من المؤاخذات على الخلیفة الثّالث مسألة إبعاد أبی ذر (رحمه الله) المصحوب بالقسوة والخشونة إلى الرّبذة، تلک المنطقة التی کان یبغضها أبوذر والتی کانت غیر صالحة من حیث الماء والهواء، حتى إنتهى الأمر إلى موت هذا الصحابی الجلیل والمجاهد المضحی فی سبیل الإسلام، وهو الذی قال فیه النّبی (صلى الله علیه وآله): «ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء من ذی لهجة أصدق من أبی ذرّ». (1)
ونعرف أنّ الإختلاف بین أبی ذر وعثمان لم یکن لأنّ أباذر کان یتمنى المال أو المقام، بل على العکس فقد کان أبوذر زاهداً عابداً ورعاً من جمیع الوجوه، بل منشأ الخلاف وأساسه، هو أن عثمان فرّق بیت مال المسلمین على ذوی قرباه وأصحابه وأنفقه بلاحساب.
وکان أبوذر (رحمه الله) متشدداً فی الاُمور المالیة، ولا سیّما ما کان منها متعلقاً ببیت مال المسلمین، وکان یرغب فی أن یسیر جمیع المسلمین على سنّة النّبی فی هذا المجال، والتصرف بالمال، لکننا نعرف أنّ الاُمور أخذت طابعاً آخر فی عصر الخلیفة الثّالث عثمان.
وعلى کل حال، فإنّ أباذر (رحمه الله) لما واجه الخلیفة الثّالث بشدّة، وعنّفه فی إنفاق المال، أرسله عثمان إلى الشام بادىء الأمر، فواجه أبوذر معاویة هناک بصورة أشدّ نقداً وأکثر صراحة، حتى أنّ ابن عباس قال: لقد برم معاویة من کلام أبی ذر وکتب إلى عثمان: إنّه إن کانت لک حاجة فی الشام فخذ أباذر، فإنّه إن بقی فیها فسوف یصرف أهلها عنک.
فکتب عثمان کتاباً وأحضر أباذر إلى المدینة، وکما یقول بعض المؤرّخین: کتب عثمان إلى معاویة، أن ابعث أباذر فی جماعة من شرطتک ولا ترفّه علیه، ولیجدّوا به السیر لیل نهار، ولا یدعوه یستریح لحظة، حتى أنّ أباذر لما وصل المدینة مرض هناک ولما لم یکن وجوده فی المدینة هیّناً على عثمان وأتباعه، فقد نفوه إلى «الرّبذة» حتى مات (رحمه الله) فیها. (2)
وهناک من یحاول الدفاع عن الخلیفة الثّالث ویتّهم أباذر أحیاناً بأنّه اشتراکی، إذ کان یرى أنّ جمیع الأموال عائدة إلى الله، وکان ینکر الملکیة الفردیة!!
وهذا الإتهام فی منتهى الغرابة، فمع أنّ القرآن یحترم الملکیة الفردیة بصراحة ـ وفق شروط معینة ـ وکان أبوذر (رحمه الله) من المقرّبین إلى رسول الله (صلى الله علیه وآله) وتربّى فی حضن الإسلام والقرآن، وما أظلت الخضراء أصدق منه، فکیف یتهم أبوذر بمثل هذا الإتهام؟!
إنّ قاطنی الصحراء البعیدین یعرفون هذا الحکم الإسلامی، وکانوا قد سمعوا الآیات التی تتعلق بالتجارة والإرث، فکیف یمکن أن یُصدق بأن أقرب تلامذة رسول الله کان جاهلا بهذا الحکم؟
ألیس ذلک لأنّ المتعصبین الألداء من أجل تبرئة الخلیفة الثّالث والأعجب من ذلک تبرئة معاویة وحکومته ـ إتهموا أباذرّ بمثل هذا الإتهام، وما یزال بعض من عمی العیون صمّ الآذان یقلدون أسلافهم؟!
