عاد الإمام (علیه السلام) فی هذا القسم من الخطبة والذی یمثل آخرها إلى الأدلة المنطقیة لیکشف بالبراهین القاطعة خطأ الخوارج.
توضیح ذلک أنّ الخوارج حین رأوا النتیجة المریرة لقضیة التحکیم التی خدع فیها الماکر عمرو بن العاص أبی موسى الأشعری الساذج وقد حسم التحکیم لصالح معاویة، ارتفعت أصواتهم لیقولوا لم قبلنا التحکیم، ولماذا قبل علی (علیه السلام) التحکیم، رغم أنّهم یعلمون:
أولاً: أنّ التحکیم فرض على علی (علیه السلام).
ثانیاً: أنّ الإمام (علیه السلام) لم یکن راضیاً بأبی موسى الأشعری ممثلاً عنه فی التحکیم، بل کان رأیه أن یلعب ابن عباس ذلک الرجل العالم دور التحکیم، رغم ذلک أصر اُولئک الجهال وفرضوا علیه أبی موسى الأشعری، وقد خاض الإمام (علیه السلام) فی هذا المقطع من الخطبة فی جواب آخر على أن تحکیم الحکمین کان مشروطاً بأن یتمّ على ضوء القرآن لا على أساس الأهواء النفسیة والعقد الشخصیة، فلم یعملا بهذا الشرط وهذا ذنبهم لا ذنب الإمام (علیه السلام) فقال: «فَإِنَّمَا حُکِّمَ الْحَکَمَانِ لِیُحْیِیَا مَا أَحْیَا الْقُرْآنُ، وَیُمِیتَا مَا أَمَاتَ الْقُرْآنُ».
جدیر بالذکر إنّه ورد نفس هذا المطلب الذی أشار إلیه الإمام (علیه السلام) فی متن العهد الذی أشرنا إلیه سابقاً: «وإنَّ کِتـابَ اللهِ سُبحـانَهُ بَینَنا مِنْ فَاتِحَتِهِ إِلى خـاتِمَتِهِ نُحیی مَا أَحیـا القُرآنُ ونُمِیتُ مَا أَمـاتَ».
ثم أضاف قائلاً: «وَإِحْیَاؤُهُ الاِجْتَِماعُ عَلَیْهِ،وَإِمَاتَتُهُ الاِفْتِرَاقُ عَنْهُ»، ووضح هذه العبارة من خلال التأکید على مضمونها بالقول: «فَإِنْ جَرَّنَا الْقُرْآنُ إِلَیْهِمُ اتَّبَعْنَاهُمْ، وَإِنْ جَرَّهُمْ إِلَیْنَا اتَّبَعُونَا».
فهذا الکلام منطقی یدرکه من کان له أدنى فکر وشعور، لکن کأن الخوارج لم یتمتعوا حتى بهذه النعمة الإلهیّة، ثم بیّن الإمام (علیه السلام) هذا المطلب بتعبیر أوضح بحیث یبدو وکأنّه اشتاط غضباً من جهلهم وکلامهم الذی یفتقر إلى المنطق فقال: «فَلَمْ آتِ ـ لاَ أَبَالَکُمْ ـ بُجْر(1)، وَلاَ خَتَلْتُکُمْ(2)عَنْ أَمْرِکُمْ، وَلاَ لَبَّسْتُهُ عَلَیْکُمْ، إِنَّمَا اجْتَمَعَ رَأْیُ مَلَئِکُمْ عَلَى اخْتِیَارِ رَجُلَیْنِ، أَخَذْنَا عَلَیْهِمَا أَنْ لاَ یَتَعَدَّیَا الْقُرْآنَ»، لکنّهم فقدوا عقلهم «إیمانهم» وترکوا الحق وهم یرونه باُم أعینهم، کما کان الظلم والجور دیدنهما وهواهما فاتخذوا سبیلاً وقد کنّا اشترطنا علیهما قبل أن یحکما بذلک الحکم الظالم أن یستندا إلى العدل ولا یهملا الحق: «فَتَاهَا عَنْهُ، وَتَرَکَا الْحَقَّ وَهُمَا یُبْصِرَانِهِ، وَکَانَ الْجَوْرُ هَوَاهُمَا فَمَضَیَا عَلَیْهِ. وَقَدْ سَبَقَ اسْتِثْنَاؤُنَا عَلَیْهِمَا ـ فِی الْحُکُومَةِ بِالْعَدْلِ، وَالصَّمْدِ(3) لِلْحَقِّ ـ سُوءَ(4) رَأْیِهِمَا، وَجَوْرَ حُکْمِهِمَا».
فالواقع أنّ زبدة الکلام الإمام (علیه السلام) هى:
أولاً: إنّ انتخاب الحکمین کان على أساس ضغطکم وإصرارکم على هذا الأمر، فان کان خلافاً فهو خلاف منکم لا منّی.
وثانیاً: إننا اشترطنا علیهم الحکم على ضوء الآیات القرآنیة، لکنّهم آثروا هوى أنفسهم وانحرفوا عن السبیل البیّن الذی هدیناهم إلیه، وعلیه فان کان هناک من خلاف فقد بدر منهما لا منّی(5).
ولکن طبیعة الأفراد الجهّال والمتعصبین حین یرتکبون مخالفة ویبتلون بسوء عواقبها شرعان ما یغرونها إلى الآخرین ویحملونها مسؤولیة أخطأهم وهذا أخس الأسالیب، والحال یقتضی العقل والانصاف والإیمان الاعتراف بالذنب فی مثل هذه الموارد والاعتذار منها ومن ثم التفکیر فی تدراکها.
5. ورد شبه هذا المعنى مع إختلاف طفیف فی الخطبة 177.