قالوا لنا: لعلکم تتعجبون وحقّکم أن تتعجبوا فی أنّ النسیان من  نعم الله الکبرى، طبعاً لا نقصد نسیان الشدائد والمصائب وما إلى ذلک، والمراد النسیان التدریجی للقدر الأکبر من خاطرات الماضی لفترة الطفولة أو الفترات التی تعقبها.
ففی الحقیقة یقوم إرشیف الحافظة بعمل غایة فی الأهمیّة بهذا المجال، فرفوف الحافظة وإن کانت کثیرة جدّاً، إلاّ أنّها محدودة بالتالی، فإذا امتلأت یوماً جمیعها، وأرادت أیّة حادثة جدیدة أن تشق طریقها إلى هذه الرفوف قیل لها: لامجال لک...
وهکذا سیعجز الإنسان عن حفظ حتى کلمة واحدة أو اسم جدید ویاله من مصیر مؤلم؟
أمّا هذا الجهاز فإنّه یقوم بصورة تلقائیة حین ورود أیّة خاطرات ومسائل جدیدة بطرح عدد من الملفات السابقة المهملة التی لا طائل من ورائها فیمهد الرفوف لاستقبال الموضوعات الجدیدة والطریف فی الأمر أنّه على درجة من الذکاء بحیث لن یشمل الطرح المذکور أیّة مسائل وملفات لها دور فی حیاة الإنسان، ویقتصر ذلک على الأمور التی لا تستحق تلک الأهمیّة وینبغی نسیانها.
فقلنا: یا له من جهاز عجیب ومبرمج لم نکن لحد الآن نعرف دوره، فودعناه وخرجنا من تلک الغرفة ذات الأسرار، والحال لم نطالع لحدّ الآن سوى غشاءً واحداً من أغشیته!!
ولا ندری کم سنذهل وندهش وکم سیطول الأمر لو فکرنا فی دراسة کل جوانب «الدماغ» بالکیفیة السابقة، ثم نخرج من هذه الغرفة ونتجول فی سائر غرف ودور وأحیاء ومدن وبلدان وجودنا؟!
فهل یمکن القول أنّ هذا البناء الضخم کان صدفة ولیس له مهندس؟ لا یمکن إصدار مثل هذا الحکم بشأن طابوقة فضلاً عن غرفة أو دار أو مدینة، أضف إلى ذلک فإنّ بلد وجودنا عبارة عن ذرة من الغبار معلقة فی أطراف قصر الوجود.
وهنا نعرف کیف أنّ معرفة الذات سبیل لمعرفة الله.
وهنا أیضاً نکتشف أنّ وجود الله لیس لغزاً ولا حتى خفاء، بل لعله نسی لشدّة وضوحه.