مرّة اُخرى نواجه الواقعیة فی هذه الآیات، وهی أن أصحاب الثروة والقوة وعبید الدنیا المادییّن یرون جمیع الأشیاء من خلال نافذتهم المادیة... فهم یتصورون أنّ الإحترام والشخصیّة هما ثمرة وجود الثروة والمقام والحیثیات فحسب، فلا ینبغی التعجب من أن یکون المؤمنون الصادقون الذین خلت أیدیهم من المال والثروة فی قاموسهم «أراذل» وینظرون إلیهم بعین الإحتقار والإزدراء.
ولم تکن هذه المسألة منحصرة فی نوح وقومه، إذ کانوا یصفون المؤمنین المستضعفین حوله ـ ولا سیما الشباب الواعی منهم ـ بأنّ عقولهم خالیة وأفکارهم قاصرة، وکأنّهم لا قیمة لهم. فالتاریخ یکشف أن هذا المنطق کان موجوداً فی عصر الأنبیاء الآخرین وعلى الأخصّ فی زمن نبىّ الإسلام (صلى الله علیه وآله) والمؤمنین الأوائل.
کما نرى الآن مثل هذا المنطق فی عصرنا وزماننا، فالمستکبرون الذین یمثلون فراعنة العصر ـ إعتماداً على سلطانهم وقدراتهم وقواهم الشیطانیة ـ یتّهمون «المؤمنین» بمثل هذا الإتهام... فکأنّما یعید التاریخ نفسه وصوره على أیدی هؤلاء ومخالفیهم..
ولکن حین یتطهّر المحیط الفاسد بثورة إلهیة... فهذه المعاییر التی تقاس بها الشخصیّة والعناوین الموهومة الاُخرى تُلقى فی مزابل التاریخ، وتحل محلّها المعاییر الإنسانیة الأصیلة... المعاییر المتولدة من صمیم حیاة الإنسان والتی تکون لبنات تحتیة للبناء الفوقانی للمجتمع السلیم الحرّ، حیث یستلهم منها قِیَمهُ، کالإیمان والعلم والإیثار والمعرفة والعفو والتسامح والتقوى والشهامة والشجاعة والتجربة والذکاء والإدارة والنظم وما أشبهها ..
