یختتم الإمام (علیه السلام) خطبته بالإجابة المنطقیة لأصحاب الخوارج، فقد قالوا: لِمَ استجاب الإمام (علیه السلام) إلى التحکیم؟ لَمَ لا نقاتل الأعداء إلى آخر نفس على غرار ما فعله المسلمون من صحابة النبی (صلى الله علیه وآله) فی صدر الإسلام؟ هل أذعن النبی الأکرم (صلى الله علیه وآله) لمسألة التحکیم؟ فقد أوضح الإمام (علیه السلام) حقیقة فی إجابته على اُولئک بأنّ زماننا یختلف تماماً عن زمان النبی (صلى الله علیه وآله)، ومن نقاتلهم الآن طائفة من المسلمین المخدوعین، والحال کان أعداؤنا فی صدر الإسلام هم الکفّار والمشرکون الذین وقفوا بوجه الإسلام.
فقد قال (علیه السلام): «فَلَقَدْ کُنَّا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ، وَإِنَّ الْقَتْلَ لَیَدُورُ عَلَى الاْبَاءِ وَالاَْبْنَاءِ وَالاِْخْوَانِ وَالقَرَابَاتِ ]الأقرباء[، فَمَا نَزْدَادُ عَلَىِ کُلِّ مُصِیبَة وَشِدَّة إِلاَّ إِیمَاناً، وَمُضِیّاً عَلَى الحَقِّ، وَتَسْلِیماً لِلاَْمْرِ، وَصَبْراً عَلَى مَضَضِ(1) الجِرَاحِ».
نعم، لقد کنّا نهجم بشدّة آنذاک على العدو، وإن کان فیهم إخواننا وقرابتنا، فالمصاب وإن عظم علینا، لکن حیث کان ذلک یأمر فقد کنّا نزداد إیماناً، ولم نجابه کل مصائب المعارک وجراحاتها إلاّ بالصبر والشکر: «وَلکِنَّا إِنَّمَا أَصْبَحْنَا نُقَاتِلُ إِخْوَانَنَا فِی الاِْسْلاَمِ عَلَى مَا دَخَلَ فِیهِ مِنَ الزَّیْغِ وَالاِعْوِجَاجِ، وَالشُّبْهَةِ وَالتَّأْوِیلِ. فَإِذَا طَمِعْنَا فِی خَصْلَة یَلُمُّ(2) اللّهُ بِهَا شَعَثَنَ(3)، وَنَتَدَانَى بِهَا إِلَى الْبَقِیَّةِ فِیَما بَیْنَنَا، رَغِبْنَا فِیهَا، وَأَمْسَکْنَا عَمَّا سِوَاهَا».
فقد أشار الإمام (علیه السلام) فی هذه العبارة إلى أن قیاس زمانه بزمان رسول الله (صلى الله علیه وآله) هو قیاس مع الفارق، وذلک لأنّ القتال ذلک الزمان کان یدور مع العدو الخارجی، بینما أصبح زمان الإمام(علیه السلام)ضد الأصدقاء المخدوعین والمنحرفین من الداخل، فالواقع یستند موقف الإمام (علیه السلام) فی قبول التحکیم إلى الآیة الشریفة: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِینَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَیْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الاُْخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِی تَبْغِی حَتَّى تَفِىءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَیْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ یُحِبُّ الْمُقْسِطِینَ)(4).
صحیح أنّ أصل مسألة التحکیم خدعة ولم یکن أمراء جیش الشام یعتقدون بالقرآن، ولهذا السبب کان الإمام شدید المخالفة فی بادىء الأمر، لکنّه استجاب لذلک الأمر بعد ذلک الضغط الشدید الذی مارسه السواد الأعظم المخدوع من جیشه مع ذلک کان بالإمکان أن تتمخض مسألة التحکیم عن نتائج مرضیة لو خضعت لقیادة سلیمة، ولکن کما نعلم فانّ ضغوط الجهّال قد دفعوا التحکیم إلى مسار لا یجر علیهم سوى الضرر والخسارة.