شريعة الرحمة - المعارف الإسلامية والاجابة عن الشبهات الكلامية

لم یبقَ للباحث ملتحد عن الخنوع لمجیء «المولى» بمعنى الأَولى بالشیء، فإنّ للحدیث قرائن تنفی إرادة غیره فإلیک البیان:
1- مقدّمة الحدیث،  وهی قوله(ص): «ألستُ أَولى بکم من أنفسکم»
2- ذیل الحدیث، وهو قوله(ص): «أللّهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه».
3- قوله: (ص) عقیب لفظ الحدیث: «الله أکبر على إکمال الدین، وإتمام النعمة، ورضا الربِّ برسالتی، والولایة لعلیّ بن أبی طالب».
4- قوله (ص) قبل بیان الولایة: «کأنّی دُعیتُ فأَجبتُ»، أو: «أنّه یُوشِک أن اُدعى فاُجیب»، أو: «ألا وإنّی اُوشک أن اُفارقکم».
5- قوله (ص) بعد بیان الولایة لعلیٍّ(علیه السلام): «هنِّئونی هنِّئونی إنَّ الله تعالى خصّنی بالنبوّة، وخصّ أهل بیتی بالإمامة».
وغيرها من القرائن

لم یبقَ للباحث ملتحد عن الخنوع لمجیء «المولى» بمعنى الأَولى بالشیء. وإن تنازلنا إلى أنّه أحد معانیه، وأنّه من المشترک اللفظیّ، فإنّ للحدیث قرائن متّصلة واُخرى منفصلة تنفی إرادة غیره فإلیک البیان:
القرینة الاُولى: مقدّمة الحدیث ; وهی قوله(صلى الله علیه وآله): «ألستُ أَولى بکم من أنفسکم»، أو ما یؤدّی مؤدّاه من ألفاظ متقاربة. ثمّ فرّع على ذلک قوله: «فمن کنتُ مولاه فعلیٌّ مولاه». وقد رواها الکثیرون من علماء الفریقین ; فمن حفّاظ أهل السنّة وأئمّتهم:
1 ـ أحمد بن حنـبل. 3 ـ النسـائی. 5 ـ التـرمذی.
2 ـ ابن ماجـة. 4 ـ الطبـری. 6 ـ السیوطی.
فهذه المقدّمة من الصحیح الثابت الّذی لا محید عن الاعتراف به ; فلو کان(صلى الله علیه وآله)یرید فی کلامه غیر المعنى الّذی صرّح به فی المقدّمة لعاد لفظه ـ ونُجلّه عن کلِّ سقطة ـ محلول العُرى، مختزلاً بعضه عن بعض، وکان فی معزل عن البلاغة وهو أفصح البلغاء، وأبلغ مَنْ نَطَق بالضاد ; فلا مساغ فی الإذعان بارتباط أجزاء کلامه، وهو الحقّ فی کلِّ قول یلفظه عن وحی یوحى إلاّ أن نقول باتّحاد المعنى فی المقدّمة وذیها.
ویزیدک وضوحاً وبیاناً ما فی التذکرة لسبط ابن الجوزی الحنفی(1) ; فإنّه بعد عدِّ معان عشرة للمولى وجعل عاشرها الأولى، قال:
والمراد من الحدیث: الطاعة المخصوصة ; فتعیّن الوجه العاشر وهو الأَولى. ومعناه: من کنت أَولى به من نفسه فعلیٌّ أَولى به.
