کما قلنا سابقاً، بما أنّ السور المکیّة کان نزولها فی بدایة دعوة النّبی (صلى الله علیه وآله) وأثناء محاربته للمشرکین، فإنّها غالباً ما کانت تتحدّث عن المسائل العقائدیة وخصوصاً الدعوة إلى التوحید والمعاد ومحاربة الشرک، فی الوقت الذی نرى فیه أنّ السور المدنیة نزلت بعد إنتشار الإسلام وقیام الحکومة الإسلامیة، فقد تناولت الأحکام والمسائل المتعلّقة بالنظام الاجتماعی واحتیاجات المجتمع.
فهذه السورة (سورة الرعد) التی هی من السور المکّیة لها نفس الخصائص السابقة، فبعد ما تشیر إلى أحقّیة القرآن وعظمته، تتطرّق إلى آیات التوحید وأسرار الکون التی هی من دلائل ذات الله المقدّسة، فتارةً تتحدّث عن رفع السّماوات بغیر عمد، واُخرى عن تسخیر الشمس والقمر، ومرّةً عن مدّ الأرض وخلق الجبال والأشجار والثمار، ومرّة عن ستار اللیل المظلم الذی یغشی النهار.
ومرّة اُخرى تأخذ بأیدی الناس وتنقلهم إلى جنّات النخیل والأعناب والزروع، وتُحصی لهم عجائبها.
ثمّ تتطرّق إلى المعاد وبعث الإنسان من جدید ومحکمة العدل الإلهی، وهذه المجموعة من اُصول المبدأ والمعاد تبیّن مسؤولیة ووظائف الناس فی حرکة الحیاة وأنّ أی تحوّل فی قضایاهم المصیریّة یجب أن یبدأ من داخل أنفسهم.
ثمّ تعود مرّةً اُخرى إلى فکرة التوحید، وتسبیح الرعد وخوف الناس من البرق والصاعقة، وسجود السّماوات والأرضین فی مقابل عظمة الربّ، ولأجل أن تتعقّل القلوب والأسماع وتوقظ الأفکار، ولإیضاح أنّ الأوثان لیس لها أی میزة أو فائدة، تدعوهم إلى التفکّر والتعلّم، وتضرب لهم الأمثال لمعرفة الحقّ من الباطل، الأمثال الحیّة والقابلة للإدراک.
ومن هنا فالحصیلة النهائیة للإیمان بالتوحید والمعاد هی تلک التطبیقات العملیة والحیّة لها، فالقرآن فی هذه السورة یدعو الناس إلى الوفاء بالعهد وصلة الأرحام والصبر والاستقامة والإنفاق فی السرّ والعلانیة والنهی عن الإنتقام، ویوضّح لهم أنّ الدنیا فانیة، والطمأنینة والراحة لا تحصلان إلاّ فی ظلّ الإیمان بالله.
وفی النهایة یأخذ بأیدی الناس ویغور بهم فی أعماق التاریخ، ویریهم العواقب السیّئة للذین طغوا وعصوا وأبعدوا الناس عن الحقّ، ویختم السورة بتهدید الکفّار بعبارات وجمل لاذعة.
إذن فالسورة تبتدىء بالعقائد والإیمان وتنتهی بالبرامج التربویة للإنسان.
