الآیات أعلاه بدایة لبیان قسم من تأریخ الأنبیاء وقصص وحوادث الاُمم الماضیة لتوعیة وإیقاظ المشرکین والفئات المخالفة، فیأمر الله نبیّه أن یتابع حدیثه السابق مع المشرکین بشرح تاریخ الماضین لیکون عبرة لهم.
فی البدایة تطرقت إلى قصّة نوح، فقالت: (واتل علیهم نبأ نوح إذا قال لقومه یا قوم إن کان کبر علیکم مقامی وتذکیری بآیات الله فعلى الله توکّلت ) ولهذا فإنّی لا أخاف غیره، ثمّ تضیف: (فأجمعوا أمرکم وشرکاءکم ) أی ادعوا أصنامکم أیضاً لتعینکم فی المشورة، حتى لایبقى شیء خافیاً على أحد ولایتعرض منکم إلى الهم والغم أحد (ثمّ لا یکن أمرکم علیکم غمّة ) بل اتّخذوا قرارکم فی شأنی بکل وضوح.
«غمّة» من مادة غم، وهی تعنی خفاء الشیء وتغطیته، وإنّما یقولون للحزن: غمّ أیضاً لأنّه یغطی قلب الإنسان.
ثمّ یقول: (ثمّ اقضوا إلیّ ولا تنظرون ) (1) .
إنّ نوحاً رسول الله الکبیر صمد مقابل أعداءه الأقویاء المعاندین وواجههم بقاطعیة وحزم وفی منتهى الشجاعة والشهامة مع أصحابه القلیلین الذین کانوا معه، وکان یستهزیء بقواهم ویریهم عدم اهتمامه بخططهم وأفکارهم وأصنامهم، وبهذه الطریقة کان یوجه ضربة نفسیة عنیفة إلى أفکارهم.
وإذا علمنا أنّ هذه الآیات نزلت فی مکّة فی الوقت الذی کان یعیش فیه النّبی (صلى الله علیه وآله) ظروفاً تشبه ظروف نوح، وکان المؤمنون قلّة، سیتّضح أنّ القرآن یرید أن یعطی للنّبی ـ أیضاً ـ نفس هذا الدرس بأن لا یهتم بقدرة العدو، بل یسیر ویتقدم بکل حزم وجرأة وشجاعة، لأنّ الله یسنده وینصره، ولا تستطیع أیّة قوّة أن تقف فی مقابل قدرته.
ومع أنّ بعض المفسّرین اعتبر تعبیر نوح هذا أو أمثاله فی تاریخ سائر الأنبیاء نوعاً من الإعجاز، لأنّهم مع عدم امتلاکهم الإمکانیات الظاهریة فإنّهم کانوا یهدّدون العدو بالهزیمة، وأعلنوا خبر إنتصارهم النهائی، وهذا لایمکن قبوله إلاّ عن طریق الإعجاز، إلاّ أنّ هذا على کل حال درس کبیر لکل القادة الإسلامیین بأن لا یخافوا ولا ینهاروا أمام عظمة الأعداء وکثرتهم، بل إنّهم باتکالهم على الله کانوا یدعون هؤلاء إلى المیدان بکل حزم واقتدار ویستصغرون قوتهم، فکان هذا عاملا مهمّاً فی تقویة معنویات الأتباع والمؤیدین، وتدمیر معنویات العدو وانهیارها.
وذکرت الآیة التّالیة بیاناً آخر عن نوح من أجل إثبات أحقیّته، هناک حیث تقول: (فإن تولّیتم فما سألتکم من أجر (2) إن أجری إلاّ على الله )، فإنّی أعمل له، ولا أرید الأجر إلاّ منه (واُ مرت أن أکون من المسلمین ).
إنّ مقولة نوح هذه درس آخر للقادة الإلهیین بأن لا یتوقعوا أی جزاء مادی ومعنوی من الناس لقاء دعوتهم وتبلیغهم، لأنّ هذا التوقع یوجد نوعاً من التعلق النفسی الذی یؤدّی الى عرقلة أسالیب الدعوة الصریحة والنشاطات الحرة، ومن الطبیعی عن ذلک أن یقلّ تأثیر دعوتهم وإبلاغهم، ولهذا السبب فإنّ الطریق الصحیح فی الدعوة إلى الإسلام أن یعتمد المبلّغون والداعون فی إدارة اُمورهم المعاشیة على بیت المال فقط، لا بالاحتیاج إلى الناس!
وتبیّن الآیة الأخیرة عاقبة ومصیر أعداء نوح، وصدق توقعه وقوله السابق بهذه الصورة: (فکذّبوه فنجّیناه ومن معه فی الفلک ) (3) ولم ننقذهم وحسب، بل (وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذین کذّبوا بآیاتنا ).
وفی النهایة توجه الخطاب إلى النّبی (صلى الله علیه وآله) وتقول: (فانظر کیف کان عاقبة المنذرین ).
1. هناک بحث بین المفسّرین فی أنّه ماهو جزاء شرط جملة ( إن کان کبر علیکم )؟ ومن بین الاحتمالات التی طرحوها یبدو للنظر أن اثنین منها هما الأقرب: الأوّل: إنّ جملة ( فأجمعوا أمرکم ) هی جزاء الشرط، وإنّ جملة: ( فعلى الله توکّلت ) جملة معترضة فصلت بین الشرط والجزاء.
الثّانی: إنّ الجزاء محذوف والجمل التالیة تدل على ذلک، والتقدیر هکذا: (فافعلوا ما تریدون فإنّی متوکل على الله) فی الواقع، إنّ جملة: ( فعلى الله توکّلت ) من قبیل العلة حلت محل المعلول، و (شرکاءکم) فی الجملة التالیة إشارة إلى الأصنام، والواو قبلها بمعنى مع. (فتدبّر جیداً).
2. جواب هذا الشرط محذوف أیضاً، وتقدیره: (فإن تولیتم فلا تضرونی)، أو: (فإن تولیتم فأنتم وشأنکم).
3. «الفلک» بمعنى السفینة، والفرق بینها وبین السفینة أنّ السفینة مفرد وجمعها سفائن أما الفلک فإنّها تطلق على المفرد والجمع.
