التّفسیر

SiteTitle

صفحه کاربران ویژه - خروج
ورود کاربران ورود کاربران

LoginToSite

SecurityWord:

Username:

Password:

LoginComment LoginComment2 LoginComment3 .
SortBy
 
الأمثل 2
3ـ طالوت فی الحکمسورة البقرة / الآیة 253

نعود إلى تفسیر الآیات محلّ البحث فی أوّل آیة یخاطب الله تعالى نبیّه الکریم ویقول: (ألم تر إلى الملإ من بنی إسرائیل من بعد موسى إذ قالوا لنبیّ لهم ابعث لنا ملکاً نقاتل فی سبیل الله ).

 

(الملأ) هم الجماعة یجتمعون على رأی فیملأون العیون رواءً ومنظراً والنفوس بهاءً وجلالاً ولذلک یقال لأشراف کلّ قوم (الملأ) لأنّهم بما لهم من مقام ومنزلة یملأون العین.

هذه الآیة ـ کما قلنا ـ تشیر إلى جماعة کبیرة من بنی إسرائیل طلبوا بصوت واحد من نبیّهم أن یختار لهم أمیراً وقائداً لیحاربوا بقیادته (جالوت) الّذی کان یُهدّد مجتمعهم ودینهم واقتصادهم بالخطر.

وعلى الرّغم من أنّ الجماعة المذکورة کانت ترید أن تدفع العدو المعتدی الذی أخرجهم من أرضهم ویُعیدوا ما اُخذ منهم، فقد وُصفت تلک الحرب بأنّها فی سبیل الله، وبهذا یتبیّن أنّ ما یُساعد على تحرّر النّاس وخلاصهم من الأسر ورفع الظّلم والعدوان یُعتبر فی سبیل الله.

وقد ذکر البعض أنّ اسم ذلک النّبی هو (شمعون) وذکر آخرون بأنّه (إشموئیل) وبعضٌ (یوشع) ولکنّ المشهور بین المفسّرین أنّه (إشموئیل) أی إسماعیل بلغة العرب، وبهذا وردت روایة عن الإمام الباقر (علیه السلام) أیض (1) .

ولمّا کان نبیّهم یعرف فیهم الضعف والخوف قال لهم: یمکن أن یصدر إلیکم الأمر للجهاد فلا تطیعون (قال هل عسیتم إن کتب علیکم القتال ألاّ تقاتلوا ).

ولکنّهم قالوا: کیف یمکن أن نتملّص من محاربة العدو الذی أجلانا عن أوطاننا وفرّق بیننا وبین أبنائنا (قالوا وما لنا ألاَّ نقاتل فی سبیل الله وقد اُخرجنا من دیارنا وأبنائنا ) وبذلک أعلنوا وفاءهم وتمسّکهم بالعهد.

ومع ذلک فإنّ هذا الجمع من بنی إسرائیل لم یمنعهم اسم الله ولا أمره ولا الحفاظ على استقلالهم والدفاع عن وجودهم ولا تحریر أبناءهم من نقض العهد، ولذلک یقول القرآن مباشرة بعد ذلک: (فلمّا کُتب علیهم القتال تولّوا إلاَّ قلیلاً منهم والله علیم بالظالمین ).

وذکر بعض المفسّرین أنّ عدّة من بقی مع طالوت 313 نفر بعدد جیش الإسلام یوم بدر (2) .

وعلى کلّ حال فإنّ نبیّهم أجابهم على طلبهم التزاماً منه بواجبه وجعل علیهم طالوت ملکاً بأمر من الله تعالى: (وقال لهم نبیّهم إنّ الله قد بعث لکم طالوت ملکاً ).

ویتّضح من هذه الآیة أنّ الله هو الذی اختار طالوت لیکون ملکاً على بنی إسرائیل وقائداً لعسکرهم، ولعلّ استعمال کلمة (قد بعث) یشیر إلى ما ذکرنا فی القصّة من الحوادث غیر المتوقّعة الذی جاءت بطالوت إلى مدینة ذلک النّبی والحضور فی مجلسه، فکذلک یظهر من کلمة (ملکاً) أنّ طالوت لم یکن قائداً للجیش فحسب، بل کان ملکاً على ذلک المجتمع (3) .

ومن هنا بدأت المخالفات والاعتراضات وقال بعضهم: (قالوا أنّا یکون له الملک علینا ونحن أحقُّ بالملک منه ولم یُؤتَ سعةً من المال ).

