کما ورد سابقاً فانّ هذه الخطبة بالمجموع تتکهن بحوادث المستقبل وتفید القرائن والعبارات الواردة فیها، أنّ الإمام (علیه السلام) قد أشار إلى الحوادث ما قبل ظهور الإمام المهدی(علیه السلام)ومن ثم قیامه المبارک.
فقد قال الإمام (علیه السلام): «وَأَخَذُوا یَمِیناً وَشِمَالاً ظَعْناً فِی مَسَالِکِ الْغَیِّ، وَتَرْکاً لِمَذَاهِبِ الرُّشْدِ. فَلاَ تَسْتَعْجِلُوا مَا هُوَ کَائِنٌ مُرْصَدٌ(1)، وَلاَ تَسْتَبْطِئُوا مَا یَجِیءُ بِهِ الْغَدُ».
ثم خاض الإمام (علیه السلام) فی ذکر الدلیل لترک الاستعجال فقال: «فَکَمْ مِنْ مُسْتَعْجِل بِمَا إِنْ أَدْرَکَهُ وَدَّ أَنَّهُ لَمْ یُدْرِکْهُ. وَمَا أَقْرَبَ الْیَوْمَ مِنْ تَبَاشِیرِ(2) غَد!»، إشارة إلى الانتصارات الموعودة بعد الفتن (لاسیّما ظهور المهدی (علیه السلام) الذی وردت الوعود الصریحة فی عصر النبی بشأن بسط العدل والقسط فی کافة أنحاء العالم)، وفی عدم استعجالها وذلک لأنّ لکل شیء زمان وشرائط، وما لم تحصل الشرائط فهى کالثمار الخام وتقطف من الشجرة فلا یؤدّی ذلک سوى إلى الندم.
ثم خاطب الناس قائلاً بأنّ الآن أوان تحقق ما وعدتم به (من ظهور الفتن والبلابل وسلطة الظلمة وزیادة الضغط على المظلومین): «یَا قَوْمِ، هذَا إِبَّانُ(3) وُرُودِ کُلِّ مَوْعُود، وَدُنُوٍّ مِنْ طَلْعَةِ مَا لاَ تَعْرِفُونَ».
ثم تحدّث بصورة أوضح عن هذا الظهور العظیم فقال: «أَلاَ وَإِنَّ مَنْ أَدْرَکَهَا مِنَّا یَسْرِی فِیهَا بِسِرَاج مُنِیر، وَیَحْذُو(4) فِیهَا عَلَى مِثَالِ الصَّالِحِینَ»، ثم تطرق فی مواصلته لحدیثه إلى برامج ذلک المصلح الکبیر بعبارات قصیرة عمیقة المعنى، فقال: «لِیَحُلَّ فِیهَا رِبْق(5)، وَیُعْتِقَ فِیهَا رِقّاً، وَیَصْدَعَ(6) شَعْب(7)، وَیَشْعَبَ صَدْعاً، فِی سُتْرَة عَنِ النَّاسِ لاَ یُبْصِرُ الْقَائِفُ(8) أَثَرَهُ وَلَوْ تَابَعَ نَظَرَهُ».
فهذه العبارات تنطبق تماماً على قضیة ظهور المهدی (علیه السلام)، لأنّه یقطع أغلال الأسر ویطلق المظلومین ویکسر شوکة الظالمین ویفرق جمعهم، فهو یعیش لسنوات فی الخفاء بحیث یعجز أعظم الباحثین عن العثور علیه، وقد أورد البعض من شرّاح نهج البلاغة عدّة تفاسیر للعباره، وحیث لا یجدر الالتفات إلیها فاننا نعزف عن ذکرها.
والجدیر بالذکر أنّ شارح نهج البلاغة ابن أبی الحدید المعروف بتعصبه بالنسبه لأغلب المسائل المرتبطة بالإمامة، صرّح فی شرحه للعبارة المذکورة: «وَإِنَّ مَنْ أَدْرَکَهَا مِنَّا یَسْرِی فِیهَا بِسِرَاج مُنِیر»، إلى أنّ المراد بها مهدی آل محمد (صلى الله علیه وآله)، کماترى إنطباق سائر الصفات المذکورة علیه، وإن کان اعتقاد العامّة بالنسبة للإمام المهدی (علیه السلام) أنّه یولد فی آخر الزمان(9).
ثم أشار فی ختام هذا المقطع من الخطبة إلى أصحاب الإمام المهدی (علیه السلام) وأوصافهم: «ثُمَّ لَیُشْحَذَنَّ(10) فِیهَا قَوْمٌ شَحْذَ الْقَیْنِ(11) النَّصْلَ تُجْلَى بِالتَّنْزِیلِ أَبْصَارُهُمْ، وَیُرْمَى بِالتَّفْسِیرِ فِی مَسَامِعِهِمْ، وَیُغْبَقُونَ(12) کَأْسَ الْحِکْمَةِ بَعْدَ الصَّبُوحِ!».
ویستفاد من العبارات إلى أنّ أصحاب الإمام المهدی (علیه السلام) هم من الرجال الشجعان والعلماء الذین أعدوا سلفاً وعملیة بنائهم مستمرة متواصلة، وقلوبهم نابضة بآیات القرآن وتفسیر کلمات ا سبحانه، وهم دائموا التعلم صباح مساء ویزدادون إستعداداً وتأهباً، ولکن من هذا الذی أعدهم مسبقاً؟ هل حصل ذلک بأنفسهم أو لدیهم بعض الأساتذة الذین أمروا باعدادهم؟ أم لإرتباطهم بإمامهم ومعلمهم الغائب؟ القضیة لیست واضحة لدینا بالضبط، ولکن على کل حال أنّهم أفراد أعدوا للمساعدة فی هذه الثورة العظیمة حتى وصفهم ابن أبی الحدید بالعرفاء، فممن جمع فیهم الزهد والحکمة والشجاعة فهم أصحاب ولی الله الذی إصطفاه(13).
ویفهم ممّا مرّ معنا فی هذا القسم من الخطبة أنّ الإمام (علیه السلام) قد بشّر المسلمین بفجر مضیىء بعد تلک الظلمات، وهو الفجر الذی یأتی به ولده المیمون المهدی (عج) وبشروق شمس جماله تنجاب الظلمات.