هاتان الآیتان تکمّلان الآیات السابقة التی قرأنا فیها أنّ الله تعالى حیٌّ وقیّوم وهو مدبّر الکون بأجمعه وسیعاقب الکافرین المعاندین (حتى لو لم یظهروا کفرهم وعنادهم) ومن البدیهی أنّ هذه الإحاطة والقدرة لتدبیر العالم بحاجة إلى علم غیر محدود وقدرة مطلقة، ولهذا أشارت الآیة الاُولى إلى علم الله تعالى، وفی الآیة الثانیة إلى قدرته المطلقة.
فی البدایة تقول الآیة الشریفة (إنّ الله لایخفى علیه شیء فی الأرض ولا فی السماء ).
فکیف یمکن أن یختفی عن أنظاره شیءٌ من الأشیاء فی حین أنّه حاضرٌ وناظرٌ فی کلّ مکان، فلا یخلو منه مکان؟! وبما أنّ وجوده غیرمحدود، فلا یخلو منه مکان معین، ولهذا فهو أقرب إلینا من کلّ شیء حتى من أنفسنا، وفی نفس الوقت الذی یتنزّه فیه الله تعالى عن المکان والمحل، فإنّه محیطٌ بکل شیء، وهذه الإحاطة والحضور الإلهی بالنسبة لجمیع المخلوقات بمعنى (العلم الحضوری) لا (العلم الحصولی) (1) .
ثمّ تبیّن الآیة التالیة واحدة من علم وقدرة الله تعالى الرائعة، بل هی فی الحقیقة إحدى روائع عالم الخلقة ومظهر بارزٌ لعلم الله وقدرته المطلقة حیث تقول الآیة: (هو الذی یصوّرکم فی الأرحام کیف یشاء ) ثمّ تضیف (لا إله إلاَّ هو العزیز الحکیم ).
إنّه لأمرٌ عجیب ومحیّر حقّاً أن یصوّر الله الإنسان وهو فی رحم اُمّه صوراً جمیلة ومتنوّعة فی أشکالها ومواهبها وصفاتها وغرائزها.
وهذه الآیة تؤکّد أنّ المعبود الحقیقی لیس سوى الله القادر الحکیم الذی یستحقّ العبادة، فلماذا إذن یختارون مخلوقات کالمسیح (علیه السلام) ویعبدونها؟! ولعلّ هذه العبارة إشارة إلى سبب النزول المتقدّم فی بدایة السورة من أنّ المسیحیّین أنفسهم یوافقون على أنّ المسیح کان جنیناً فی بطن اُمّه مریم، ثمّ تولّد منها، إذن فهو مخلوق ولیس بخالق فکیف یکون معبوداً؟!
1. «العلم الحضوری» یعنی أن یکون المعلوم ذاته حاضراً عند العلم. أمّا فی «العلم الحصولی» فإنّ الحاضر عند العالم هو صورة المعلوم ورسمه، فمثلاً أنّ علمی بنفسی علم حضوری لأنّ نفسی ذاتها حاضرة فی نفسی، أمّا بالنسبة للموجودات الاُخرى فعلمنا بها حصولی، لأنّ صورتها فقط هی الحاضرة فی أذهاننا.