القرینة الثانیة: ذیل الحدیث ; وهو قوله(صلى الله علیه وآله): «أللّهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه». وفی جملة من طرقه بزیادة قوله: «وانصُر من نصره، واخذُلْ من خذله»
وقد أشیر إلى رواة هذا الحدیث فی مکانه، کما ذکرت وجوهاً لإثبات أن کلمة «مولى» لا تصحّ إلاّ مع معنى الأولویة الملازمة للإمام والإمامة، وهی:
أحدها: أنّه(صلى الله علیه وآله) لمّا صدع بما خوّل الله سبحانه وصیّه من المقام الشامخ بالرئاسة العامّة على الاُمّة جمعاء، والإمامة المطلقة من بعده، کان یعلم بطبع الحال أنَّ تمام هذا الأمر بتوفّر الجنود والأعوان وطاعة أصحاب الولایات والعمّال مع علمه بأنّ فی الملأ من یحسده، کما ورد فی الکتاب العزیز(2)، وفیهم من یحقد علیه، وفی زُمَر المنافقین من یضمر له العداء لأوتار جاهلیّة، وستکون من بعده هنات تجلبها النهمة والشرَه من أرباب المطامع لطلب الولایات والتفضیل فی العطاء، ولا یدع الحقّ علیّاً(علیه السلام) أن یسعفهم بمبتغاهم ; لعدم الحنکة والجدارة فیهم فیقلبون علیه ظهر المجنّ، وقد أخبر(صلى الله علیه وآله) مجمل الحال بقوله: «إن تُؤمّروا علیّاً ـ ولا أراکم فاعلین ـ تجدوه هادیاً مهدیّاً»(3). وفی لفظ: «إن تستخلفوا علیّاً ـ وما أراکم فاعلین ـ تجدوه هادیاً مهدیّاً»(4).
فطفق(صلى الله علیه وآله) یدعو لمن والاه ونصره، وعلى من عاداه وخذله ; لیتمّ له أمر الخلافة، ولِیعلم الناس أنّ موالاته مَجلبة لموالاة الله سبحانه، وأنّ عداءه وخذلانه مدعاة لغضب الله وسخطه، فیزدلف إلى الحقّ وأهله. ومثل هذا الدعاء بلفظ العامّ لا یکون إلاّ فی من هذا شأنه ; ولذلک إنّ أفراد المؤمنین الّذین أوجب الله محبّة بعضهم لبعض لم یؤثّر فیهم هذا القول ; فإنّ منافرة بعضهم لبعض جزئیّات لا تبلغ هذا المبلغ، وإنّما یحصل مثله فیما إذا کان المدعوّ له دعامة الدین، وعَلَم الإسلام، وإمام الاُمّة، وبالتثبیط عنه یکون فتٌّ فی عضد الحقِّ وانحلالٌ لِعُرى الإسلام.
ثانیها: أنَّ هذا الدعاء ـ بعمومه الأفرادىِّ بالموصول، والأزمانیّ والأحوالیّ بحذف المتعلّق ـ یدلُّ على عصمة الإمام(علیه السلام) ; لإفادته وجوب موالاته ونصرته والانحیاز عن العداء له وخذلانه على کلّ أحد فی کلِّ حین وعلى کلّ حال، وذلک یوجب أن یکون(علیه السلام)فی کلّ تلک الأحوال على صفة لا تصدر منه معصیة، ولا یقول إلاّ الحقّ، ولا یعمل إلاّ به، ولا یکون إلاّ معه ; لأنّه لو صدر منه شیء من المعصیة لوجب الإنکار علیه ونصب العداء له ; لعمله المنکر والتخذیل عنه ; فحیث لم یستثنِ(صلى الله علیه وآله) من لفظه العام شیئاً من أطواره وأزمانه علمنا أ نّه لم یکن(علیه السلام) فی کلِّ تلک المدد والأطوار إلاّ على الصفة الّتی ذکرناها. وصاحب هذه الصفة یجب أن یکون إماماً لقبح أن یؤمّه من هو دونه على ما هو المقرّر فی محلّه، وإذا کان إماماً فهو أَولى بالناس منهم بأنفسهم.
القرینة الثالثة: قوله(صلى الله علیه وآله): «یا أیّها الناس بمَ تشهدون؟ قالوا: نشهد أن لا إله إلاّ الله. قال: ثمّ مَهْ؟ قالوا: وأنّ محمّداً عبده ورسوله. قال: فمن ولیُّکم؟ قالوا: الله ورسوله مولانا.
ثمّ ضرب بیده إلى عضد علیٍّ، فأقامه، فقال: من یکن الله ورسوله مولاه فإنّ هذا مولاه...». هذا لفظ جریر(5).
فإنّ وقوع الولایة فی سیاق الشهادة بالتوحید والرسالة وسردها عقیب المولویّة المطلقة لله سبحانه ولرسوله من بعده لا یمکن إلاّ أن یُراد بها معنى الإمامة الملازمة للأولویّة على الناس منهم بأنفسهم.
