کما أشرنا آنفاً فی شأن نزول الآتین، فإنّهما نزلتا فی غزوة «تبوک».
وتبوک منطقة بین المدینة والشام، وتعدّ الآن من حدود الحجاز، وکانت آنئذ على مقربة من أرض الروم الشرقیة المتسلطة على الشامات. (1)
وقد حدثت هذه الواقعة فی السنة التاسعة للهجرة، أی بعد سنة من فتح مکّة تقریباً.
وبما أن المواجهة فی هذا المیدان کانت مواجهةً لإحدى الدول الکبرى فی ذلک العصر، لا مواجهة لإحدى القبائل العربیة، فقد کان جماعة من المسلمین قلقین مشفقین من المساهمة والحضور فی هذه المواجهة، ولذلک فقد کانت الأرضیة مهیأة لوساوس المنافقین وبذر السموم، فلم یألوا جهداً فی إضعاف المعنویات وإحباط المؤمنین أبداً، فقد کان الموسم موسم اقتطاف الثمار وجمع المحاصیل الزراعیة، وکان هذا الموسم للمزارعین یعدّ فصلا مصیریاً، إذ فیه رفاه سنتهم هذا من جهة.
ومن جهة اُخرى، فإنّ بعد المسافة وحرارة الجوّ ـ کما أشرنا آنفاً ـ کلّ ذلک کان من العوامل المثبطة للمسلمین فی حرکتهم نحو مواجهة الأعداء.
فنزل الوحی لیشدَّ من أزر الناس، والآیات تترى الواحدة بعد الاُخرى لإزالة الموانع والأسباب المثبطة.
ففی الآیة الاُولى ـ من الآیتین محل البحث ـ یدعو القرآن المسلمین إلى الجهاد بلسان الترغیب تارةً وبالعتاب تارةً اُخرى وبالتهدید ثالثة فهو یدعوهم ویهیؤهم إلى الجهاد، ویدخل إلیهم من کل باب.
إذ تقول الآیة: (یا أیّها الذین آمنوا ما لکم إذا قیل لکم انفروا فی سبیل الله اثّاقلتم إلى الارض ).
«اثّاقلتم» فعل مشتق من الثقل، ومعناه واضح إذ هو خلاف «الخفیف» وجملة «اثاقلتم» کنایة عن الرغبة فی البقاء فی الوطن وعدم التحرک نحو سوح الجهاد، أو الرغبة فی عالم المادة واللصوق بزخارفها والإنشداد نحو الدنیا، وعلى کل حال فالآیة تخاطب من کان کذلک من المسلمین ـ ضعاف الإیمان ـ لا جمیعهم، ولا المسلمین الصادقین وعاشقی الجهاد فی سبیل الله.
ثمّ تقول الآیة مخاطبة إیّاهم بلهجة الملامة: (أرضیتم بالحیاة الدنیا من الآخرة فما متاع الحیاة الدنیا فی الآخرة إلاّ قلیل ).
فکیف یتسنى للإنسان العاقل أن یساوم مساومة الخُسران، وکیف یعوّض متاعاً غالیاً لا یزول بمتاع زائل لا یعد شیئاً؟!
ثمّ تتجاوز الآیة مرحلة الملامة والعتاب إلى لهجة أشدّ وأسلوب تهدیدیّ جدید، فتقول: (إلاّ تنفروا یعذّبکم عذاباً ألیماً ).
فإذا کنتم تتصورون أنّکم إذا تولیتم وأعرضتم عن الذهاب إلى سوح الجهاد، فإنّ عجلة الإسلام ستتوقف وینطفىء نور الإسلام، فأنتم فی غایة الخطأ والله غنی عنکم (ویستبدل قوماً غیرکم ) قوماً أفضل منکم من کل جهة، لا من حیث الشخصیّة فحسب، بل من حیث الإیمان والإرادة والشهامة والإستجابة والطاعة (ولا تضرّوه شیئاً ).
وهذه حقیقة ولیست ضرباً من الخیال أو أمنیّة بعیدة المدى، فالله عزیز حکیم: (والله على کل شیء قدیر ).