وهذا هو أوّل اعترضاً ونقض فی العهد من قِبل بنی إسرائیل لنبیّهم مع أنّه قد صرّح لهم أنّ الله هو اختار طالوت، وفی الواقع أنّهم اعترضوا على الله تعالى بقولهم: إنّنا أجدر من طالوت بالحکم لأنّ الحکم لابدّ فیه من شرطین لا یتوفّران فی طالوت وهما: الحسب والنسب من جهة، والمال والثروة من جهة اُخرى، وقد ذکرنا فی القصّة أنّ طالوت کان من قبیلة مغمورة من قبائل بنی إسرائیل، ومن حیث الثروة لم یکن سوى مُزارع فقیر.

غیر أنّ القرآن الکریم یشیر إلى الجواب القاطع على هذا الاعتراض إذ یقول: (قال إنّ الله اصطفاه علیکم وزاده بسطة فی العلم والجسم ).

فأفهمهم بذلک أنّ اختیار الله طالوت ملکاً وقائداً لما یتمتّع به من علم وحکمة وعقل، ومن الناحیة البدنیّة فهو قوی ومقتدر.

وهذا یعنی أوّلاً: أنّ هذا الاختیار هو اختیار الله تعالى.

وثانیاً: إنّکم على خطأ کبیر فی تشخیص شرائط القیادة، لأنّ النسب الرّفیع والثروة الکبیرة لیستا امتیازین للقائد إطلاقاً، لأنّهما من الامتیازات الاعتباریة الخارجیّة، أمّا العلم والمعرفة وکذلک القوّة الجسمیّة فهما امتیازان واقعیّان ذاتیان حیث یلعبان دوراً مهمّاً فی شخصیّة القائد.

إنّ قائد العالم یعرف طریق سعادة المجتمع ویرسم الخطط للوصول إلیه بعلمه وحنکته، وکذلک یرسم الاُسلوب الصحیح فی مواجهة الأعداء، ثمّ یقوم بقوّته الجسمانیّة بتمثیل هذا المخطَّط على أرض الواقع.

 

کلمة (بسطة) إشارة إلى اتساع وجود الإنسان فی أنوار العلم والقوّة، أی أنّ الإنسان بالعلم والحکمة والقوّة الجسمیّة الکافیة یزداد سعةً فی وجوده، وهنا نلحظ أنّ البسطة فی العلم تقدّمت على القوّة الجسمیّة، لأنّ الشرط الأوّل هو العلم والمعرفة.

ویُستفاد ضمناً من هذا التعبیر أنّ مقام الإمامة والقیادة من الأحکام الإلهیّة وأنّ الله تعالى هو الذی یشخّص اللاّئق لها، فلو رأى اللّیاقة الکافیة فی أولاد الرّسول (صلى الله علیه وآله) لجعل الإمامة عندهم، ولو توفّرت عند أشخاص آخرین لجعلها فیهم، وهذا هو ما یعتقد به علماء الشیعة ویدافعون عنه.

ثمّ تضیف الآیة (والله یُؤتی ملکه من یشاء والله واسعٌ علیم ).

هذه الجملة یمکن أن تکون إشارة إلى شرط ثالث للقائد، وهو توفیر الله تعالى الإمکانیّات وآلیات القیادة ووسائل الحکم، لأنّه من الممکن أن یکون قائداً کاملاً من حیث العلم والقوّة ولکنّه محاط بظروف لا تمنحه أیّ استعداد للوصل إلى أهدافه المقدّسة، ولاشکّ أنّ قائداً مع هذه الظّروف لا یمکن أن ینتصر وینجح فی قیادته، ولذلک یقول القرآن هنا أنّ الله تعالى یمنح الحکومة الإلهیّة لمن یشاء، أی أنّه یهیّأ الظروف اللأزمة لنجاحه.

الآیة التالیة تبیّن أنّ بنى إسرائیل لم یکونوا قد اطمأنوا کلّ الاطمئنان إلى أنّ طالوت مبعوث من الله تعالى لقیادتهم على الرّغم من أن نبیّهم صرّح بذلک لهم، ولهذا طلبوا منه الدّلیل، فکان جوابه أنّ الدلیل سیکون مجیء التابوت أو صندوق العهد إلیهم (وقال لهم نبیّهم إنّ آیة ملکه أن یأتیکم التّابوت ).

