شدد الإمام (علیه السلام) فی هذا المقطع من الخطبة من ذمّه وتوبیخه لأهل الکوفة وعین نقاط ضعفهم وأعرب عن یأسه وعدم أمله فی مستقبلهم وعاقبة أمرهم، فقال: «وَاللّهِ لَوْ لاَ رَجَائِی الشَّهَادَةَ عِنْدَ لِقَائِی الْعَدُوَّ ـ وَلَوْ قَدْ حُمَّ(1) لِی لِقَاؤُهُ ـ لَقَرَّبْتُ رِکابِی ثُمَّ شَخَصْتُ عَنْکُمْ فَلا أَطْلُبُکُمْ مَا اخْتَلَفَ جَنُوبٌ وَشَمَالٌ».
العبارة «مَا اخْتَلَفَ جَنُوبٌ وَشَمَالٌ»، إشارة إلى مراده أننی لم آتی إلیکم أبداً، فالعبارة أشبه بما ورد فی إحدى کلماته (علیه السلام) حین أقترح علیه عدم التسویة فی العطاء من بیت مال المسلمین، فقال (علیه السلام): «أَتَأْمُرُونِّی أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِیمَنْ وُلِّیتُ عَلَیْهِ! وَاللّهِ لاَ أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَمِیرٌ، وَمَا أَمَّ نَجْمٌ فِی السَّمَاءِ نَجْماً!»(2).
تطالعنا هنا ثلاثة أسئلة تطرح نفسها:
الأول: کیف قال الإمام (علیه السلام) لولا رجائی الشهادة لما مکثت بینکم ولترکتکم، بینما ذکر سابقاً لا ینبغی لی أن أدع الجند والمصر وبیت المال وجبایة الأرض والقضاء بین المسلمین والنظر فی حقوق المطالبین، فکیف یمکن التوفیق بین هذین الأمرین؟
الثانی: أنّ الإمام (علیه السلام) قد سمع بشارة رسول الله (صلى الله علیه وآله) له بالشهادة وکان یعلم أنّه سیقتل على یدى أشقى الآخرین عبدالرحمن بن ملجم، فکیف قال لولا رجائی الشهادة عند لقائی العدو؟
الثالث: کیف یستطیع الإمام (علیه السلام) التخلی عن إمامته وزعامته ویخرج من الناس؟
وللإجابة على السؤال الأول لابدّ من القول أن نیل فیض الشهادة کان یشکل أحد الأهداف المقدّسة للإمام (علیه السلام) فی بقائه وسط تلک الفئة ولا مانع من أن یکون له أهداف أخرى، حیث بین ائر تلک الأهداف فلم تعد هناک من حاجة لدیه لذکرها هن(3).
ونقول فی الردّ على السؤال الثانی إنّ لقاء العدو یشتمل على مفهوم غایة فی السعة وإن بدى فی الوهلة الاُولى یجسد مواجهة الخصم فی ساحة المعرکة والذی یمثل حزءاً من ذلک اللقاء، ونعلم أنّ شهادة الإمام (علیه السلام) کانت أحد مصادیق ذلک.
وامّا السؤال الثالث: فیمکن الإجابة علیه بالقول بأنّ ترک فئة فاسدة لا یمکن إصلاحها لا یعنی التخلی عن وظائف الإمامة أبداً، بل یمکن للإمام (علیه السلام) أن یتّجه صوب جماعة أعظم إستعداداً، على غرار ما فعله رسول الله(صلى الله علیه وآله) حین هاجر من مکة إلى المدینة.
ثم واصل الإمام (علیه السلام) کلامه بذکر الأدلّة التی تدعوه إلى عدم الإرتیاح منهم ویبیّن لهم نقاط ضعفهم على أمل الإلتفات إلى أنفسهم فیهموا باصلاحها فقال: «طَعَّانِینَ عَیَّابِینَ، حَیَّادِینَ(4)رَوَّاغِینَ(5)».
فهذه الصفات الأربعة على درجة من القبح والبشاعة بحیث یکفی وجود واحدة منها فی فرد لتدعو للنفرة منه والابتعاد عنه، فضلاً عن اجتماعها جمیعاً فیه، أی أنّ جلّ همّه الالتفات إلى المعایب والمثالب، بل یعطیها حجماً أکثر من واقعها فهو لا ینفک عن طرحها وتکرارها حتى شعر المقابل بالیأس، فلا یرى الحق حتى یولی له ظهراً فتختلط حیاته بالمکر والأسى، فکیف لرجل صالح أن یعیش وسط مثل هذه الفئة فضلاً عن الإمام المعصوم (علیه السلام) الزعیم للخلق والذی لیست أمامه من نتیجة لهذا الوضع المأساوی سوى الحزن والمعاناة، ومن هنا یرجو الإمام (علیه السلام) مفارقتهم والانفصال عنهم.
ثم أضاف الإمام (علیه السلام) بأنّه إلى جانب تلک العیوب الشخصیة هناک عیب اجتماعی کبیر فیهم والذی یتمثل بعدم جدوى کثرة عددهم مع قلّة اجتماع أفکارهم: «إِنَّهُ لاَغَنَاءَ فِی کَثْرَةِ عَدَدِکُمْ مَعَ قِلَّةِ اجْتَِماعِ قُلُوبِکُمْ».
صحیح أنّ عددکم یبدو کثیراً فی الظاهر، ولکن حیث تغیب الوحدة التی ینبغی أن تجمع قلوبکم وتوحدها وحیث ینفرد کل بإرادنه وقراره، فلم یعد هناک من خیر یؤمل فیکم، أو بعبارة أخرى فانّ اجتماعکم الموتى وتجمعکم تجمع الوحشة.
ثم إختتم الإمام (علیه السلام) الخطبة بقوله أنّی قمت بوظیفتی تجاهکم: «لَقَدْ حَمَلْتُکُمْ عَلَى الطَّرِیقِ الْواضِحِ الَّتی لاَیَهْلِکُ عَلَیْهَا إِلاَّ هَالِکٌ، مَنِ اسْتَقَامَ فَإِلَى الْجَنَّةِ،وَمَنْ زَلَّ فَإِلَى النَّارِ».
فالإمام (علیه السلام) أوضح بهذه العبارة حقیقة مفادها أنّی قلت لکم کل ما ینبغی قوله وأتممت علیکم الحجة وإن تمنیت الخروج عنکم ومفارقتکم فذلک لا یعنی أنّی قصرت فی مقام بوظیفتی تجاهکم، ولکن لأسف إنّکم لستم بالأفراد للائقین الذین یسعکم الاستفادة من البرامج التربویة التی یطرحها مرشد ربّانی شفیق علیکم.