یرى البعض من شرّاح نهج البلاغة أنّ هذا الکلام مستقل، ومن هنا ذکره بصورة مستقلة، بینما یراه البعض الآخر استمرار للکلام السباق، فمن ذکره بصورة مستقلة استدلّ بعدم وجود إرتباط بین هذا المقطع والمقطع السابق، حیث حث الإمام (علیه السلام) أصحابه فی المقطع السابق على الجهاد والقتال ببسالة، بینما جرى الکلام فی هذا المقطع عن الهزیمة والفرار، ولیس هنالک من إنسجام بین هذین المقطعین، ولکن بالنظر إلى أنّ هذا المقطع یخبر عن المستقبل، وهو المستقبل الذی لا یکون فیه الإمام (علیه السلام) بین ظهرانیهم ویشهدون حالة من الفرقة والتشتت والضعف والهوان والذلّة، وعلیه یمکن تصور إرتباط بین هذا المقطع وسابقه.
ولکن على حال سواء کان هذا المقطع مستقل أم مرتبطاً، فهو کلام الإمام (علیه السلام) ویخبر عن المصیر المریر لأفراد یوثرون العافیة والدعة على الجهاد، فقال: «وَکَأَنِّی أَنْظُرُ إِلَیْکُمْ تَکِشُّونَ کَشِیشَ الضِّبَابِ(1)».
فالعبارة یمکن أن تکون إشارة إلى الحیوانات المعروفة الضباب جمع ضب بالکسر والتی إن تحرکت بصورة جماعیة اضطربت وإحتک بعضها بالبعض الآخر فیظهر من هذا الاحتکاک صوتاً، والمراد أنّکم اضطربتم حین الفرار، بحیث إندک بعضکم بالبعض الآخر وقد انبعث صوت اضطرابکم.
ثم قال (علیه السلام): «لاَ تَأْخُذُونَ حَقَّاً، وَلاَ تَمْنَعُونَ ضَیْم(2)».
أی حال أسوأ من أن یصبح الإنسان على درجة من الضعف والعجز بحیث لا یستطیع الدفاع عن حقّه أو عن صحبه وقرابته وإخوته فی الدین، کما لا یستطیع الوقوف بوجه الظلم الذی یوجه إلیه وإلى الآخرین، حقّاً إنّها لحالة مؤلمة مهینة.
ثم إختتم خطبته بالقول: «قَدْ خُلِّیتُمْ وَالطَّرِیقَ، فَالنَّجَاةُ لِلْمُقْتَحِمِ، وَالْهَلَکَةُ لِلْمُتَلَوِّمِ(3)».
فالعبارة قد خلیتم والطریق تشیر إلى إتمام الحجة الکاملة، فقد بیّن الطریق إلى الهدف بکل وضوح من قبل زعیم عالم، وقد زالت الموانع التی تحول دون سلوکه، وعلیه فلن تعد هناک من حجة لمن یقصّر فی هذا الطریق، ولذلک بشر سالکین هذا الطریق بالسعادة، بینما هدد المتباطىء بالهلکة.