لو أمرت مئات الأشخاص بحفظ إرشیف معلوماتک فلا یسعها أن تقدم لک العون کما یقدمها الغطاء الشفاف الذی یغطی الدماغ
نرد الآن، بعد تصفحنا لهذه المدینة الشاسعة التی تعرف بعالم الوجود، المنزل الأول (منزل وجودنا) حیث انهمکنا بدراسة أول غرفة وهی الغرفة المبهمة للدماغ والذی یمثل بمفرده مدینة عظیمة بل بلداً کبیراً.
رکزت نظری لأرى خطوطاً غیر منتظمة تحیط بالمادة الرمادیة اللون للدماغ.
آه... کأنّ هذا الشکل لیس غریباً على ناظری، فقد رأیت مثلها فی مواضع أخرى، نعم حین نسافر جواً بالطائرة ونصل إلى النقطة التی تصب فیها الأنهار والشطوط ماءَها فی البحار فإننا نشاهد هذه الخطوط ترتسم إثر ظاهرة مد البحر وجزره وانحسار وعودة ماء النهر. فهل خطوط الدماغ هی آثار المد والجزر لبحر فکر الإنسان والتی ترتسم على صفحته خلال القرون والعصور؟ أم هی تصنیف دقیق من أجل المراکز الحساسة للدماغ وتحدید وظائفها؟
أم هناک خطوط مواصلات معینة تمرّ عبرها؟ لا نعلم.
کل ما نعلمه أنّ الغطاء الظریف الذی یغطی هذه الکتلة الرمادیة کاحتمال قوی یضم أعظم أراشیف فی هذا العالم.
نعم، فالذی تفیده الدراسات الأخیرة للعلماء أنّ هناک مرکز حافظة (أو الأصح مفتاح الحافظة) یکمن فی هذا الغطاء الظریف وقد ارتسمت علیه بشکل إعجازی کافة معلوماتنا وخاطراتنا ومشاهداتنا السابقة وعلومنا، ولکن کیف وبأیّة طریقة؟ لا أحد یعلم.
ولکی نقف على مدى الخدمة التی یسدیها لنا هذا الغطاء السحری کفاه أن یضرب یوماً واحداً عن العمل ویتحفظ عن التذکیر بأیّة خاطرة. فهل یسعک أن تتصور کیف ستصبح حیاتنا آنذاک؟
لا یبدو التکهن بذلک صعباً:
حالة عجیبة من الدوار فی کل شیء، بالضبط کالحالة التی یعیشها الولید الجدید، فکل شیء غریب علینا وکأننا نشاهده لأول مرّة، لا یسعنا أن نتکلم ولو بکلمة واحدة، و إن أردنا التقدم خطوة واحدة إلى الأمام لفقدنا توازننا وسقطنا على الأرض، لأننا نکون قد نسینا طریقة المشی، ولو استطعنا المشی فإننا لا نعرف الطریق إلى البیت ولا مرکز عملنا، وعلینا أن نتسکع حیارى دون هدف حتى نموت، ولا یقتصر الأمر على عدم معرفتنا لأصدقائنا، بل سوف لن نعرف الأب والأم والأخ والأخت والوالد والبنت، فلا نفرق بینهم وبین سائر الناس الغرباء، وإن جعنا لا ندری ماذا نأکل، لأننا نکون قد نسینا جمیع الأطعمة وإن أتونا بطعام فإننا سنجد صعوبة بالغة فی سبیل معرفة الطریق إلى الفم، وهکذا سنکتشف أی عذاب وألم سنعیشه فی حیاتنا.
قد ترون ذلک نوعاً من أنواع الوهم والخیال، لکن لیس الأمر کذلک.
ففی أمراض الحافظة التی عادة ما یشل جزء منها هنالک حالة من فقدان الوعی تحدث للإنسان من قبیل «العمى الذهنی» وهو مرض روحی لا یسع المصاب به التعرف على صورة المبصرات، فما یراه بعینه لا یعرفه.
الصمم الذهنی هو نوع آخر من هذه الأمراض ینسى المصاب به إدراکاته السمعیة ولا یعرف الأصوات والکلمات والأنغام، مثلاً لا یستطیع تمییز خریر الماء من بوق السیارة!
النوع الآخر من اختلالات الحافظة «نسیان اللمس» الذی لا یستطیع المریض فیه التعرف على شکل الأشیاء عن طریق اللمس، مثلا لا یستطیع التمییز بین العملة النقدیة المعدنیة والقلم بواسطة حاسة اللمس.
فمثل هذه الأمراض العجیبة التی یشاهد بعض نماذجها الآن لدى بعض الأفراد إنّما تمثل الوضع الألیم و المأساوی الذی یعانیه أولئک الأفراد من جرّاء اختلال جهاز الحافظة.
—–
بعد أن تحدثنا عن الأسرار العجیبة لغطاء الدماغ، نتطرق الآن إلى بعض المواضیع ذات الصلة:
تصنیف الحافظة:
إننا نخطىء إذا تصورنا أن خاطراتنا على هذا الغطاء کالکتب المصنفة و المرتبة على رفوف المکتبة، کلا لیس الأمر کذلک، فلکل من خاطراتنا و محفوظاتنا و معلوماتنا هویة معینة و قد رتبت حسب تواریخ ظهورها، أی أن شبکات الحافظة إنما تمتلىء بالتدریج طبقاً لنظام معین.
و من هنا یستطیع الإنسان أن یخمن بسهولة المدة الزمانیة لخاطراته الماضیة من خلال الرجوع إلى حافظته، مثلا أن الحادثة الفلانیة وقعت قبل سنة أو عشر سنوات أو عشرین سنة.
و أحیانا تعرض بعض الأمراض الروحیة التی تعرقل هذه الاتصالات أو تتداخل، مثلا أسلاک رفوف الحافظة، فیواجه الإنسان وضعاً ألیماً مأساویاً.
فیتصور الحاضر ماضیاً، فیرى أن ما یشاهده الآن من حوادث قدرآها فی الماضی، إلاّ أنّه لا یدری أین ومتى؟!...
أو بالعکس یتوهم الماضی فی الحاضر، فیظن أن الآن فترة طفولته، ولذلک فهو یتصرف بطفولیة فیلعب ویمرح ویُبدی کافة ردود الأفعال التی یبدیها الأطفال.
فهذان النوعان المرضیان یدلان على مدى الوضع المضطرب العجیب الذی یعیشه الإنسان إذا اختل التنظیم الزمانی لشبکات الحافظة.
