شرح الإمام (علیه السلام) فی هذا المقطع من الخطبة مصیره على فراش الشهادة کما بیّن وضع المسلمین بعده فقال: «إِنْ تَثْبُتِ الْوَطْأَةُ(1) فِی هذِهِ الْمَزَلَّةِ(2) فَذَاکَ. وَإِنْ تَدْحَضِ(3) الْقَدَمُ فَإِنَّا کُنَّا فِی أَفْیَاءِ(4) أَغْصَان، وَمَهَابِّ(5) رِیَاح، وَتَحْتَ ظِلِّ غَمَام، اضْمَحَلَّ فِی الْجَوِّ مُتَلَفِّقُهَ(6)، وَعَفَ(7) فِی الاَْرْضِ مَخَطُّهَ(8)». فتاریخ البشر وتجاربنا الیومیة تکشف هذه الحقیقة فی أنّ الحیاة کظلال الأشجار والقدرات کظلال الغیوم تمرّ بشرعة وتزول آثارها إلى الأبد، لکن العجیب عدم التفات الإنسان رغم رؤیته لکل هذه الأمور وکأنّه غیر مشمول بهذا القانون.
ثم بیّن هذا المعلم الربانی إثر ذلک وبالنظر إلى علمه بمفارقة الدنیا عاجلاً بعض الدروس والعبر التی یمکن للآخرین الاستفادة منها والتی من شأنها إیقاظهم من غفلتهم فقال: «وَإِنَّمَا کُنْتُ جَاراً جَاوَرَکُمْ بَدَنِی أَیَّاماً، وَسَتُعْقَبُونَ مِنِّی جُثَّةً خَلاَءً(9) سَاکِنَةً بَعْدَ حَرَاک(10)، وَصَامِتَةً بَعْدَ نُطْق».
ثم استنتج مباشرة: «لِیَعِظْکُمْ هُدُوِّی(11)، وَخُفُوتُ(12) إِطْرَاقِی(13)، وَسُکُونُ أَطْرَافِی، فَإِنَّهُ أَوْعَظُ لِلْمُعْتَبِرِینَ مِنَ الْمَنْطِقِ الْبَلِیغِ وَالْقَوْلِ الْمَسْمُوعِ».
حقّاً أنّ الأمر کذلک فالمتحکمون مهما کانوا فصحاء وبلغاء، والسامعون مهما کانوا صاغین ولکن هناک فارق کبیر بین النظر والسماع، فیا لها من عبرة أن ترى ذلک الرجل الشجاع الذی ذاع صیته فی الأرجاء وهو الآن طریح الفراش جثة هامدة لا یقوى حتى على تحریک جفن عینیه، کما لا تقوى شفتاه على الحرکة وهذا ما ینطوی على أعظم درس وعبرة حیث یشاهد الإنسان بعینه أفول القوة والقدره فیغرق فی هالة من التفکیر، وهل لواعظ القدرة على إبراز هذا التأثیر؟
وأخیراً إختتم الوصیّة بتودیع الناس، ذلک الوداع الألیهم فقال: «وَدَاعِی لَکُمْ وَدَاعُ امْرِىً مُرْصِد(14) لِلتَّلاَقِی! غَداً تَرَوْنَ أَیَّامِی، وَیُکْشَفُ لَکُمْ عَنْ سَرَائِرِی، وَتَعْرِفُونَنِی بَعْدَ خُلُوِّ مَکَانِی وَقِیَامِ غَیْرِی مَقَامِی».
نعم، فحین رجل مظهر العدل ذلک الزعیم الشفیق والرؤوف، وحین غادر الناس تلک الکنوز العلمیة التی کانت تجری على لسان الإمام (علیه السلام) وحل محلّه جبابرة بنی اُمیة الذی لا یجیدون سوى لغة الظلم والجور ولا یفکرون سوى بأهوائهم وغرائزهم الحیوانیة وأراقوا دماء الأبریاء، آنذاک فهم المسلمون من فقدوا، وأیة خسارة تکبدوا.
وبناءاً على تقدم فالتعبیر بغد لا یثیر حسب ظاهر العبارة إلى لعالم البرزخ ولا القیامة (کما ذهب إلى ذلک بعض شرّاح نهج البلاغة)، بل إشارة إلى الأیّام السوداء والمریرة التی مرّت على المسلمین بعد شهادة أمیرالمؤمنین علی(علیه السلام).
والعبارة «مُرْصِد لِلتَّلاَقِی»، سواء کانت بمعنى لقاء ملائکة الموت أو الله سبحانه فهى تفید عدم تعلق روحه المقدّسة سلام الله علیه بهذا العالم المادی الزائل، بل کان متعلقاً بالعالم العلوی والملائکة والذات الإلهیّة المقدّسة، وضربة ابن ملجم کانت المقدمة لذلک الفوز العظیم ولقاء ربّ الکعبة، والشاهد الناصع على ذلک قوله (علیه السلام)حین ضرب: «فُزتُ وَرَبُّ الکَعبَةِ».