یتألف کلام الإمام (علیه السلام) فی الواقع من قسمین: الأول یعالج شبهات الخوارج وأمثالهم، ثم یحثهم على جهاد ظلمة الشام، فکلام الإمام (علیه السلام) فی القسم الأول إشارة إلى میثاق التحکیم الذی وقع بین الإمام (علیه السلام) ومعاویة (وسیأتی شرح ذلک فی موضوع تأملات) وعلى ضوء العهد فقد منح الحکمان مدّة سنة لحلّ اختلاف الاُمة دون التسرع فی ذلک، والمعترضون الجهّال یشکلون أحیاناً على أصل التحکیم والذی أجاب علیه الإمام (علیه السلام) فی القسم السابق من الخطبة، وأحیاناً أخرى کانوا یشکلون على تفاصیله، أی مسألة المدّة، ومن هنا ردّ الإمام (علیه السلام) على الإشکال الأخیر بالقول: «وَأَمَّا قَوْلُکُمْ: لِمَ جَعَلْتَ بَیْنَکَ وَبَیْنَهُمْ أَجَلاً فِی التَّحْکِیمِ؟ فَإِنَّمَا فَعَلْتُ ذلِکَ لِیتَبَیَّنَ الْجَاهِلُ، وَیَتَثَبَّتَ(1) الْعَالِمُ».
ثم أضاف: «وَلَعَلَّ اللّهَ أَنْ یُصْلِحَ فِی هذِهِ الْهُدْنَةِ(2) أَمْرَ هذِهِ الاُْمَّةِ; وَلاَتُؤْخَذُ بِأَکْظَامِهَ(3)، فَتَعْجَلَ عَنْ تَبَیُّنِ الْحَقِّ، وَتَنْقَادَ لاَِوَّلِ الْغَیِّ».
فقد بیّن الإمام (علیه السلام) عدّة فوائد للأجل الوارد فی مسألة التحکیم، الأولى: أن یتریث الجهّال ویکفّوا عن شططهم وتعصبهم ویحققوا فی المسألة المصیریة، والأخرى: أنّ یقوم القوم علماء الاُمّة من أصحاب علی (علیه السلام) بدراسة جوانب المسألة ویختاروا ما ینطوی على الحدّ الأدنى من الخسائر ویهدوا الحکمین لانتخاب الصحیح، والثالثة: التفکیر خلال هذه المدّة فی الطرق التی تتکفّل بإصلاح أمر الاُمة بصورة کلیة واجتناب الأفعال المتسرعة التی تقود إلى الضلال، والغریب فی الأمر التسرع والطیش الذی مارسه الخوارج الجهّال بهذا الشأن لیعرضوا مصیر الامة للخطر دون أدنى دراسة وتحقیق، وهذا هو دیدن الجهّال من الأفراد فی کل عصر ومصر.
أمّا العبارة: «لاَتُؤْخَذُ بِأَکْظَامِهَا» فهى کنایة عن الحریة من أجل المطالعة واتخاذ القرار والانتخاب، وهى کنایة فصیحة وبلیغة،. والعبارة: «تَنْقَادَ لاَِوَّلِ الْغَیِّ» إشارة إلى أنّ التسرع فی القرار ضلالة عادة.
وذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلى أنّ المراد بأول الغی رفع المصاحف على أسنة الرماح التی تعدّ أول خطوة فی الضلال(4)، ویبدو التفسیر الأول بقرینة الجملة التی سبقتها أنسب.
ثم خاض الإمام (علیه السلام) فی نصحهم ووعظهم بالانقیاد للحق وعدم مجابهته بالتعصب واللجاجة وملاحظة المنافع الشخصیة، فقال: «إِنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ عِنْدَ اللّهِ مَنْ کَانَ الْعَمَلُ بِالْحَقِّ أَحَبَّ إِلَیْهِ ـ وَإِنْ نَقَصَهُ وَکَرَثَهُ(5) ـ مِنَ الْبَاطِلِ وَإِنْ جَرَّ إِلَیْهِ فَائِدَةً وَزَادَهُ».
الواقع إنّ علامة المؤمن الحقیقی هى هذه، یعنی ان وقف على مفترق طرق بحیث کان الحق فی جانب والمنافع الشخصیة فی جانب آخر، ولى ظهره لمنافعه الشخصیة واندفع نحو الحق، وإلاّ فلا فخر فی تعصب الإنسان للحق الذی ینسجم مع حفظ مصالحه الشخصیة، ومن هنا ذمّ القرآن الکریم طائفة من الیهود التی عملت على هذا الضوء فقالوا: (نُؤْمِنُ بِبَعْض وَنَکْفُرُ بِبَعْض...)(6)، کانت تلک الطائفة تذعن للقوانین الموافقة لمیلها ورغبتها وتحقق منافعها، بینما تتمرد على تلک التی تتعارض ورغباتها، والحق إنّ مثل هذا التفکیک لا یعنی عبادة الله سبحانه، بل عبادة الهوى، ویصدق هذا الکلام على الأفراد الذین یهبّون لنصرة الباطل بدافع التعصب واللجاجة ودعم الأصدقاء والقرابة، وقد ورد مثل هذا الکلام عن علی (علیه السلام) فی خطابه لعمرو بن العاص حیث أقسم أنّه یعرف الحق، إلاّ أنّه یتجاهله، ولم یدفعه للإلتحاق بصفوف أعداء الله سبحانه سوى منافعه(7).