فما هو تابوت بنی إسرائیل أو صندوق العهد؟ ومن الذی صنعه؟ وما هی محتویاته؟ فإنّ فی تفاسیرنا وأحادیثنا، وکذلک فی العهد القدیم ـ التوراة ـ کلاماً کثیراً عنه. إلاَّ أنّ أوضحها هو ما جاءنا فی أحادیث أهل البیت (علیهم السلام) وأقوال بعض المفسّرین من أمثال ابن عبّاس، حیث قالوا: إنّ التابوت هو الصندوق الذی وضعت فیه اُمّ موسى ابنها موسى وألقته فی الیمّ، وبعد أن انتشل أتباع فرعون الصندوق من البحر وأتوا به إلیه وأخرجوا موسى منه، ظلّ الصندوق فی بیت فرعون ثمّ وقع بأیدی بنی إسرائیل، فکانوا یحترمونه ویتبرّکون به.

موسى (علیه السلام) وضع فیه الألواح المقدّسة ـ التی تحمل على ظهرها أحکام الله ـ ودرعه

وأشیاء اُخرى تخصّه وأودع کلّ ذلک فی أواخر عمره لدى وصیّه یوشع ابن نون. (4)

وبهذا ازدادت أهمیّة هذا الصندوق عند بنی إسرائیل، فکانوا یحملونه معهم کلّما نشبت حرب بینهم وبین الأعداء، لیصعّد معنویاتهم، لذلک قیل: إنّ بنی إسرائیل کانوا أعزّة کرماء ما دام ذلک الصندوق بمحتویاته المقدّسة بینهم، ولکن بعد هبوط التزاماتهم الدینیة وغلبة الأعداء علیهم سلب منهم الصندوق. واشموئیل ـ کما تذکر الآیة ـ وعدهم بإعادة الصندوق باعتباره دلیلاً على صدق قوله.

(فیه سکینةٌ مِن ربّکم وبقیّةٌ ممّا ترک آلُ موسى وآلُ هارون ).

هذه الفقرة من الآیة تبیّن أنّ الصندوق کما قلنا کان یحتوی على أشیاء تضفی السکینة على بنی إسرائیل وترفع معنویاتهم فی الحوادث المختلفة (فیه سکینة من ربّکم ).

ثمّ إنّ محتویات الصندوق کانت تضمّ آثاراً ممّا خلف آل موسى وآل هارون اُضیفت إلى ما کان فیه من قبل، وممّا یجدر ذکره هو أنّ «السکینة» بمعنى الهدوء، ویقصد بها هنا هدوء النفس والقلب.

قال لهم اشموئیل: إنّ الصندوق سوف یعود إلیکم لتستعیدوا الهدوء الذی فقدتموه، وفی الحقیقة أنّ هذا الصندوق بطابعه المعنویّ والتاریخیّ کان أکثر من مجرّد لواء لبنی إسرائیل وشعاراً لهم، فقد کان یمثّل رمز استقلالهم ووجودهم وبرؤیته کانوا یسترجعون ذکرى عظمتهم السابقة، لذلک کان الوعد بعودته بشارة عظیمة لهم.

(تحمله الملائکة ).

کیف جاء الملائکة بصندوق العهد؟ فی هذا أیضاً للمفسّرین کلام کثیر أوضحها قولهم: جاء فی التاریخ أنّه عندما وقع صندوق العهد بید عبدة الأصنام فی فلسطین وأخذوه إلى حیث یعبدون فیه أصنامهم، أصابتهم على أثر ذلک مصائب کثیرة، فقال بعضهم: ما هذه المصائب إلاَّ بسبب هذا الصندوق، فعزموا على إبعاده عن مدینتهم ودیارهم، ولمّا لم یرض أحد بالقیام بالمهمّة اضطّروا إلى ربط الصندوق ببقرتین وأطلقوهما فی الصحراء، واتّفق هذا فی الوقت الذی تمّ فیه نصب طالوت مَلکاً على بنی إسرائیل. وأمر الله الملائکة أن یسوقوا الحیوانین نحو مدینة اشموئیل. وعندما رأى بنو إسرائیل الصندوق بینهم، اعتبروه إشارة من الله على اختیار طالوت مَلکاً علیهم.

 

وعلیه نسب حمل الصندوق إلى الملائکة، لأنّهم هم الذین ساقوا البقرتین إلى بنی إسرائیل.

