لم تکن الرهبانیة موجودة بشکلها الحالی فی القرون الاُولى للتاریخ المسیحی، وقد ظهرت بعد القرن المیلادی الثالث فی حکم الإمبراطور الرومانی (دیسیوس) ـ وقتاله الشدید لأتباع السیّد المسیح(علیه السلام)، ونتیجة لما لحق بهم من الأذى من قبل هذا الإمبراطور المتعطّش للدماء، فإنّهم لجأوا إلى الجبال والصحاری(1).
وجاء هذا المعنى بصورة أدقّ فی الروایات الإسلامیة حیث نقل عن رسول الله(صلى الله علیه وآله) أنّه قال لابن مسعود: «هل تدری من أین أحدثت بنو إسرائیل الرهبانیة؟
فقلت: الله ورسوله أعلم.
فقال(صلى الله علیه وآله): «ظهرت علیهم الجبابرة بعد عیسى یعملون بمعاصی الله، فغضب أهل الإیمان فقاتلوهم، فهُزم أهل الإیمان ثلاث مرّات، فلم یبق منهم إلاّ القلیل، فقالوا: إن ظهرنا لهؤلاء أفنونا ولم یبق للدین أحد یدعو إلیه، فتعالوا نتفرّق فی الأرض إلى أن یبعث الله النّبی الذی وعدنا به عیسى(علیه السلام) (یعنون محمّداً) ـ فتفرّقوا فی غیران الجبال وأحدثوا رهبانیة، فمنهم من تمسّک بدینه، ومنهم من کفر».
ثمّ قال: «أتدری ما رهبانیة اُمّتی؟».
قلت: الله ورسوله أعلم.
قال: «الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحجّ والعمرة»(2).
والمؤرّخ المسیحی المشهور (ویل دورانت) ینقل فی تأریخه المعروف فی ج13 بحثاً مفصّلا حول الرهبانیة، حیث یعتقد أنّ إرتباط الراهبات (النساء التارکات للدنیا) بالرهبان بدأ منذ القرن العاشر المیلادی(3).
وبدون شکّ فإنّ هذه الظاهرة الاجتماعیة ـ کما هو شأن کلّ ظاهرة اُخرى لها اُسساً روحیة بالإضافة إلى الاُسس التاریخیة، حیث یمکن الإشارة إلى هذه الحقیقة، وهی أنّ مسألة ردّ الفعل الروحی للأشخاص والأقوام تختلف فیما بینها مقابل الإندحارات والمصاعب التی یواجهوها، حیث یمیل البعض نتیجة لذلک إلى الإنزواء والإنشغال بالاُمور الشخصیة فقط، ویبعدون أنفسهم بصورة کاملة عن المجتمع والنشاطات الاجتماعیة، فی الوقت الذی یتعلّم آخرون من الانتکاسات والمصاعب دروس الاستقامة والصلابة والقدرة على تحدّی المشاکل ومقاومتها.
ومن هنا فإنّ القسم الأوّل یلتمس طریق الرهبانیة أو أی سلوک مشابه له، بعکس القسم الثانی الذی یصبح أکثر تماساً بالمجتمع وأقوى فی مواجهة تحدیّاته.