إنّ غرقنا فی الحیاة الیومیة لایسمح لنا عادة بالتفکیر فی وجودنا من حیث الکم والکیف والموضع الذی نشغله فی هذا الفضاء الواسع یسیر وجودنا من جانبیه نحو «العدم».
لوتصفحنا نبذة من سیرة حیاتنا السابقة لانتهینا سریعاً إلى العدم، 20 سنة، 30 سنة، 50 سنة أو على الأکثر 70 سنة یبدو أننا لم نکن شیئاً مع الفارق الذی لدینا الآن وما سبقه، مستقبلنا هو الآخر لا یتجاوز هذه المدة ولا یبدو بعده (ظاهراً) سوى ظلام العدم، هذا من جانب.
ومن جانب آخر لو تسلقنا مرکب الفکر السریع والمجانی وعدنا قلیلاً بمسیرة قافلة البشریة إلى الوراء فلا یمر أکثر من بضعة آلاف سنة لیغطى فضاء هذه المسیرة بالغبار المبهم، فلا نرى سوى أشباح تأتی بسرعة إلى هذا الوادی فتمضى لتترک بعض الآثار المتواضعة، کأنّهم یرون أنفسهم رکّاب مهربین یسعون لاخفاء أنفسهم من نقاط تفتیش التاریخ!
ثم نعود بسرعة ملایین السنین ـ وهی المدّة التی قد لا تکون أکثر من لحظة بالنسبة لعمر عالم الوجود ـ فکأنّنا آنذاک قد وطأنا الدهلیز الرهیب للعدم (عدم الإنسانیة) وهناک تبدو بوضوح بحار ظلمات العدم، فلا نجرأ على المضی قدماً، وإذا مضینا فلا جدوى، لأنّ السفر فی اللاشیء لیس له من نتیجة طبیعیة سوى اللاشیء، وإن کنّا سابقاً شیئاً فلابدّ أننا کنّا تراباً وحجراً(1).
السفر إلى المستقبل أصعب وأعقد من ذلک، حیث یتعذر التکهن بالأوضاع لما بعد مائة سنة ولو استعنا بأعظم الحاسبات الالکترونیة وطاقات وخبرات المتخصصین من العلماء ذوی التجربة، فالمرکب السریع لا یستطیع سوى السیر ببطء فی هذا الاتجاه وسرعان ما یتوقف عن العمل وکأننا والجماعة البشریة قد وقفنا على سفح جبل ارتفعت قمته من جانب إلى عنان السماء لتغوص وسط هالة من السحب السوداء، ومن جانب آخر قد انتهى إلى وادی عمیق مظلم لیس للعین من سبیل إلیه.
فلیس لدینا وضوح عن بدایة مسیرتنا ولاعن مستقبلها البعیدالطویل، ثم هل نحن وسائر أبناء البشر أول من دخل وادی الحیاة؟
لا نرى الاجابة بالإیجاب إلاّ قمة الأنانیة والتسرع وعدم الاحتیاط و... وهل سنکون آخر من جاء إلى هذا العالم وبنا ستختتم هذه السلسلة الطویلة اللامتناهیة؟
الجواب بالإیجاب هنا هو الآخر قد لا یکون أفضل من سابقه.
من یدری لعل هناک الآلاف أو الملایین بل الملیاردات من أنواع الأفراد ـ کالبشر أو أفضل منه ـ قد وردت هذا العالم وفارقته.
و من یدری أنّ المستقبل سیکون کذلک حیث سیأتی الملایین من البشر فیعیشون ویرحلون ولا نکون سوى حلقة من حلقات هذه السلسلة الطویلة.
من جهة أخرى هنالک ملیاردات الکواکب التی یشاهدها الإنسان بالعین المجرّدة، ولعل ما لا یراه أکثر وأعظم، فهل تقتصر الحیاة التی تتصف بها الکائنات على کرتنا الأرضیة؟ لیس هنالک من عقل یمکنه قبول هذا الاحتمال، وعلى ضوء حساب الاحتمالات الریاضیة فإنّ ملایین الکواکب المشاهدة بالعین لابد أن تفیض بالحیاة والحرکة(2).
بالمناسبة، کیف یعیش سکنة سائر الکرات؟ هل لهم معارک وحروب وسفک دماء کحیاتنا، هل لهم على سبیل المثال فیتنام قاتلوا عشرات السنوات عبثاً، أم لا تجد مفردة باسم الحرب فی قاموسهم أبداً، فهم یعیشون کملایین خلایا البدن بسلام وصلح مع بعضهم البعض الآخر؟ لا أحد یعلم إذن، فلو فکرنا قلیلا وعدنا إلى أنفسنا لرأینا أنّ ما تصطلح علیه بالعلم البشری وقد أعددنا مکتباتنا التی تضم ملایین الکتب، هو لیس أکثر من شرح لجهلنا، أو لعلمنا بالأمور الجزئیة الواضحة التی تشبه إلى حد بعید شعاع ضئیلاً وسط صحراء دامسة.
ولعل حوض صغیر من الحبر یکفى لإعادة کتابة وتدوین کافة العلوم والمعارف البشریة والتی سطرت من قبل ملایین العلماء فی ملایین من الکتب، بینما قد لا تکفی کل محیطات الدنیا لو کانت حبراً لکتابة أسرار الوجود وما ضمه من کائنات وما بعد فی أعماق السموات وما خفی فی الماضی والمستقبل(3).
وعلى هذا الأساس ستصدق أنّ «النفی» فی مثل هذا العالم وفی ظل هذه الأوضاع والشرائط أمر صعب إن لم نقل أحمق.
لابدّ من التأنی فی الحرکة والخضوع والتواضع، بعبارة أدق لابدّ أن نلتفت إلى صغر حجمنا، کما لابدّ أن لا نتقوقع فی الدائرة الضیقة لحیاتنا، وعلینا أن نجهد أنفسنا من أجل الخروج من هذه الدائرة الضیقة، فنفکر أکثر ونطالع أکثر.
فلا نقنع ونفتخر بالمراوحة فی مواصلة هذه الحیاة العاریة والیومیة التی تحمل حالة التکرار والرتابة، ولابدّ أن ینصب جهدنا علی کیفیة تجاوز هذه الحالة فنعتز بما نتقدمه من خطوات خارج إطار هذه الحیاة، فنفکر فی حل تلک الأسرار المعقدة (على أساس قدراتنا ومهاراتنا) مهما کانت بسیطة ومتواضعة.
وبالطبع فإنّ هذا اللون من التفکیر بشأن مالا نعلم، یمنحنا القدرة على بحث وتحلیل سلسلة من الحقائق خارج الدائرة المذکورة، فالواقع هو أنّ هذه المرحلة هی بدایة الطریق نحو المصیر وحل الاسرار التی تنطوی علیها حیاة الإنسان فی حرکة الواقع.