فی الحقیقة أنّ للملائکة معنىً واسعاً فی القرآن والروایات، یشمل فضلاً عن الکائنات الروحیة العاقلة، مجموعة من القوى الغامضة الموجودة فی هذا العالم.

ویُستفاد ممّا تقدّم أنّه بالرّغم من ثبوت مسألة القیادة الإلهیّة لطالوت بالأدلّة والمعاجز الإلهیّة، فهناک بعض الأفراد لضعف إیمانهم لم یسلّموا إلى هذا الحقّ، وقد ظهرت هذه الحقیقة على أعمالهم العبادیّة، ومن ذلک تشیر الجملة الأخیرة فی هذه الآیة (إنّ فی ذلک لآیة لکم إن کنتم مؤمنین ).

ثمّ إنّ بنی إسرائیل رضخوا لقیادة طالوت فصنع منهم جیوشاً کثیرة وساروا إلى القتال، وهنا تعرّض بنی إسرائیل لاختبار عجیب، ومن الأفضل أن نجمع تلک الأحداث ومجریات الاُمور من القرآن نفسه حیث یقول: (فلمّا فصل طالوت بالجنود قال إنّ الله مبتلیکم بنهر فمن شرب منه فلیس منّی ومن لم یطعمه فإنّه منّی إلاّ من اغترف غرفة بیده ) (5) .

ویتّضح فی هذه الموارد الإمتحان الکبیر الذی تعرّض له بنو إسرائیل وهو المقاومة الشدیدة للعطش، وکان هذا الامتحان ضروریّاً لجیش طالوت وخاصّة مع السّوابق السیّئة لهذا الجیش فی بعض الحروب السابقة، لأنّ الانتصار یتوقّف على مقدار الانضباط وقدرة الإیمان والاستقامة فی مقابل الأعداء والطّاعة لأوامر القیادة.

وطالوت الذی کان یتّجه بجنوده للجهاد، کان لابدّ له أن یعلم إلى أیّ مدى یمکن الاعتماد على طاعة هؤلاء الجنود، وعلى الأخصّ اُولئک الذین ارتضوه واستسلموا له على مضض متردّدین، ولکنّهم فی الباطن کانت تراودهم الشکوک بالنسبة لإمرته، لذلک یؤمر طالوت أمراً إلهیّاً باختبارهم، فیخبرهم أنّهم سوف یصلون عمّا قریب إلى نهر، فعلیهم أن یقاوموا عطشهم، وألاَّ یشربوا إلاَّ قلیلاً، وبذلک یستطیع أن یعرف إن کان هؤلاء الذین یریدون أن یواجهوا سیوف الأعداء البتّارة یتحمّلون سویعات من العطش أم لا.

وشرب الأکثریة کما قلنا فی سرد الحکایة، وکما جاء بإیجاز فی الآیة. (فشربوا منه إلاّ قلیلاً منهم ).

 

وهکذا جرت التصفیة الثانیة فی جیش طالوت. وکانت التصفیة الاُولى عندما نادى المنادی للاستعداد للحرب وطلب الجمیع بالاشتراک فی الجهاد إلاَّ الذین کانت لهم التزامات تجاریة أو عمرانیة أو نظائرها.

(فلمّا جاوَزه هو والذین آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا الیوم بجالوتَ وجنودِه ).

تفید هذه الآیة أنّ تلک القلّة التی نجحت فی الامتحان هی وحدها التی تحرّکت معه، ولکن عندما خطر لهؤلاء القلّة أنّهم مقدمون على مواجهة جیش جرّار وقوی، ارتفعت أصواتهم بالتباکی على قلّة عددهم، وهکذا بدأت المرحلة الثالثة فی التصفیة.

(قال الذین یظُنّون أنّهم ملاقوا الله کم من فئة قلیلة غلبت فئةً کثیرةً بإذن الله والله مع الصابرین ) (6) .

«الفئة» أصلاً من «الفیء» بمعنى الرجوع، ویقصد بها الجماعة الملتحمة التی یرجع بعضهم إلى بعض لیعضده، تقول الآیة: إنّ الذین کانوا یؤمنون بیوم القیامة إیماناً راسخاً قالوا للآخرین: ینبغی ألاَّ تلتفتوا إلى (الکم) بل إلى (الکیف) إذ کثیراً ما یحدث أنّ الجماعة الصغیرة المتحلّیة بالإیمان والعزم والتصمیم تغلب الجماعة الکبیرة بإذن الله.

