثابتة، وقصارى ما یستفاد من هذه الآیات هو أنّ عبادتهم کانت ناشئة من الاعتقاد بالوهیتها، وهذا لا یدل على دخول مفهوم الإلوهیة فی مفهوم العبادة کما هو المدّعى ، أو دخول کون النشوء عن ذلک الاعتقاد، فی مفهومها.
_____________________________________ [الصفحة 460] _____________________________________
وعلى الجملة فهذه الآیات لا تدل على أکثر من أنّ عبادتهم للأوثان کانت مصحوبة بهذا الاعتقاد أو ناشئة عنه.
وأمّا کون العبادة موضوعة للخضوع الناشئ عن الاعتقاد بالإلوهیة، بحیث یکون النشوء عن تلک العقیدة جزءاً لمعنى العبادة فلا یستفاد من الآیات .
وأمّا الجواب فنقول: إنّما یرد الإشکال لو قلنا بأنّ الاعتقاد بالإلوهیة داخل فی مفهوم العبادة وضعاً، حتى یقال انّ هذه الآیات لا تعطی أزید من أنّ العبادة من شؤون الإلوهیة، وهذا غیر القول باندراج مفهوم الإلوهیة فی مفهوم العبادة ، إنّما المراد أنّ العبادة لیست مطلق الخضوع والتذلّل، بل أضیق وأخص منهما وهذا أمر یعرفه کل إنسان بوجدانه وفطرته، غیر أنّنا نشیر إلى هذه الخصوصیة ونمیز هذا الضیق بأنّه خضوع ناشئ عن الاعتقاد بالإلوهیة أو الربوبیة کما سیوافیک فی التعریف الثانی، لا أنّ هذه الجملة (ناشئ عن الاعتقاد بالإلوهیة والربوبیة) داخلة بتفصیلها فی مفهوم العبادة ، ومعناها.
وبعبارة أُخرى: إنّ الإنسان قد لا یقدر على تعریف شیء بنوعه وفصله، أو حدّه ورسمه حتى یحدّه تحدیداً عقلیّاً لا خدشة فیه، ولکنّه یجد فی نفسه ما هو بمنزلة الجنس والفصل فیضعهما مکان الجنس والفصل الواقعیین، والأمر فیما نحن فیه کذلک، إذ نجد أنّ التعظیم والخضوع والتذلّل وما أشبههما أمر مشترک بین العبادة وغیرها فیتصوّره بمنزلة الجنس لها، ویجد أنّ العبادة تتمیز بخصوصیة عن غیرها، ولکنه لا یقدر على بیان تلک الخصوصیة بلفظ بسیط فیتوسل بوضع جملة مکانه وهی ما ذکرناها: ناشئ عن الاعتقاد بالإلوهیة ویضعها مکان الفصل.
وبعبارة ثالثة: انّ الإنسان یجد أنّ العبادة لیست مطلق التعظیم ونهایة التذلّل،
_____________________________________ [الصفحة 461] _____________________________________
بل هی من خصائص من بیده شؤون الإنسان کلها، أو شأناً من شؤونه مما به قوام حیاته عاجلاً أو آجلاً من الموت والحیاة، والخلق والرزق، والسعادة والشقاء، والمغفرة والشفاعة، فیدیر شؤونه ویخطط مصیره حسب ما یلیق به.
غیر أنّ هذه الجمل لیست بتفصیلها داخلة فی مفهوم العبادة . ولکنّه یشار إلى تلک الخصوصیة الکامنة والضیق الموجود فیها، بهذه الجمل والتفاصیل، وحاشا أن تؤخذ هاتیک الجمل فیها بطولها.
وعلى ذلک فیصح أن یقال: العبادة قسم خاص من التواضع والخضوع لفظیاً أو عملیاً،
(یؤتى به لتعظیم ما یعتقده العابد بإلوهیته)، وما وقع بین الهلالین وإن کان خارجاً عن مفهوم العبادة، إلاّ أنّه یبیّن ماهو المقصود من القسم الخاص من الخضوع فی أوّل العبارة.
