أشار الإمام (علیه السلام) فی هذا القسم من الخطبة إلى حاکم دموی وغاشم ومقتدر یظهر مستقبلاً بالشام فیشهر سیفه ویستولی على جمیع البلاد الإسلامیة، ثم ذکر له تسع صفات، فقال: «کَأَنِّی بِهِ قَدْ نَعَقَ(1) بِالشَّامِ،وَفَحَصَ(2) بِرَایَاتِهِ فِی ضَوَاحِی(3) کُوفَانَ(4)».
ثم قال: «فَعَطَفَ عَلَیْهَا عَطْفَ الضَّرُوسِ(5)، وَفَرَشَ الاَْرْضَ بِالرُّؤُوسِ. قَدْ فَغَرَتْ(6)فَاغِرَتُهُ، وَثَقُلَتْ فِی الاَْرْضِ وَطْأَتُهُ، بَعِیدَ الْجَوْلَةِ(7)، عَظِیمَ الصَّوْلَةِ(8)». ثم أقسم قائلاً: «وَاللّهِ لَیُشَرِّدَنَّکُمْ(9) فِی أَطْرَافِ الاَْرْضِ حَتَّى لاَ یَبْقَى مِنْکُمْ إِلاَّ قَلِیلٌ، کَالْکُحْلِ فِی الْعَیْنِ».
فهذه الصفات التسع لذلک الحاکم الدموی المقتدر والتی تکشف عن شخصه بصورة تامة تشیر إلى أنّه یدک أهل الإیمان دکاً بحیث لا یبقى منهم إلاّ القلیل، فهو یکتم الأنفاس فی الصدور ویخنق کل حرکة ونشاط، ویستولی على البلاد بعد سفکه للدماء وانطلاقه من الشام إلى الکوفة ثم سائر المناطق، أمّا من هو هذا الشخص الذی یتصف بهذه الصفات؟ هناک رأیان لشرّاح نهج البلاغة، رأی یراه عبدالملک بن مروان خامس خلفاء بنی أمیة، کان جباراً طاغیاً ودمویاً، فقد تحرک بجیش عظیم من الشام لیقضی على مصعب بن الزبیر الذی کان یحکم الکوفة، فاستولى على العراق والکوفة، ثم وجه جشیاً بقیادة الحجاج إلى الحجاز فقتل عبد الله بن الزبیر فسیطر على مکة والمدینة، کما هدم جانباً من الکعبة بعد أن لاذ بها جمع من جیش عبدالله بن الزبیر.
والرأی الآخر أنّ ذلک الشخص هو السفیانی الذی یسبق ظهور الإمام المهدی (علیه السلام) حیث یظهر فی الشام ویسفک الدماء ویدعو الناس إلى نفسه، وبالنظر إلى أنّ الأقسام السابقة من الخطبة بشأن ظهور الإمام المهدی (علیه السلام) لذلک یبدو أنّ هذا القسم فی الظهور أیضاً، والعبارات المذکورة إشارة إلى ظهور السفیانی.
وقد ورد فی الخبر عن حذیفة بن الیمان أنّ رسول الله (صلى الله علیه وآله) أشار إلى فتنة بین أهل الشرق والغرب فیخرج السفیانی حتى یرد دمشق فیبعث بجیش إلى الشرق وآخر إلى المدینة حتى یصل بابل وبغداد، فیقتل أکثر من ثلاثة الاف وینتهک عرض أکثر من مئة إمرأة، ثم یتّجهون إلى الکوفة فیخربون أطرافها، ثم یعودن إلى الشام، فتظهر رایة هدى فی الکوفة وینطلق جیشها إلى جیش السفیانی فیقتله ولا ینجو منه إلاّ واحد یخبر عن الحادثة (وهکذا تخمد الفتنة).
قال المرحوم العلاّمة المجلسی نقل أصحابنا هذا الحدیث عن الإمام الباقر (علیه السلام) والإمام الصادق (علیه السلام) ضمن أحادیث المهدی (علیه السلام)(10).