ثم واصل الإمام (علیه السلام) کلامه قائلاً: «فَأَیْنَ یُتَاهُ(8) بِکُمْ! وَمِنْ أَیْنَ أُتِیتُمْ(9)!».
آنذاک دعاهم لجهاد القوم الظالمین، وقد نعتهم بخمس صفات سلبیة تتمثل بحیرتهم عن الحق وعدم رؤیته وقد شجعوا على الظلم و الجور، ومن هنا فلا یسعهم الاقلاع عنه، وقد ابتعدوا عن کتاب الله وانحرفوا عن الصراط، رغم حملهم المصاحف ووضعها على الرماح وکلامهم عن تحکیم القرآن الکریم: «اسْتَعِدُّوا لِلْمَسِیرِ إِلَى قَوْم حَیَارَى عَنِ الْحَقِّ لاَ یُبْصِرُونَهُ، وَمُوزَعِینَ(10) بِالْجَوْرِ لاَ یَعْدِلُونَ بِهِ، جُفَاة عَنِ الْکِتَابِ، نُکُب(11) عَنِ الطَّرِیقِ».
وهکذا أشار الإمام (علیه السلام) إلى إننا نمتلک خمسة أدلّة قاطعة إن أردنا قتال هؤلاء وکل واحد من هذه الأدلة یکفی سبباً لقتالهم!
فقد حادوا عن الصواب وانحرفوا عن الصراط، ولا یکترثون للقرآن الکریم، اعتادوا على الظلم والجور، وقد عجزت أعینهم عن رؤیة الحق فأصبحوا یدورون حول ذواتهم.
ثم لهج لسان الإمام (علیه السلام) بالشکوى فی عباراته الأخیرة وعرضّهم لأشدّ الذمّ واللوم، لعلهم یفیقون إلى أنفسهم ویعیدون النظر فی أعمالهم فقال: «مَا أَنْتُمْ بِوَثِیقَة یُعْلَقُ بِهَا، وَلاَ زَوَافِرَ(12)عِزٍّ یُعْتَصَمُ إِلَیْهَا. لَبِئْسَ حُشَّاشُ(13) نَارِ الْحَرْبِ أَنْتُمْ!».
ثم شدد (علیه السلام) فی تقریعهم فقال: «أُفٍّ لَکُمْ! لَقَدْ لَقِیتُ مِنْکُمْ بَرْح(14)، یَوْماً أُنَادِیکُمْ وَیَوْماً أُنَاجِیکُمْ ، فَلاَ أَحْرَارُ صِدْق عِنْدَ النِّدَاءِ ]القَاء[، وَلاَ إِخْوَانُ ثِقَة عِنْدَ النَّجَاءِ(15)!».
فقد تطرق الإمام (علیه السلام)إلى حقیقة فی هذه العبارات وهى إن کانت هنالک من مشکلة قد ظهرت فی أمر الجهاد وحکومته (علیه السلام) فانّما مرد ذلک إلى عدم کفاءة جمع من صحبه، وذلک لأنّهم کانوا یبدون الضعف والوهن فی کل میدان یطرقه الإمام (علیه السلام)، ومن الطبیعی أنّ هناک ضرورة للصولة المقتدرة فی بدایة المعرکة والتی ینبغی أن تحصل من قبل الرجال الأشداء والشجعان والمخلصین، ولم یکن من ینهض بهذا الدور فی معسکر الإمام (علیه السلام)، من جانب آخر فان القائد حین ینادی أن أحملوا! فلابدّ من حرکة الجمیع بشکل منسجم، إلاّ أنّهم کانوا أضعف وأوهن من ذلک، وإن کانت هناک من خطط حربیة یطلعون علیها بصورة سریة، لابدّ أن یجدوا ویجتهدوا فی حفظها، إلاّ أنّهم لم یکونوا من حفظة الأسرار ویوثق بهم، وعلیه لا یبدو من الصواب توقع حصول نصر خاطف فی ظلّ وجود مثل هؤلاء الأفراد، والعجیب فی الأمر فانّ مثل هؤلاء الأفراد وبهذا المدى من الضعف والوهن حین یصابون بفشل، فهم یوعطونه إى الخارج ویحملوا الإمام (علیه السلام) مسؤولیة زلاتهم دون أن یهموا ویفتشوا عن أسباب ذلک فی أنفسهم، وهذه مشکلة کبرى.