صرّح الإمام (علیه السلام) فی البدایة بهدف عدم رعب المسلمین بفعل کثرة جیوش العدو فی تلک المعرکة القاسیة، سیّما ما ذکرته بعض التواریخ من أنّ رأی عثمان حین أشار علیه الخلیفة الثانی کان مقبولاً، فقال: «إِنَّ هذَا الاَْمْرَ لَمْ یَکُنْ نَصْرُهُ وَلاَ خِذْلاَنُهُ بِکَثْرَة وَلاَ بِقِلَّة. وَهُوَ دِینُ اللّهِ الَّذِی أَظْهَرَهُ، وَجُنْدُهُ الَّذِی أَعَدَّهُ وَأَمَدَّهُ، حَتَّى بَلَغَ مَا بَلَغَ، وَطَلَعَ حَیْثُ طَلَعَ»، فی إشارة إلى أننا کنّا دائماً قلّة مقابل العدو فی الحروب التی خضناها على عهد رسول الله (صلى الله علیه وآله)، مع ذلک فقد انتصرنا وشملنا الله برحمته وعنایته، وقد لمسنا هذا الفضل دائماً، وعلیه فلا تخشوا من کثرة العدو وامضوا بعد التوکل على الله تعالى.
والعبارة هذه تذکّر بنصر المسلمین فی بدر والأحزاب وأمثالهما.
ولعل الفارق بین العبارتین بلغ ما بلغ وطلع حیث طلع أنّ العبارة الثانیة تخبر عن انتشار الإسلام والأولى عن منتهى منطقة نفوذ الإسلام، کما یحتمل أن تکون العبارة الاُولى إشارة إلى المناطق التی نفذ إلیها الإسلام، والعبارة الثانیة إلى المناطق التی ذاع فیها صیت الإسلام وشع علیها بما یمهد السبیل أمامه وإن لم ینفذ إلیها بعد، أو أنّ العبارة الاُولى إشارة إلى قوّة الإسلام وقدرته، والثانیة إلى سعة الإسلام وانتشاره.
ثم قال (علیه السلام) مؤکداً ذلک الکلام: «وَنَحْنُ عَلَى مَوْعُود مِنَ اللّهِ، وَاللّهُ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ، وَنَاصِرٌ جُنْدَهُ»، إشارة إلى الآیة الشریفة: (هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِینِ الْحَقِّ لِیُظْهِرَهُ عَلَى الدِّینِ کُلِّهِ وَلَوْ کَرِهَ الْمُشْرِکُونَ)(1). والآیة: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِینَ آمَنُوا فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَیَوْمَ یَقُومُ الاَْشْهَادُ)(2).
نعم، فقد وعدنا فی ظل الإیمان بالنصر فی الدنیا والآخرة وتشهد سائر الآیات القرآنیة على هذا المعنى، وما إن فرغ الإمام (علیه السلام) من بیان هذه المقدمة بهدف الاستقرار الروحی للخلیفة والحاضرین حتى تطرق إلى الموضوع الأصلی للمشورة فی حضور عمر بنفسه فی المعرکة فقال: «وَمَکَانُ الْقَیِّمِ بِالاَْمْرِ مَکَانُ النِّظَامِ(3) مِنَ الْخَرَزِ(4) یَجْمَعُهُ وَیَضُمُّهُ: فَإِنِ انْقَطَعَ النِّظَامُ تَفَرَّقَ الْخَرَزُ وَذَهَبَ، ثُمَّ لَمْ یَجْتَمِعْ بِحَذَافِیرِهِ(5) أَبَداً»، یا له من تعبیر رائع وتشبیه جمیل فالقائد والزعیم لبلد بمنزلة خیط المسبحة أو القلادة بفضله رمز الوحدة وإنسجام والأمّة، کما تحمل الزعیم قضیة فی أن یتحلى بسعة الصدر ووسع الفکر بحیث یستطیع استقطاب کافة الأفراد وصهرهم فی کتلة متحدة.
ثم خاض الإمام ثانیة فی رفع معنویاتهم على أنّ العرب الیوم هم الکثرة رغم قلّتهم وما ذلک إلاّ بالإسلام فقهم عزیزون ومقتدرون فی ظل اجتماعهم واتفاقهم فی ظل هذا الدین: «وَالْعَرَبُ الْیَوْمَ وَإِنْ کَانُوا قَلِیلاً، فَهُمْ کَثِیرُونَ بِالاِْسْلاَمِ، عَزِیزُونَ بِالاِجْتَِماعِ!».
فخلص من ذلک إلى نتیجة أصلیة: «فَکُنْ قُطْباً، وَاسْتَدِرِ الرَّحَى بِالْعَرَبِ، وَأَصْلِهِمْ(6)دُونَکَ نَارَ الْحَرْبِ».
ثم ذکر دلیل ذلک فقال (علیه السلام): «فَإِنَّکَ إِنْ شَخَصْتَ(7) مِنْ هذِهِ الاَْرْضِ انْتَقَضَتْ عَلَیْکَ الْعَرَبُ مِنْ أَطْرَافِهَا وَأَقْطَارِهَا، حَتَّى یَکُونَ مَا تَدَعُ وَرَاءَکَ مِنَ الْعَوْرَاتِ(8) أَهَمَّ إِلَیْکَ مِمَّا بَیْنَ یَدَیْکَ»، إشارة إلى أنّ الإسلام فی بدایاته لحدّ الآن، وما زال المنافقون وسلیلوا عصر الجاهلیة فی صفوف العرب وهم یتربصون الفرصة لطعن المسلمین من الخلف، فلو انطلق القائد وصحبه الأوفیاء إلى نقطة بعیدة یکون المیدان قد خلى للمفسدین والمنافقین، ولعلهم یسببون بعض الأخطار التی تفوق أخطار العدو الخارجی، أضف إلى لذلک فلو اصطدم الجیش بمشکلة فی الجبهات، کان بإمکان القائد إن استقر فی المرکز أن یعبىء جیشاً جدیداً ویبعث به إلى میدان القتال، بینما ینهار سند الجیش إن حضر بنفسه المیدان.
والجدیر بالذکر أنّ العرب فی العبارة «وَالْعَرَبُ الْیَوْمَ...» تختلف عن العرب فی العبارة «انْتَقَضَتْ عَلَیْکَ الْعَرَبُ...» فالمراد بالاُولى المخلصون من المؤمنین، والثانیة المنافقون الذین یظهرون الإیمان، أو المسلمون الضعاف.