القرینة الرابعة: قوله: (صلى الله علیه وآله) عقیب لفظ الحدیث: «الله أکبر على إکمال الدین، وإتمام النعمة، ورضا الربِّ برسالتی، والولایة لعلیّ بن أبی طالب».
فأىّ معنىً تراهُ یکمل به الدین، ویُتمّ النعمة، ویُرضی الربَّ فی عداد الرسالة غیر الإمامة الّتی بها تمام أمرها وکمال نشرها وتوطید دعائمها؟ إذن فالناهض بذلک العبء المقدّس أَولى الناس منهم بأنفسهم.
القرینة الخامسة: قوله (صلى الله علیه وآله) قبل بیان الولایة: «کأنّی دُعیتُ فأَجبتُ»، أو: «أنّه یُوشِک أن اُدعى فاُجیب»، أو: «ألا وإنّی اُوشک أن اُفارقکم»، أو: «یوشِک أن یأتی رسول ربّی فاُجیب»، وقد تکرّر ذکره عند حفّاظ الحدیث کما مرّ(6).
وهو یُعطینا علماً بأنّه (صلى الله علیه وآله) کان قد بقی من تبلیغه مهمّة یُحاذر أن یدرکه الأجل قبل الإشادة بها، ولولا الهتاف بها بقی ما بلّغه مُخدَجاً، ولم یذکر(صلى الله علیه وآله) بعد هذا الاهتمام إلاّ ولایة أمیر المؤمنین وولایة عترته الطاهرة الّذین یَقْدِمهم هو ـ صلوات الله علیه ـ کما فی نقل مسلم(7)، فهل من الجائز أن تکون تلک المهمة المنطبقة على هذه الولایة إلاّ معنى الإمامة المصرّح بها فی غیر واحد من الصحاح؟ وهل صاحبها إلاّ أَولى الناس بأنفسهم؟
القرینة السادسة: قوله (صلى الله علیه وآله) بعد بیان الولایة لعلیٍّ(علیه السلام):
«هنِّئونی هنِّئونی إنَّ الله تعالى خصّنی بالنبوّة، وخصّ أهل بیتی بالإمامة»(8) ; فصریح العبارة هو الإمامة المخصوصة بأهل بیته الّذین سیّدهم والمقدّم فیهم هو أمیرالمؤمنین(علیه السلام)، وکان هو المراد فی الوقت الحاضر.
ثمّ نفس التهنئة والبیعة والمصافقة والاحتفال بها واتّصالها ثلاثة أیّام لا تلائم غیر معنى الخلافة والأولویّة ; ولذلک ترى الشیخین أبا بکر وعمر لقیا أمیر المؤمنین فهنّآهُ بالولایة. وفیها بیانٌ لمعنى المولى الّذی لهج به(صلى الله علیه وآله) ; فلا یکون المتحلّی به إلاّ أَولى الناس منهم بأنفسهم.
القرینة السابعة: قوله (صلى الله علیه وآله) بعد بیان الولایة: «فلیبلّغ الشاهد الغائب» کما مرّ(9).
أوَ تحسب أنّه (صلى الله علیه وآله) یؤکّد هذا التأکید فی تبلیغ الغائبین أمراً علِمه کلُّ فرد منهم بالکتاب والسنّة من الموالاة والمحبّة والنصرة بین أفراد المسلمین مشفوعاً بذلک الاهتمام والحرص على بیانه؟ لا أحسب أنَّ ضُؤولة الرأی یُسفُّ بک إلى هذه الخطّة. لکنّک ولا شکّ تقول: إنّه(صلى الله علیه وآله)لم یُرد إلاّ مهمّة لم تُتَحِ الفرص لتبلیغها ولا عرفته الجماهیر ممّن لم یشهدوا ذلک المجتمع، وما هی إلاّ مهمّة الإمامة الّتی بها کمال الدین، وتمام النعمة، ورضا الربِّ، وما فَهِمَ الملأُ الحضور من لفظه(صلى الله علیه وآله) إلاّ تلک. ولم یؤثر له(صلى الله علیه وآله) لفظ آخر فی ذلک المشهد یلیق أن یکون أمره بالتبلیغ له، وتلک المهمّة لا تساوق إلاّ معنى الأَولى من معانی المولى.