ینبغی أن ننتبه إلى أنّ «یظنّون» هنا تعنی یعلمون، أی أنّهم على یقین من قیام یوم القیامة، ولا یعنی الظنّ هنا الاحتمال، وظنّ هذه تعنی الیقین فی کثیر من الحالات، حتى لو اعتبرناها بمعنى الاحتمال، فإنّها هنا تناسب المقام أیضاً، إذ فی هذه الحالة یکون المعنى أنّ مجرّد احتمال قیام یوم القیامة یکفی، فکیف بالیقین به حیث یحمل الإنسان على اتّخاذ قرار بالنسبة للأهداف الربّانیة، إنّ من یحتمل النجاح فی حیاته ـ فی الزراعة أو التجارة أو الصناعة أو السیاسة ـ یمضی فی مسیرته بکلّ عزم وتصمیم.

أمّا لماذا یطلق على یوم القیامة یوم لقاء الله؟ فذلک ما أوضحناه فی ذیل الآیة 46 من نفس السورة.

فی الآیة التالیة یذکر القرآن الکریم موضوع المواجهة الحاسمة بین الجیشین ویقول: (ولمّا برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربّنا أفر غ علینا صبراً وثبّت أقدامنا وانصرنا على القوم الکافرین ).

 

(برزوا) من مادّة (بروز) بمعنى الظّهور، فعندما یستعد المحارب للقتال ویتّجه إلى المیدان یقال أنّه برز للقتال، وإذا طلب القتال من الأعداء یُقال أنّه طلب مبارزاً.

تقول هذه الآیة أنّه عندما وصل طالوت وجنوده إلى حیث ظهر لهم جالوت وجیشه القوی ووقفوا فی صفوف أمامه رفعوا أیدیهم بالدّعاء، وطلبوا من الله العلیّ القدیر ثلاثة اُمور، الأوّل: الصّبر والاستقامة إلى آخر حد، ولذا جاءت الجملة تقول: (أفر غ علینا صبراً ).

و (الإفراغ) تعنی فی الأصل صبّ السائل بحیث یخلو الإناء ممّا فیه تماماً، ومجیء (صبر) بصیغة النکرة یؤکّد هذا المعنى بشکل أکبر.

الاعتماد على ربوبیّة الخالق جلّ وعلا بقولهم (ربّنا) وکذلک عبارة (إفراغ) مضافاً إلى کلمة (على) التی تبیّن أنّ النزول من الأعلى، وکذلک عبارة (صبراً) فی صیغة النکرة کلّ هذه المفردات تدلُّ على نکات عمیقة لمفهوم هذا الدعاء وأنّه دعاء عمیق المغزى وبعید الاُفق.

الثانی: أنّهم طلبوا من الله تعالى أن یثبّت أقدامهم (وثبّت أقدامنا ) حتى لا یُرجّح الفرار على القرار، والواقع أنّ الدعاء الأوّل إتّخذ سمة الطلب النفسی والباطنی، وهذا الدعاء له جنبة ظاهریّة وخارجیّة، ومن المسلّم أنّ ثبات القدم هو من نتائج روح الإستقامة والصبر.

الثالث: من الاُمور التی طلبها جیش طالوت هو (وانصرنا على القوم الکافرین ) وهو فی الواقع الهدف الأصلی من الجهاد ویُنفّذ النتیجة النهائیّة للصبر والإستقامة وثبات الأقدام.

ومن المسلّم أنّ الله تعالى سوف لا یترک عبادة هؤلاء لوحدهم أمام الأعداء مع قلّة عددهم وکثرة جیش العدو، ولذلک تقول الآیة التالیة: (فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت ).

وکان داوود فی ذلک الوقت شابّاً صغیر السن وشجاعاً فی جیش طالوت. ولا تبیّن الآیة کیفیّة قتل ذلک الملک الجبّار بید داود الشاب الیافع، ولکن کما تقدّم فی شرح هذه القصّة أنّ داود کان ماهراً فی قذف الحجارة بالقلاّب حیث وضع فی قلاّبه حجراً أو اثنین ورماه بقوّة وبمهارة نحو جالوت، فأصاب الحجر جبهته بشدّة فصرعه فی الوقت، فتسّرب الخوف إلى جمیع أفراد جیشه، فانهزموا بسرعة أمام جیش طالوت، وکأنّ الله تعالى أراد أن یظهر قدرته فی هذا المورد وأنّ الملک العظیم والجیش الجرّار لا یستطیع الوقوف أمام شاب مراهق مسلّح بسلاح ابتدائی لا قیمة له.

