فی مبتدأ هذه الآیة یشرع القرآن بسرد حکایة مریم وأجدادها ومقامهم، فهم النموذج الکامل لحب الله الحقیقی وظهور آثار هذا الحب فی مقام العمل والذی أشارت إلیه الآیات السابقة.
(إنّ اللّه اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهیم وآل عمران على العالمین ).
«اصطفى» من الصفو، وهو خلوص الشیء من الشوائب، ومنه «الصفا» للحجارة الصافیة، وعلیه فالإصطفاء هو تناول صفو الشیء.
تقول الآیة: إنّ الله إختار آدم ونوحاً وآل إبراهیم وآل عمران من بین الناس جمیعاً، هذا الاختیار قد یکون «تکوینیاً» وقد یکون «تشریعیاً» أی أنّ الله قد خلق هؤلاء منذ البدء خلقاً متمیّزاً، وإن لم یکن فی هذا الإمتیاز ما یجبرهم على اختیار طریق الحقّ، بل إنّهم بملء اختیارهم وحرّیة إرادتهم إختاروه، غیر أنّ ذلک التمیّز أعدّهم للقیام بهدایة البشر ثمّ على أثر إطاعتهم أوامر الله، والتقوى والسعی فی سبیل هدایة الناس نالوا نوعاً من التمیّز الإکتسابی، الذی إمتزج بتمیّزهم الذاتی، فکانوا من المصطفین.
(ذرّیة بعضها من بعض ) (1) .
تشیر هذه الآیة إلى أنّ هؤلاء المصطفین کانوا ـ من حیث الإسلام والطهارة والتقوى والجهاد فی سبیل هدایة البشر ـ متشابهین ، بمثل تشابه نسخ عدّة من کتاب واحد، یقتبس کلّ من الآخر: (بعضها من بعض ).
(والله سمیعٌ علیم ).
فی النهایة تشیر الآیة إلى حقیقة أنّ الله کان یراقب مساعیهم ونشاطهم، ویسمع أقوالهم، ویعلم أعمالهم. وفی هذا إشارة أیضاً إلى مسؤولیات المصطفین الثقیلة نحو الله ومخلوقات الله.
فی هذه الآیة إشارة إلى جمیع الأنبیاء من اُولی العزم، فبعد نوح الذی صرّح بإسمه، یأتی آل إبراهیم الذین یضمّون نوحاً نفسه وموسى وعیسى ونبیّ الإسلام. وذکر آل عمران تکرار للإشارة إلى السیّدة مریم والمسیح، بالنظر لکون هذه الآیة مقدّمة لبیان حالهما.