ولذلک نظائر فی العرف والعادة، مثلاً :
1. یعرف القوس بأنّه قطعة من الدائرة، ولا شک أنّه من باب زیادة الحد على المحدود، إذ لا یعتبر فی صدق القوس کونه قطعة من الدائرة، بل هو یصدق وإن لم یکن قطعة منها (أی من الدائرة)، إذ هو (أی القوس) عبارة عن سطح یحیط به خیط مستدیر ینتهی طرفاه بنقطتین، من غیر اعتبار کونه بعضاً من الدائرة.
إلاّ أنّ أخذ هذا القید، (أعنی: کونه بعض الدائرة، من باب بیان الخصوصیة الموجودة فیه بحیث لو انضم إلیه قوس آخر لتحقّقت الدائرة.
2. إنّ اللغویین یفسرون الصهیل بأنّه صوت الفرس، والزقزقة بأنّها صوت العصفور، فلیس الفرس والعصفور داخلین فی مفهومهما البسیطین، وإنّما جیء
_____________________________________ [الصفحة 462] _____________________________________
بقید الفرس والعصفور، للإشارة إلى تعیین صوت خاص.
***
إلى هنا اتضح أنّ الحق فی التعریف هو أن یقال: العبادة هی الخضوع النابع عن الاعتقاد بإلوهیة المعبود، وإلى ذلک یشیر آیة اللّه الحجة المرحوم الشیخ محمد جواد البلاغی، فی تفسیره المسمّى بـ آلاء الرحمن فی معرض تفسیره وتحلیله لحقیقة العبادة: العبادة ما یرونه مشعراً بالخضوع لمن یتخذه الخاضع إلهاً لیوفیه بذلک ما یراه له من حق الامتیاز بالإلوهیة.(1)
لقد صب العلاّمة البلاغی ما یدرکه فطریاً للعبادة فی قالب الألفاظ والبیان. و الآیات المذکورة تؤید صحة هذا التعریف واستقامته.
التعریف الثانی
العبادة هی الخضوع أمام من یعتقد بأنّه یملک شأناً من شؤون وجوده وحیاته وآجله وعاجله.
وتوضیح ذلک: انّ العبودیة من شؤون المملوکیة ومن مقتضیاتها، فعندما یحس العابد فی نفسه بنوع من المملوکیة، ویحس فی الطرف الآخر بالمالکیة، یفرغ إحساسه هذا ـ فی الخارج ـ فی ألفاظ وأعمال خاصة، وتصیر الألفاظ والأعمال تجسیداً لهذا الإحساس، ویکون کل عمل أو لفظ مظهراً لهذا الإحساس العمیق عبادة، ولا شک أنّ المقصود بالمالکیة لیس مطلق المالکیة، فالاعتقاد بالمالکیة القانونیة والاعتباریة لا یکون ـ أبداً ـ موجباً لصیرورة الخضوع عبادة، إذ أنّ البشر
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . آلاء الرحمن: 57 طبعة صیدا، وقد طبع من هذا التفسیر جزءان فقط.
_____________________________________ [الصفحة 463] _____________________________________
فی عصور: العبودیات الفردیة بالأمس، وکذا فی عصر : العبودیة الجماعیة الحاضر لا یعد امتثاله لأوامر أسیاده عبادة، فلابد أن یکون المقصود من المملوکیة ـ هنا ـ هی القائمة على أساس الخلق والتکوین وأنّ شأناً من شؤون حیاته فی قبضته.
