الجواب الاجمالي:
إنّ کلّ الموجودات مسجّلة فی علم الله اللامحدود، فهو عالم بحرکة آلاف الملایین من الکائنات الحیّة، الکبیرة والصغیرة في البحار والبراري وفي جسم الإنسان وجميع الكائنات فهو جل وعلا يعلم الكليات والجزئيات في كل صغيرة وكبيرة
الجواب التفصيلي:
جاء جواب هذا السؤال فی الآیة 59 من سورة «الأنعام». یقول الله تعالى: (وعنده مفاتح الغیب لا یعلمها إلاّ هو).
ثمّ لتوکید ذلک أکثر یقول: (ویعلم ما فی البرّ والبحر).
«البرّ» کل مکان واسع فسیح، وتطلق على الیابسة، «والبحر» کذلک تعنی المحل الواسع الذی یتجمّع فیه الماء، وتطلق على البحار والمحیطات وعلى الأنهر العظیمة أحیاناً.
فالقول بأنّ الله یعلم ما فی البر والبحر، کنایة عن إحاطته بکل شیء، وهذه الإحاطة بما فی البرّ والبحر إنّما تمثّل فی الحقیقة جانباً من علمه الأوسع.
فهو عالم بحرکة آلاف الملایین من الکائنات الحیّة، الکبیرة والصغیرة، فی أعماق البحار.
وهو عالم بارتعاش أوراق الأشجار فی کل غابة وجبل.
وهو عالم بمسیرة کل برعمة وتفتح أوراقها.
وهو عالم بجریان النسیم فی البوادی ومنعطفات الودیان.
وهو عالم بعدد خلایا جسم الإنسان وکریات دمه.
وهو عالم بکل الحرکات الغامضة فی الإلکترونات فی قلب الذّرة.
وهو عالم بکل الأفکار التی تمرّ بتلافیف أدمغتنا حتى أعماق أرواحنا... نعم إنّه عالم بکل ذلک على حدّ سواء.
لذلک فإنّه یؤکّد ذلک مرّة اُخرى فیقول: (وما تسقط من ورقة إلاّ یعلمها).
أی إنّه یعلم عدد الأوراق ولحظة إنفصال کل ورقة عن غصنها وطیرانها فی الهواء، حتى لحظة استقرارها على الأرض، کل هذا جلی أمام علم الله.
کذلک لا تختفی حبّة بین طیّات التراب إلاّ ویعلمها الله ویعلم کل تفاصیلها: (ولا حبّة فی ظلمات الأرض).
الترکیز هنا ـ فی الحقیقة ـ على نقطتین حساستین لا یمکن أن یتوصل إلیهما الإنسان حتى لو أمضى ملایین السنین من عمره یرتقی سلّم الکمال فی صنع أجهزته وأدواته المدهشة.
ترى من ذا الذی یستطیع أن یعرف کم تحمل الریاح معها فی هبوبها على مختلف أصقاع الأرض فی اللیل والنهار، من أنواع البذور المنفصلة عن نباتاتها؟ وإلى أین تحملها وتنشرها، أو تدسها فی التراب حیث تبقى سنوات مختفیة، حتى یتهیأ لها الماء فتنبت وتنمو؟
من ذا الذی یعلم کم من هذه البذور فی کل أنحاء الدنیا تحمل عن طریق الإنسان أو الحشرات فی کل ساعة من نقطة إلى نقطة اُخرى؟
أىّ دماغ الکترونی هذا الذی یستطیع أن یحصی عدد أوراق الشجر التی تسقط کل یوم من أشجار الغابات؟ انظر إلى غابة من الغابات فی الخریف، وخاصّة بعد مطر شدید أو ریح عاصفة، وتطلّع إلى مشهد سقوط الأوراق المتواصل البدیع، عندئذ تتکشف لک هذه الحقیقة، وهی أنّ علوماً من هذا القبیل لن تکون یوماً فی متناول ید الإنسان.
إنّ سقوط الورقة ـ فی الحقیقة ـ هو لحظة موتها، بینما سقوط البذرة فی مکمنها من الأرض هو لحظة بدء حیاتها، وما من أحد غیر الله یعلم بنظام هذا الموت وهذه الحیاة، وحتى أنّ کلّ خطوة تخطوها البذرة نحو حیاتها وإنبعاثها وتکاملها خلال اللحظات والساعات، جلیة فی علم الله.
إنّ لهذا الموضوع أثراً «فلسفیاً» وآخر «تربویاً»:
أمّا أثره الفلسفی، فینفی رأی الذین یحصرون علم الله بالکلیات، ویعتقدون أنّه لا یعلم عن الجزئیات شیئاً، وفی الآیة هنا تأکید على أنّ الله یعلم الکلیات والجزئیات کلّها.
أمّا أثره التربوی فواضح، لأنّ الإیمان بهذا العلم الواسع لله یقول للإنسان: إنّ جمیع أسرار وجودک، وأعمالک، وأقوالک ونیّاتک، وأفکارک کلّها بیّنة أمام الله، فإذا آمن الإنسان حقّاً بهذا، فکیف یمکن له أن لا یکون رقیباً على نفسه ویسیطر على أعماله وأقواله ونیّاته!
وفی ختام الآیة یقول تعالى: (ولا رطب ولا یابس إلاّ فی کتاب مبین).
تبیّن هذه العبارة القصیرة سعة علم الله اللامحدود وإحاطته بکلّ الکائنات بدون أىّ إستثناء، إذ أنّ «الرطب» و«الیابس» لا یقصد بهما المعنى اللغوی، بل هما کنایة عن الشمول والعمومیة.
وللمفسّرین آراء متعددة فی معنى: «کتاب مبین»، ولکنّ الأقوى أنّه کنایة عن علم الله الواسع، أی إنّ کلّ الموجودات مسجّلة فی علم الله اللامحدود، کما أنّه یفسّر بکونه «اللوح المحفوظ» نفسه، إذ لا یستبعد أن یکون اللوح المحفوظ هو صفحة علم الله.
وثمّة احتمال آخر عن معنى «کتاب مبین» وهو أنّه عالم الخلق وسلسلة العلل والمعلولات التی کتب فیها کلّ شیء(1)
لا يوجد تعليق