القرینة الثامنة: قوله (صلى الله علیه وآله) بعد بیان الولایة فی لفظ أبی سعید الخُدری وجابر(10): «الله أکبر على إکمال الدین، وإتمام النعمة، ورضا الربّ برسالتی، والولایة لعلیٍّ من بعدی». وفی لفظ وهب(11): «إنّه ولیّکم بعدی». وفی لفظ علىّ ( علیه السلام ): «ولىُّ کلِّ مؤمن بعدی».
وکذلک ما أخرجه(12) الترمذی، وأحمد، والحاکم، والنسائی، وابن أبی شیبة والطبری، وکثیرون آخرون من الحفّاظ بطرق صحیحة من قوله(صلى الله علیه وآله):
«إنّ علیّاً منّی وأنا منه، وهو ولىُّ کلّ مؤمن بعدی»، وفی آخر: «هو ولیّکم بعدی».
وما أخرجه أبو نعیم فی حلیة الأولیاء(13) وآخرون(14) بإسناد صحیح من قوله (صلى الله علیه وآله):
«من سرّه أن یحیى حیاتى، ویموت مماتی، ویسکن جنّة عدن غرسها ربّی، فلْیوالِ علیّاً من بعدی، ولْیقتدِ بالأئمّة من بعدی ; فإنّهم عترتی خُلِقوا من طینتی.. ».
فإنّ هذه التعابیر تعطینا خُبراً بأنّ الولایة الثابتة لأمیر المؤمنین (علیه السلام) مرتّبة تساوق ما ثبت لصاحب الرسالة مع حفظ التفاوت بین المرتبتین بالأوّلیّة والأولویّة، سواءٌ اُرید من لفظ «بعدی» البعدیّة الزمانیّة أو البعدیّة فی الرتبة ; فلا یمکن أن یراد إذن من المولى إلاّ الأولویّة على الناس فی جمیع شؤونهم ; إذ فی إرادة معنى النصرة والمحبّة من المولى بهذا القید ینقلب الحدیث ویُعَدُّ منقصة دون مفخرة.
القرینة التاسعة: قوله (صلى الله علیه وآله) بعد إبلاغ الولایة:
«أللّهمّ أنت شهید علیهم أنّی قد بلّغت ونصحت»; فالإشهاد على الاُمّة بالبلاغ والنصح یستدعی أن یکون ما بلّغه(صلى الله علیه وآله) ذلک الیوم أمراً جدیداً لم یکن قد بلّغه قبل. مضافاً إلى أنّ بقیة معانی المولى العامّة بین أفراد المسلمین من الحبّ والنصرة لا تُتصوّر فیها أىُّ حاجة إلى الإشهاد على الاُمّة فی علىٍّ خاصّة، إلاّ أن تکون فیه على الحدِّ الّذی بینّاه.
القرینة العاشرة: قوله (صلى الله علیه وآله) قبل بیان الحدیث «إنَّ الله أرسلنی برسالة ضاق بها صدری، وظننْتُ أنّ الناس مُکذِّبیَّ فأوعدنی لاُبلّغها أو لَیعذِّبنی».
ورد(15) بلفظ: «إنَّ الله بعثنی برسالة، فضقتُ بها ذَرْعاً، وعرفت أنّ الناس مکذِّبیّ، فوعدنی لاُبلّغنَّ، أو لَیُعذِّبنی».
وبلفظ(16): «إنّی راجعت ربّی خشیة طعن أهل النفاق ومکذِّبیهم فأوعدنی لاُبلّغها أو لَیعذِّبنی».
هذه کلّها تنمُّ عن نبأ عظیم کان یخشى فی بثِّه بوادر أهل النفاق وتکذیبهم ; فالّذی کان یحاذره (صلى الله علیه وآله) ویتحقّق به القول بأنّه حابى ابن عمِّه یستدعی أن یکون أمراً یخصُّ أمیر المؤمنین، لا شیئاً یشارکه فیه المسلمون أجمع من النصرة والمحبّة، وما هو إلاّ الأولویّة بالأمر وما جرى مجراها من المعانی.(17)