ولکن القسم الأخیر من هذه الخطبة لا ینسجم مع هذا التفسیر، ثم قال الإمام (علیه السلام): بأنّ هذا الوضع من الاضطراب وسفک الماء والابعاد والتشتت یستمر حتى یعود إلى العرب رشدها وعقلها فتتخلص بهذا العقل من فرقتها واختلافها وتتحد کلمتها: «فَلاَ تَزَالُونَ کَذلِکَ، حَتَّى تَؤُوبَ(11) إِلَى الْعَرَبِ عَوَازِبُ(12) أَحْلاَمِهَا!(13)».
ثم أمر الناس بأربع من شأنها نصرهم على حکّام الظلم والجور، وإعادة الأمن والسلام إلیهم فقال (علیه السلام): «فَالْزَمُوا السُّنَنَ الْقَائِمَةَ، وَالاْثَارَ الْبَیِّنَةَ، وَالْعَهْدَ الْقَرِیبَ الَّذِی عَلَیْهِ بَاقِی النُّبُوَّةِ. وَاعْلَمُوا أَنَّ الشَّیْطَانَ إِنَّمَا یُسَنِّی(14) لَکُمْ طُرُقَهُ لِتَتَّبِعُوا عَقِبَهُ».
والمراد بالسنن القائمة ضروریات الإسلام وتعالیمه التی ینبغی أن تکون محور الأنشطة السیاسیة والاجتماعیة والفردیة فی کل زمان، والمراد بالآثار البیّنة هى الأخبار والروایات التی ثبتت من الطرق المعتبرة والتی تختزن أغلب التعالیم والوصایا الإسلامیة، والمراد بالعهد القریب وصیّة النبی الأکرم (صلى الله علیه وآله) بولایة علی (علیه السلام)، والمراد بالعبارة «واعلموا...» مراقبة الشیطان والحذر منه فی الإتیان بالأمور المذکورة، وذلک لأنّ الشیطان یسهل طرقه لیصد الناس عن طاعة الله والأئمة المعصومین (علیه السلام) والذی لا یخلو عادة من المصاعب، أمّا الأفراد الذین اعتبروا القسم الأخیر من الخطبة بشأن حکومة عبدالملک بن مروان فیرد علیهم إشکالات:
الأول: مفهوم العبارة هو أنّ اسقاط حکومة بنی أمیة ومجیىء حکومة بنی العباس قد تمّ فی ظلّ عقل العرب ودرایتها والعودة إلى الطریق الصحیح، والحال نعلم أنّ بنی العباس قد واصلوا جنایات بنی أمیة ولم تکن حکومتهم أقلّ استبداداً من حکومة بنی أمیة، إلاّ أن یقال بعقلائیة سقوط بنی أمیة وشروع حرکة بنی العباس وإن انحرفوا فی مواصلة الطریق.
الثانی: لم یکن ظهور بنی العباس مباشرة بعد موت عبدالملک، بل استغرق عشرات السنین حیث حکم ولد عبدالملک ثم أعقب ذلک سقوط بنی أمیة، إلاّ أن یقال فی جواب هذا الإشکال أنّ حکومة ولد عبدالملک کان امتداداً لحکومته، ولکن من اعتبر القسم الأخیر من الخطبة إشارة إلى خروج السفیانی قبل قیام الإمام المهدی (علیه السلام) قد فسّر العبارات المذکورة على أنّها بعد سفک الدماء الطائش فی آخر الزمان والفساد الذی یحصل الناس مع خروج السفیانی، حیث یطرح حجب الغفلة وتتم العقول وتستعد الناس لقبول حکومة المهدی (علیه السلام)لابدّ فی تلک الشرائط ومن أجل مزیداً من الاستعداد من حفظ السنن الإسلامیة والولاء للولایة، وقد مرّ علینا فی الخطبة 101 العبارات المشابهة لما ورد فی هذه الخطبة، وقد وردت الابحاث بشأن تطبیقها على حکومة عبدالملک.