وإلیک بیان مناشئ أنواع المالکیات الحقیقیة:
1. قد یوصف بالمالکیة لکونه خالقاً، ولذلک یکون اللّه سبحانه مالکاً حقیقیاً للبشر، لأنّه خالقه، وموجده من العدم، ولهذا نجد القرآن الکریم یعتبر جمیع الموجودات الشاعرة ـ مثلاً ـ عبیداً للّه، ویصفه تعالى بأنّه مالکها الحقیقی وذلک لأنّه خلقها إذ یقول:
(إِن کُلُّ مَنْ فِی السَّموَاتِ وَالأرْضِ إِلاَّ آتِی الرَّحْمَنِ عَبْداً).(1)
ولأجل ذلک أیضاً نجده یأمرهم بعبادة نفسه معلّلاً بأنّه هو ربّهم الذی خلقهم دون سواه، إذ یقول:
(یَا أَیُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّکُمْ الَّذِی خَلَقَکُمْ وَالَّذِینَ مِنْ قَبْلِکُمْ).(2)
(ذَلِکُمْ اللّهُ رَبُّکُمْ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ کُلِّ شَیْء فَاعْبُدُوهُ).(3)
2. وقد یوصف بالمالکیة لکونه رازقاً ومحییاً وممیتاً، ولذلک یحس کل بشر سلیم الفطرة بمملوکیته للّه تعالى، لأنّه مالک حیاته ومماته ورزقه، ولهذا یلفت القرآن نظر البشر إلى مالکیة اللّه لرزق الإنسان وانّه تعالى هو الذی یمیته، وهو
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . مریم: 93.
2 . البقرة: 21.
3 . الأنعام: 102.
_____________________________________ [الصفحة 464] _____________________________________
الذی یحییه، لیلفته من خلال ذلک إلى أنّ اللّه هو الذی یستحق العبادة فحسب، إذ یقول:
(اللّهُ الَّذِی خَلَقَکُمْ ثُمَّ رَزَقَکُمْ ثُمَّ یُمِیتُکُمْ ثُمَّ یُحْیِیکُمْ).(1)
(هَل لَکُمْ مِن مَا مَلَکَتْ أَیْمَانُکُمْ مِن شُرَکَاءُ فِی مَا رَزَقْنَاکُمْ).(2)
(هُوَ یُحْیِی وَیُمِیتُ).(3)
3. وقد یوصف بها لکون الشفاعة والمغفرة بیده ،وحیث إنّ اللّه تعالى هو المالک للشفاعة المطلقة:
(قُلْ للّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِیعاً)(4)، ولمغفرة الذنوب (وَمَنْ یَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ)(5)، بحیث لا یملک أن یشفع أحد لأحد من العباد إلاّ بإذنه، لذلک یشعر الإنسان العادی فی قرارة ضمیره بأنّ اللّه سبحانه مالک مصیره من حیث السعادة الأُخرویة، وإذا أحس إنسان بمملوکیة کهذه ومالکیة مثل تلک ثم جسد هذا الإحساس فی قالب اللفظ أو العمل فإنّه یکون بذلک عابداً له دون ریب.
وإلى ذلک یرجع ما ربما یفسر العبادة بأنّها الخضوع أمام من یعتقد بربوبیته، فمن کان خضوعه العملی أو القولی أمام أحد نابعاً من الاعتقاد بربوبیة ذلک الطرف کان بذلک عابداً له.
قال آیة اللّه السید الخوئی فی تفسیر العبادة بأنّه: إنّما تتحقّق العبادة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الروم: 40.
2 . الروم: 28.
3 . یونس: 56.
4 . الزمر: 44.
5 . آل عمران: 135.
_____________________________________ [الصفحة 465] _____________________________________
بالخضوع لشیء على أنّه ربٌّ یعبد.(1)
فالمقصود من لفظة الرب فی التعریف هو المالک لشؤون الشیء المتکفّل لتدبیره وتربیته، وقد أوضحنا معنى الرب فی الفصل الثامن.
وعلى ذلک تکون لفظة العبودیة فی مقابل لفظة الربوبیة، أی مالکیة تربیة الشیء وتدبیره، ومصیره عاجلاً وآجلاً.
