قبل الدخول فی تفسیر آیات هذه السورة ینبغی ذکر عدّة أمور:
1ـ لا إشکال بین المفسّرین فی أنّ هذه السورة نزلت فی مکّة، سوى ما نُقل عن ابن عباس أنّ أربع آیات مدنیة (الآیات الثلاث فی أوّل السورة والآیة السّابعة منها). (1)
ولکن التدقیق فی إرتباط هذه الآیات بعضها مع البعض الآخر فی هذه السورة یجعلنا غیر قادرین على التفکیک بینها، فاحتمال نزول هذه الآیات الأربع فی المدینة ـ على هذا الأساس ـ بعید جدّاً.
2ـ جمیع آیات هذه السورة سوى الآیات القلیلة التی تقع فی نهایة السورة تبیّن قصّة نبیّ الله یوسف (علیه السلام). القصّة الطّریفة والجمیلة والتی تحمل بین طیّاتها العِبَر، ولذلک سمّیت هذه السورة باسم «یوسف» وبهذه المناسبة ـ أیضاً ـ ورد ذکر یوسف ـ من مجموع 27 مرّة فی القرآن ـ 25 مرّة فی هذه السورة ومرّة واحدة فی سورة غافر الآیة 34 ومرّة اُخرى فی سورة الأنعام الآیة 84.
ومحتوى هذه السورة ـ على خلاف سور القرآن الاُخرى ـ مرتبط بعضه ببعض، ویبیّن جوانب مختلفة من قصّة واحدة وردت فی أکثر من عشرة فصول، مع بیان أخاذ موجز، عمیق، وطریف ومثیر.
وبالرغم من أنّ القصّاصین غیر الهادفین، أو من لهم اغراض رخیصة سعوا إلى أن یحوّلوا هذه القصّة المهذّبة إلى قصّة عشق یحرک أهل الهوى والشهوة!! وأن یمسخوا الوجه الواقعی لیوسف (علیه السلام) بحیث بلغت الحال أن یصوروا «فیلماً سینمائیاً» وینشروه بصورة مبتذلة... إلاّ أنّ القرآن ـ وکلّ ما فیه أسوة وعبرة ـ عکس فی ثنایا هذه القصّة أسمى دروس العفة وضبط النفس والتقوى والإیمان، حتى لو أنّ إنساناً قرأها عدّة مرات فإنّه یتأثر ـ بدون اختیار ـ بأسلوبها الجذّاب فی کل مرّة.
ولذا فقد عبّر القرآن عنها بـ (أحسن القصص) وجعل فیها العبر للمعتبرین (أولی الألباب).
3ـ التدقیق فی آیات هذه السورة یکشف هذه الحقیقة للإنسان، وهی أنّ القرآن معجز فی جمیع أبعاده، لأنّ الأبطال الذین یقدمهم فی قصصه أبطال حقیقیّون لا خیالیّون، وکل واحد فی نفسه منهم منعدم النظیر
فإبراهیم (علیه السلام) : البطل الذی حطّم الأصنام بروحه العالیة التی لا تقبل المساومة مع الطغاة.
ونوح (علیه السلام) : بطل الصبر والإستقامه والشفقة والقلب المحترق فی ذلک العمر الطویل المبارک.
وموسى (علیه السلام) : البطل المربّی لقومه اللجوجین، والذی وقف بوجه فرعون المتکبر الطاغی.
ویوسف (علیه السلام) : بطل الورع والتقوى والطهارة... أمام امرأة محتالة جمیلة عاشقة.
بعد هذا کلّه تتجلّى القدرة البیانیة للوحی القرآنی بصورة تحیّر الإنسان، لأنّ هذه القصّة ـ کما نعرف ـ تنتهی فی بعض مواردها إلى مسائل العشق ودون أن یمسخها القرآن أو یتجاوزها یتعرض إلى الأحداث فی مسرحها بدقة بحیث لا یحس السامع شیء غیر مطلوب فیها، ویذکر القضایا بأجمعها فی المتن، ولکن تحفّها أشعة قویة من التقوى والطهارة.
1. تفسیر مجمع البیان، بدایة سورة; تفسیر صافى هکذا.
