من أجل توعیة هؤلاء المنافقین، وضعت الآیة الآتیة مرآة التاریخ أمامهم، ودعتهم إلى ملاحظة حیاتهم وسلوکهم ومقارنتها بالمنافقین والعتاة المردة الذین تمردوا على أوامر الله سبحانه وتعالى، وأعطتهم أوضح الدروس وأکثرها عبرة، فذکّرهم بأنّهم کالمنافقین
الماضین ویتبعون نفس المسیر وسیلقون نفس المصیر: (کالذین من قبلکم ) علماً أنّ هؤلاء (کانوا أشدّ منکم قوّة وأکثر أموالا وأولاداً ).
وکما أنّ هؤلاء قد تمتعوا بنصیبهم فی هذه الحیاة الدنیا، وصرفوا أعمارهم فی طریق قضاء الشهوات والمعصیة والفساد والإنحراف، فإنّکم قد تمتعتم بنصیبکم کهؤلاء: (فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقکم کما استمتع الذین من قبلکم بخلاقهم ) والخلاق فی اللغة بمعنى النصیب والحصة، یقول الراغب فی مفرداته: أنّها مأخوذة من مادة (خلق)، ویحتمل ـ على هذا ـ أن الإنسان قد یستفید ویتمتع بنصیبه فی هذه الحیاة الدنیا بما یناسب خلقه وخصاله.
ثمّ تقول بعد ذلک: إنّکم کمن مضى من أمثالکم قد أوغلتم وسلکتم مسلک الإستهزاء والسخریة، تماماً کهؤلاء: (وخضتم کالذی خاضوا ) (1).
ثمّ تبیّن الآیة عاقبة أعمال المنافقین الماضین لتحذّر المنافقین المعاصرین للنّبی (صلى الله علیه وآله)وکل منافقی العالم فی جملتین:
الاُولى: إن کل أعمال المنافقین قد ذهبت أدراج الریاح، فی الدنیا والآخرة، ولم یحصلوا على أی نتیجة حسنة، فقالت: (أولئک حبطت أعمالهم فی الدنیا والآخرة ).
الثّانیة: إنّ هؤلاء هم الخاسرون الحقیقیون بما عملوه من الأعمال السیئة: (واُولئک هم الخاسرون ).
إنّ هؤلاء المنافقین یمکن أن یستفیدوا ویحققوا بعض المکاسب والإمتیازات من أعمال النفاق، لکن ما یحصلون علیه مؤقت ومحدود، فإنّنا إذا أمعنّا النظر فسنرى أنّ هؤلاء لم یجنوا من سلوک هذا الطریق شیئاً، لا فی الدنیا ولا فی الآخرة، کما یعکس التاریخ هذه الحقیقة، ویبیّن کیف أنّ المنافقین على مرّ الدهور والأیّام قد توالت علیهم النکبات وأزرت بهم وحکمت علیهم بالفناء والزوال، کما أنّ ممّا لا شک فیها أنّ هذه العاقبة الدنیویة تبیّن المصیر الذی ینتظرهم فی الآخرة.
إنّ الآیة الکریمة تنبه المنافقین المعاصرین للنّبی (صلى الله علیه وآله) فتقول لهم: إنّکم ترون أنّ هؤلاء السابقین رغم تلک الإمکانات والقدرات والأموال والأولاد لم یصلوا إلى نتیجة، وأنّ أعمالهم قد أصبحت هباء منثوراً لأنّها لم تستند إلى أساس محکم، بل کانت أعمال نفاق ومراوغة، فإنّکم ستواجهون ذلک المصیر بطریق أولى، لأنّکم أقل من هؤلاء قدرة وقوة وامکانات.
وبعد هذه الآیات یتحول الحدیث من المنافقین ویتوجه إلى النّبی (صلى الله علیه وآله) ویتبع اُسلول الإستفهام الإنکاری، فتقول الآیة: (ألم یأتهم نبأ الذین من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهیم وأصحاب مدین والمؤتفکات ) (2) فإنّ هذه الأقوام کانت فی الأزمان السالفة تسیطر على مناطق مهمّة من العالم، إلاّ أن کل فئة قد ابتلیت بنوع من العقاب الإلهی نتیجة لإنحرافها وطغیانها وإجرامها، وفرارها من الحق والعدالة، وإقدامها على الظلم والإستبداد والفساد.
فقوم نوح عوقبوا بالطوفان والغرق، وقوم عاد (قوم هود) بالریاح العاصفة والرعب، وقوم ثمود (قوم صالح) بالزلازل والهدم والدمار، وقوم إبراهیم بسلب النعم، وأصحاب مدین (قوم شعیب) بالصواعق المحرقة، وقوم لوط بخسف المدن وفنائهم جمیعاً، ولم یبق من هؤلاء إلاّ الجثث الهامدة، والعظام النخرة تحت التراب أو فی أعماق البحار.
إنّ هذه الحوادث المرعبة تهز وجدان وأحاسیس کل إنسان إذا امتلک أدنى إحساس وشعور عند مطالعتها وتحقیقها.
ورغم طغیان هؤلاء وتمردّهم فانّ الله الرؤوف الرحیم لم یحرم هؤلاء من رحمته وعطفه لحظة، وقد أرسل إلیهم الرسل بالآیات البینات لهدایتهم وإنقاذهم من الضلالة إذ (أتتهم رسلهم بالبیّنات ) إلاّ أنّ هؤلاء لم یصغوا إلى أیّة موعظة ولم یقبلوا نصیحة من أنبیاء الله وأولیائه، ولم یقیموا وزناً لجهاد ومتاعب هؤلاء الأبرار وتحملهم کل المصاعب فی سبیل هدایة خلق الله، وإذا کان العقاب قد نالهم فلا یعنی أن الله عزّوجلّ قد ظلمهم، بل هم ظلموا أنفسهم بما أجرموا فاستحقوا العذاب (فما کان الله لیظلمهم ولکن کانوا أنفسهم یظلمون ).