ویدل على ذلک أنّ قسماً من الآیات تعلّل الأمر بحصر العبادة فی اللّه وحده بأنّه الرب لا غیر ، وإلیک بعض هذه الآیات :
(وَقَالَ الْمَسِیحُ یَا بَنِی إِسْرَائِیلَ اعْبُدُوا اللّهَ رَبِّی وَرَبَّکُمْ).(2)
(إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُکُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنا رَبُّکُمْ فَاعْبُدُونِ).(3)
(إِنَّ اللّهَ رَبِّی وَرَبُّکُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِیمٌ).(4)
وقد ورد مضمون هذه الآیات ، أعنی: جعل العبادة دائرة مدار الربوبیة، فی آیات أُخرى هی:
یونس: 3، الحجر: 99، مریم: 36، 65، الزخرف: 64.
ولأجل ما ذکرناه فسّر آیة اللّه الخوئی العبادة على النحو الذی مرّ علیک.
وعلى کل حال فإنّ أوضح دلیل على هذا التفسیر للفظ العبادة هو الآیات التی سبق ذکرها.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . البیان: 503 طبعة عام1394 هـ.
2 . المائدة: 72.
3 . الأنبیاء: 92.
4 . آل عمران: 51.
_____________________________________ [الصفحة 466] _____________________________________
سؤال وجواب
أمّا السؤال فهو: لا شک أنّ العبادة مفهوم بسیط وجدانی، فکیف یفسر هذا المفهوم البسیط بهذا التعریف المفصّل؟ وبعبارة أُخرى: لو قلنا بدخول مفهوم الرب فی مفهوم العبادة، یلزم تتابع إدراج مفاهیم متعددة فی مفهوم بسیط وجدانی، فیدخل فی مفهومها مفهوم الرب، والمالکیة، والقسم الخاص من المالکیة مما یلیق بشأنه تعالى ... وهذا مما لا یقبله الوجدان السلیم.
أمّا الجواب: فقد تقدم توضیحه فی التعریف الأوّل، أی تعریف العبادة بالخضوع الناشئ عن الاعتقاد بالإلوهیة، وقلنا: لیس المراد من التعریف أخذ هذه المفاهیم الکثیرة فی مفهوم العبادة التی لها مفهوم بسیط، بل المراد هو إیضاح القسم الخاص من الخضوع الذی یتبادر من لفظ العبادة، إذ لا شک أنّ العبادة لیست مطلق الخضوع بل القسم الخاص منها، ولتوضیح هذه الخصوصیة نتشبث بهذه الجملة وأشباهها.
التعریف الثالث
ویمکننا أن نصب إدراکنا للعبادة فی قالب ثالث، فنقول:
إنّ العبادة هی الخضوع ممن یرى نفسه غیر مستقل فی وجوده وفعله، أمام من یکون مستقلاً، وقد وصف اللّه سبحانه نفسه ـ فی غیر موضع من کتابه ـ بالقیوم، فقال عزّ وجل:
(اللّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَیُّ الْقَیُّومُ).(1)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . البقرة: 255 و آل عمران: 2.
_____________________________________ [الصفحة 467] _____________________________________
وقال سبحانه : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَىِّ الْقَیُّومِ).(1)
ولا یراد منه سوى کونه قائماً بنفسه، ولیست فیه أیّة شائبة من الفقر والحاجة إلى الغیر، بل کل ما سواه قائم به.
وعلى ذلک فلو خضع واحد منا أمام موجود زاعماً بأنّه مستقل فی ذاته أو فعله لصار الخضوع عبادة، بل لو طلب فعل اللّه سبحانه من غیره کان هذا الطلب نفسه عبادة وشرکاً، فإنّ الطلب فی هاتیک الموارد لا ینفک عن الخضوع، فالذی یجب الترکیز علیه هو أن نعرف ما هو فعل اللّه سبحانه ، ونمیّزه عن فعل غیره حتى لا نقع فی ورطة الشرک عند طلب شیء من الأنبیاء والأولیاء وغیرهم من الناس فنقول:
إنّ من أقسام الشرک هو أن نطلب فعل اللّه من غیره، والمعلوم أنّ فعل اللّه لیس هو مطلق الخلق والتدبیر والرزق سواء أکان عن استقلال أم بإذن اللّه، لأنّه سبحانه نسبها إلى غیره فی القرآن ، بل هو القیام بالفعل مستقلاً من دون استعانة بغیره فلو خضع أحد أمام آخر بما أنّه مستقل فی فعله سواء أکان الفعل فعلاً عادیاً کالمشی والتکلم، أم غیر عادی کالمعجزات التی کان یقوم بها سیدنا المسیحعلیه السَّلام (2)، مثلاً، یعد الخضوع عبادة للمخضوع له.