تضیف الآیة: (وآتاه الله الملک والحکمة وعلّمه ممّا یشاء ) الضّمیر فی هاتین الجملتین یعود على داود الفاتح فی هذه الحرب، وعلى الرّغم من أنّ الآیة لا تقول أنّ داود هذا هو داود النّبی والد سلیمان (علیهما السلام) ولکنّ جملة (وآتاه الله الملک والحکمة وعلّمه ممّا یشاء ) تدلّ على أنّه وصل إلى مقام النبوّة، لأنّ هذا ممّا یوصف به الأنبیاء عادةً، ففی الآیة 20 من سورة ص نقرأ عن داود (وشددنا ملکه وآتیناه الحکمة ) کما أنّ الأحادیث الواردة فی ذیل هذه الآیة تشیر إلى أنّه کان داود النّبی نفسه.

وهذه العبارة یمکن أن تکون إشارة إلى العلم الإداری وتدبیر البلاد وصنع الدّروع ووسائل الحرب وأمثال ذلک حیث کان داود (علیه السلام) یحتاج إلیها فی حکومته العظیمة، لأنّ الله تعالى لا یُعطی منصباً ومقاماً لأحد العباد إلاّ ویؤتیه أیضاً الاستعداد الکامل والقابلیّة اللاّزمة لذلک.

وفی ختام الآیة إشارة إلى قانون کلّی فتقول: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولکنّ الله ذو فضل على العالمین ).

فالله سبحانه وتعالى رحیم بالعباد ولذلک یمنع من تشرّی الفساد وسرایته إلى المجتمع البشری قاطبة.

وصحیح أنّ سنّة الله تعالى فی هذه الدنیا تقوم على أصل الحریّة والإرادة والاختیار وأنّ الإنسان حرٌّ فی اختیار طریق الخیر أو الشر، ولکن عندما یتعرّض العالم إلى الفساد والإندثار بسبب طغیان الطّواغیت، فإنّ الله تعالى یبعث من عباده المخلصین من یقف أمام هذا الطغیان ویکسر شوکتهم، وهذه من ألطاف الله تعالى على عباده، وشبیه هذا المعنى ورد فی آیة 40 من سورة الحج (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدّمت صوامع وبیع وصلوات ومساجد... ).

وهذه الآیات فی الحقیقة بشارة للمؤمنین الّذین یقفون فی مواقع أمامیّة من مواجهة الطّواغیت والجبابرة فینتظرون نصرة الله لهم.

سؤال: ویرد هنا سؤال، وهو أنّ هذه الآیة هل تشیر إلى مسألة تنازع البقاء التی تعتبر أحد الأرکان الأربعة لفرضیة داروِن فی مسألة تکامل الأنواع؟ تقول الفرضیّة أنّ الحرب والنّزاع ضروریٌّ بین البشر، وإلاّ فالسّکون والفساد سیعم الجمیع، فتعود الأجیال البشریّة

إلى حالتها الاُولى، فالتّنازع والصّراع الدائمی یؤدّی إلى بقاء الأقوى وزوال الضعفاء وانقراضهم، وهکذا یتمّ البقاء للأصلح بزعمهم.

الجواب: إنّ هذا التفسیر یصح فیما إذا قطعنا صله هذه الآیة لما قبلها تماماً، وکذلک الآیة المشابهة لها فی سورة الحجّ ولکنّنا إذا اخذنا بنظر الاعتبار هذه الآیات رأیناها تدور حوّل محاربة الظّالمین والطّغاة، فلولا منع الله تبارک وتعالى لملؤوا الأرض ظلماً وجوراً، فعلى هذا لا تکون الحرب أصلاً کلیّاً مقدّساً فی حیاة البشریّة.

ثمّ إنّ ما یقال عن قانون (تنازع البقاء) المبنی على المبادىء الأربعة لنظریّة داروِن فی (تطوّر الأنواع) لیست قانوناً علمیّاً مسلّماً، به بل هو فرضیّة أبطلها العلماء، وحتى الّذین کانوا یؤیّدون نظریّة تکامل الأنواع لم یعد أیّاً منهم یعوّل علیها ویعتبرون تطوّر الأحیاء نتیجة الطفرة (7) .