أجَل إنّ أباذر (رحمه الله) ـ بوحی واستلهام من آیات القرآن وخاصّة آیة الکنز ـ کان یعتقد ویصرّح بعقیدته أنّ بیت المال لا ینبغی أن یتحول إلى ملکیة فردیة بید الأشخاص، ویجب ألاّ یُحرم المستضعفون والمحتاجون منه، وینبغی أن ینفق فی سبیل تقویة الإسلام ومصالح المسلمین، فلایجوز تبذیر الأموال، وأنّ بیت المال لیس ملکاً لمعاویة وأضرابه کی یشید بهذه الأموال القصور على شاکلة قصور الأکاسرة والقیاصرة! ثمّ إنّ أباذر کان یعتقد یومئذ أنّه بإمکان الأغنیاء أن یقنعوا بما دون الإسراف، لیواسوا إخوانهم الفقراء، وینفقوا أموالهم فی سبیل الله.
فإذا کان أبوذر (رحمه الله) ذا وزر فوزره ما ذکرناه إلاّ أنّ المؤرّخین المتملقین، أو الذین یؤرخون للارتزاق ویبیعون دینهم بدنیاهم، غیرّوا صورة هذا الصحابی المجاهد الناصع فجعلوه اشتراکیاً!!
وما یؤخذ على أبی ذر من وزر أیضاً هو حبّه الشدید للإمام علی (علیه السلام)، فقد کان هذا کافیاً لأن یقوم بنو أمیة بأسالیبهم وأراجیفهم الخبیثة الجهنمیة باسقاط حیثیة أبی ذر، إلاّ أنّ نقاءه وطهارته ومعرفته بالأحکام الإسلامیة کانت ناصعة إلى درجة أنّهم افتضحوا ولم یفلحوا فی مرامهم.
ومن جُملة الأکاذیب العجیبة التی ألصقوها بأبی ذر لتبرئة الخلیفة الثّالث، ما ذکره ابن سعد فی «الطبقات»: إنّ جماعة من أهل الکوفة جاؤوا أباذر عندما نفاه عثمان إلى الرّبذة فقالوا: إنّ هذا الرجل (أی عثمان) فعل ما فعل بک، فهل أنت مستعد أن ترفع رایة تقاتل بها عثمان، ونحن نقاتله تحت رایتک؟ فقال أبوذر: کلاّ، لو أرسلنی عثمان من المشرق إلى المغرب لکنت مطیعاً لأمره. (3)
ولم یلتفت هؤلاء الوضّاعون إلى أنّه لو کان مطیعاً لأمره، لما کان عثمان یضیق ذرعاً به فیکون علیه ـ فی المدینة ـ عبئاً ثقیلا لایستطیع حمله أبداً.
والأعجب من ذلک ما ذکره صاحب المنار ـ ذیل الآیة محل البحث ـ مشیراً إلى قصّة أبی ذر وماجرى بینه وبین عثمان، فیقول: إن قصّة أبی ذر تدل على أنّ عصر الصحابة ـ ولا سیما عصر عثمان ـ کان إظهار العقیدة فیه مألوفاً، وکان العلماء محترمین، والخلفاء ذوی ولاء، حتى أنّ معاویة لم یجرؤ أن یقول شیئاً لأبی ذر، بل کتب کتاباً إلى من هو فوقه مرتبة ـ أی عثمان ـ وطلب منه أن یرى فیه رأیه!!
والحق أنّ التعصّب قد یصنع الأعاجیب، فهل کان ـ التبعید والنفی إلى الأرض الیابسة الحارة المحرقة «الرّبذة» أرض الموت والنّار تعبیر عن إحترام حریة الفکر ومحبّة العلماء !!
هل أنّ تسلیم هذا الصحابی الجلیل «بید الموت» یعدّ دلیلا على حریة العقیدة!!
وإذا کان معاویة لم یستطیع أن یجرؤ على قتل أبی ذر أو التآمر علیه ـ خوفاً من إنکار عامّة الناس ـ فهل یعدّ ذلک إحتراماً لأبی ذر من قبل معاویة؟!
ومن عجائب هذه القصّة ـ أیضاً ـ أنّ المدافعین عن الخلیفة الثّالث یقولون: إنّ تبعید أبی ذر کان بحکم قانون ]تقدیم دفع المفسدة على جلب المصلحة
