استهل الإمام (علیه السلام) کلامه للخلیفة بهدف تقویة معنویاته حذراً من خوف لقاءالعدو الغاشم کالروم بقوله: وَقَدْ تَوَکَّلَ اللّهُ لاَِهْلِ هذَا الدِّینِ بِإِعْزَازِ الْحَوْزَةِ(1)، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ»، والعبارة توکل تشیر إلى أنّ الله سبحانه تکفل بحمایتهم والدفاع عنهم، وهو الأمر الذی أشار إلیه القرآن الکریم: (هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِینِ الْحَقِّ لِیُظْهِرَهُ عَلَى الدِّینِ کُلِّهِ وَلَوْ کَرِهَ الْمُشْرِکُونَ)(2).
وهذا الوعد الإلهی ـ طبق کلام الإمام (علیه السلام) ـ لم یکن مقتصراً على زمان النبی (صلى الله علیه وآله)، بل یجری فی کل عصر ومصر، والعبارة: «وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ»، بالنظر إلى أنّ العورة تعنی فی الأصل النقاط الحدودیة الهشة وما یخشاه الإنسان ویخافه، فهى تشیر إلى أنّ الحق تبارک وتعالى وإضافة إلى تعهده بعزّة المسلمین ورفعتهم فانّه یمنع العدو من الالتفات إلى نقاط ضعفهم أسرارهم حتى لا یتمکن من تسدید ضرباته للمسلمین.
ثم شدّ من العزائم أکثر فأتى بشاهد حی فقال (علیه السلام): «وَالَّذِی نَصَرَهُمْ، وَهُمْ قَلِیلٌ لاَ یَنْتَصِرُونَ، وَمَنَعَهُمْ وَهُمْ قَلِیلٌ لاَ یَمْتَنِعُونَ، حَیٌّ لاَ یَمُوتُ(3)».
فقد نصر الله تعالى اُولئک المسلمین الذین کانوا یبدون فی الظاهر ضعفاء ومن حیث العدّة قلائل، والیوم وقد اتسعت حوزة الإسلام والحمد لله وقد إنضوت عدّة أفواج تحت رایته، فهم مشمولون قطعاً بنصرة الحق والغلبة لهم والهزیمة لأعدائهم، فناصرهم هو الله تعالى الحی القیوم الذی لا یموت، طبعاً إنّ أی موجود تثق به وتعتمد علیه فانّ مرور الزمان یصیبه بالضعف والهن والفتور وبالتالی الزوال والفناء، والذات الإلهیّة المقدّسة الوحیدة التی لا تعرف للضعف الفتور من معنى والتی لا ینبغی الاعتماد سوى علیها.
ثم ورد الإمام (علیه السلام) ذى مقدمة بعد هذه المقدمة فیخلص إلى نتیجة لیؤکد على عمر عدم حضور میدان القتال بنفسه بعد أن ذکر دلیلاً واضحاً لذلک والذی یقبل بصورة تامة فی الموارد المشابهة فقال: «إِنَّکَ مَتَى تَسِرْ إِلَى هذَا الْعَدُوِّ بِنَفْسِکَ، فَتَلْقَهُمْ فَتُنْکَبْ(4)، لاَ تَکُنْ لِلْمُسْلِمِینَ کَانِفَةٌ(5) دُونَ أَقْصَى بِلاَدِهِمْ، لَیْسَ بَعْدَکَ مَرْجِعٌ یَرْجِعُونَ إِلَیْهِ».
إشارة إلى هذا الأمر إن حضرت میدان القتال بنفسک وقتلت فانّ أرادت الاُمة مبایعة شخص آخر فانّ المجتمع الإسلامی سیفقد مرکزیته وتنها المناطق النائیة التی تکون عرضة للخرق أکثر من غیرها وهذا ما سیسری إلى سائر أنحاءالبلاد، ولما کان السلب فی القضایا الاجتماعیة یقترن دائماً بالایجاب بغیة سدالفراغ الاجتماعی، فبعد أن أشار علیه الإمام بعدم الذهاب بنفسه، طرح علیه البدیل ببعث رجل مجرب فی الحرب وطائفة ممن أبلت فی القتال، من أهل النصح والخیر فانّ أتاهم النصر فذلک ما یبغی ویحب، وإن حدث شیء آخر (إشارة إلى الهزیمة المسلمین) فسیکون هو ملاذ المسلمین وکهفهم (فیستطیع ومن خلال بعث القوى السیطرة على الأوضاع وتحیق النصر على العدو): «فَابْعَثْ إِلَیْهِمْ رَجُلاً مِحْرَب(6)، واحْفِزْ(7) مَعَهُ أَهْلَ الْبَلاءِ(8) وَالنَّصِیحَةِ، فَإِنْ أَظْهَرَ اللّهُ فَذَاکَ مَا تُحِبُّ، وَإِنْ تَکُنِ الاُْخْرَى، کُنْتَ رِدْء(9)لِلنَّاسِ وَمَثَابَةً(10) لِلْمُسْلِمِینَ».
فقد بیّن الإمام (علیه السلام) جوابه للخلیفة حین المشورة بدلیل منطقی وواضح وهو أنّ حضور زعیم جماعة فی میدان القتال أمر خطیر سوى فی الموارد الاستثنائیة، لأنّ من الاحتمالات الواردة قتله فی المعرکة ونتیجة ذلک إنیهار الجیش من جانب وتصدع کیان البلاد من جانب آخر، بینما لو بقى مکانه کان له أن یبعث بجیوش بدل جیش واحد ویحتفظ بقدرته وسیطرته على جمیع البلاد.