وإذا ما تجاوزنا عن کلّ ذلک واعتبرنا فرضیّة تنازع البقاء مبدأً علمیّاً فإنّه یمکن أن یکون کذلک فیما یتعلّق بالحیوان دون الإنسان، لأنّ حیاة الإنسان لا یمکن أن تتطوّر وفق هذا المبدأ أبداً، لأنّ تکامل الإنسان یتحقّق فی ضوء التّعاون على البقاء لا تنازع البقاء.

ویبدو أنّ تعمیم فرضیّة تنازع البقاء على عالم الإنسان إنّما هو ضربٌ من الفکر الاستعماری الّذی یؤکّده بعض علماء الإجتماع فی الدول الرأسمالیة لتسویغ حروب حکوماتهم الدمویّة البغیضة وإضفاء الطّابع العلمی على سلوکیاتهم وجعل الحرب والنزاع ناموساً طبیعیاً لتطوّر المجتمعات الإنسانیة وتقدّمها، أمّا الأشخاص الّذین، وقعوا دون وعی تحت تأثیر أفکار هؤلاء اللاّإنسانیّة وراحوا یطبّقون هذه الآیة علیها فهم بعیدون عن تعالیم القرآن، لأنّ القرآن یقول بکلّ صراحة: (یا أیّها الّذین آ منوا ادخلوا فی السّلم کافّة ) (8) .

ومن العجب أنّ بعض المفسّرین المسلمین مثل صاحب المنار وکذلک (المراغی) فی تفسیره وقعوا تحت تأثیر هذه الفرضیّة إلى الحدّ الذی اعتبروها أحد السنن الإلهیّة، ففسّروا بها الآیة محلّ البحث وتصوّروا أنّ هذه الفرضیّة من إبداعات القرآن لا من ابتکارات واکتشافات داروِن، ولکن کما قلنا أنّ الآیة المذکورة لیست ناظرة إلى هذه الفرضیّة، ولا أنّ هذه الفرضیّة لها أساس علمی متین، بل إنّ الأصل الحاکم على الروابط بین البشر هو التعاون على البقاء لاتنازع البقاء.

وآخر آیة فی هذا البحث تقول: (تلک آیات الله نتلوها علیک بالحقّ وإنّک لمن المرسلین).

تشیر هذه الآیة إلى القصص الکثیرة التی وردت فی القرآن بشأن بنی إسرائیل وأنّ کلاَّ منها دلیلاً على قدرة الله وعظمته ومنزّهة عن کلّ خرافة واُسطورة (بالحقّ) حیث نزلت على نبیّ الإسلام (صلى الله علیه وآله) وکانت إحدى دلائل صدق نبوّته وأقواله.


1. تفسیر مجمع البیان، ج 1، و2، ص 350.
2. تفسیر روح المعانی، والتفسیر الکبیر، ذیل الآیة مورد البحث.
3. اعتبر صاحب تفسیر الکشّاف، طالوت اسماً أعجمیاً مثل: جالوت وداود، وقال الآخرون: إنّه اسم عربی مأخوذ من مادة «طول» وإشارة إلى طول قامة. (التفسیر الکبیر، ج 6، ص 172).
4. بحارالانوار، ج 13، ص 438 ـ 440.
5.«جنود» جمع «جند» فی الأصل بمعنى الأرض الکثیره الأحجار والمتراکمة الصخور ثمّ اطلقت على کلّ شیء متراکم وعادةً تأتی بمعنى الجیش الکبیر، وعبارة (لم یطعمه) جاءت بدل کلمة «لم یشربه» وهی إشارة إلى أنّ الجنود لا ینبغی لهم أن یشربوا منه بمقدار کف واحدة بل لا یذوقونه أیضاً.
6.«فئة» من «فیء» فی الأصل بمعنى الرجوع وبما أن کلّ جماعة تتعاضد فیما بینها وتعود أحدها على الاُخرى بالعون والمساعدة اطلقت کلمة«فئة».
7. لمزید من الإطلاع راجع الکتاب «الفرضیة الأخیرة فی التکامل».
8. البقرة، 208.

 

3ـ طالوت فی الحکمسورة البقرة / الآیة 253
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma