لقد وردت کلمة الفتنة فی ثلاثین آیة من القرآن الکریم، وإنّ دراسة تلک الآیات تشیر إلى أن الفتنة قد وردت فی القرآن الکریم فی خمسة معان نشیر إلیها فیما یلی:
أ) التعذیب: ذکرت المصادر التاریخیة أنّه کان یوجد ملک ظالم فی الأزمنة السابقة یقوم بتعذیب المؤمنین وقام بحفر أخادید لذلک، وملأها ناراً، وکان یقرّب المؤمنین من تلک الأخادید حتى یخافوا ویتخلّوا عن إیمانهم بالله، ولکنهم أصرّوا على عقائدهم وإیمانهم، ولم یستسلموا لإرادة الملک فألقاهم فی تلک الأخادید فسمی ذلک الملک وأعوانه بـ (أصحاب الأخدود) (1)، وأشار القرآن الکریم فی الآیة الشریفة (10) من سورة البروج لذلک، یقول تعالى: (إِنَّ الَّذِینَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِینَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ یَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِیقِ ).
ب) الامتحان والاختبار: حیث استخدم هذا المعنى فی الآیة الشریفة (15) من سورة التغابن حیث یقول تعالى: (إِنَّما أَمْوالُکُمْ وَأَوْلادُکُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِیمٌ )حیث یطرح یوم القیامة حول الأموال سؤالان:
1. من أین لک هذا؟
2. فیم أنفقت کل الأموال؟ (2)
والأولاد أیضاً مادة للاختبار والامتحان، إذ هل قمنا بتربیة أولادنا تربیة صالحة أو تخلّینا عنهم وترکناهم وقصّرنا فی أداء حقوقهم؟ وهنیئاً لمن یخرج من هذه الامتحانات ناجحاً وموفقاً.
ج) العذاب الإلهی: إحدى معانی الفتنة هو العذاب الإلهی، وقد أشار القرآن الکریم إلى ذلک فی الآیة (25) من سورة الأنفال یقول تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِیبَنَّ الَّذِینَ ظَلَمُوا مِنْکُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِیدُ الْعِقابِ ) بناء على هذه الآیة الشریفة، فإنّ العذاب الإلهی لا یسلَّط على الظالمین فقط بل یسلطه على من شهد ظلم الظالم ولم یعمل بفریضة النهی عن المنکر، ولا ریب أنّه لا یشمل من أدّى تکلیفه الشرعی، وما یقال من أنّه عندما یأتی العذاب والنار فإنه یحرق الأخضر والیابس لیس بصحیح، لأنّه لا یتوافق مع حکمة الباری عزّ وجلّ.
د) المصیبة: إنّ أحد معانی الفتنة (المصیبة) ویشیر القرآن الکریم إلى هذا المعنى فی الآیة (11) من سورة الحج حیث یقول تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ یَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْف فَإِنْ أَصابَهُ خَیْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْیا وَالآخِرَةَ ذلِکَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِینُ ).
وما نسمعه من قول البعض فی مجالس العزاء لصاحب المصیبة (جعلها الله آخر مصائبک وأحزانک) لا أساس له، إذ قد یعنی (أن تموت قبل جمیع أهلک وأقاربک ومعارفک وأصدقائک وزملائک حتى لا تشهد مصیبة فقدهم)، وإلاّ فإنّ الإنسان طوال حیاته لابد أن یواجه المشاکل والمصائب والمصاعب، ویجب أن یتعامل معها باعتبارها امتحاناً إلهیاً، وکلّما وقف بثبات أمامها ولم یستسلم للمشکلات، فإنّ له عند الله أجراً عظیماً.
هـ) الفساد الکبیر: وقد ورد هذا المعنى فی الآیة (73) من سورة الأنفال حیث یقول تعالى: (وَالَّذِینَ کَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِیاءُ بَعْض إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَکُنْ فِتْنَةٌ فِی الأَرْضِ وَفَسادٌ کَبِیرٌ ).
وبناء على هذه الآیة الکریمة، یجب على المسلمین أن یقفوا أمام الفساد وعبر النهی عن المنکر باللسان أولاً، ثم عن طریق المبادرات الثقافیة، وإن لم ینجحوا عبر الطرق السلیمة لدفع الفساد عندها ینبغی أن یلجؤوا إلى القوة ومحاربة العدو، فالفتنة فی الآیة بمعنى الفساد الکبیر، وهی بهذا المعنى أشد وأعظم من القتل کما ورد فی الآیة (191) من سورة البقرة: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ) والآیة (217) من سورة البقرة: (وَالْفِتْنَةُ أَکْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ).
وما یثیره الأعداء فی العراق وأفغانستان وباقی الدول الإسلامیّة من فتن تؤدی إلى ضرب أمن المجتمع هی أشد وأخطر من الجرائم والمجازر.