توضیحه: انّ اللّه سبحانه غنی فی فعله، کما أنّه غنی فی ذاته عما سواه فهو
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . طه: 111.
2 . کما فی الآیة 49 من آل عمران: (أَنِّی أَخْلُقُ لَکُمْ مِنَ الطِّینِ کَهِیْئةِ الطَّیْرِ فَأَنفُخُ فِیهِ فَیَکُونُ طَیْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأکْمَهَ والأبْرَصَ وَأُحْیِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُکُمْ بِمَا تَأْکُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِی بُیُوتِکُمْ) .
_____________________________________ [الصفحة 468] _____________________________________
یخلق ویرزق ویحیی ویمیت من دون أن یستعین بأحد(1)، أو یستعین فی خلقه بمادة قدیمة غیر مخلوقة له، بل اللّه سبحانه یخلق الجمیع بنفسه من دون استعانة بأحد أو بشیء، فهو یخلق المادة ویصورها کیف شاء، فلو اعتقدنا أنّ أحداً مستغن فی فعله العادی، وغیر العادی عمّن سواه، وإنّه یقوم بما یرید من دون استعانة أو استمداد من أحد حتى اللّه سبحانه، فقد أشرکناه مع اللّه واتخذناه نداً له تعالى.
وصفوة القول هی: إنّ ملاک البحث فی هذا التعریف هو: استقلال الفاعل فی فعله وعدم استقلاله، والتوحید بهذا المعنى مما یشترک فیه العالم والجاهل.
نعم ما یدرکه المتألّه المثالی من التفاصیل فی مورد الاستقلال فی المعبود وعدمه فی العابد على ضوء الأدلة العقلیة والکتاب العزیز مما یدرکه غیره أیضاً بفطرته التی خلق علیها، وعقلیته التی نما علیها، فلا یلزم من اختصاص فهم التفاصیل بهذه الطبقة (أی المتألهین البصیرین) حرمان العرب الجاهلیین من فهم معانی العبادة ومشتقاتها الواردة فی القرآن ومحاوراتهم العرفیة، فالعبادة بهذا المعنى (أی باعتقاد کون المعبود مستقلاً) یشترک فیه العالم والجاهل، والکامل وغیر الکامل، غیر أنّ کل فرد من الناس یفهمه على قدر ما أُعطی من الفهم والدرک کما قال سبحانه : (فَسَالَتْ أَوْدِیَةٌ بِقَدَرِهَا).(2)
غیر أنّ الدارج فی ألسن المتکلّمین هو التفویض فلنشرح مقاصدهم.

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . نعم قد سبق منا عند البحث عن التوحید فی الربوبیة أنّ کون اللّه سبحانه لا یستعین ـ فی فعله بأحد لا یلازم أن یقوم بنفسه بکل الأُمور ، وبأن تکون ذاته مصدراً للخلق والرزق والإحیاء والإماتة من دون أن یتسبب فی کل ذلک بالأسباب، بل معناه أن یکون فی فعله ـ سواء فی أفعاله المباشریة أو التسبیبیة ـ مستغنیاً عن غیره، وإن کانت أفعاله جاریة عبر نظام الأسباب والعلل.
2 . الرعد: 17.
_____________________________________ [الصفحة 469] _____________________________________
4 ماذا یراد من التفویض؟ [469-486]2 هل العبادة هی مطلق الخضوع أو التکریم؟ [442-454]
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma