الجواب الاجمالي:
الجواب التفصيلي:
إنّ البناء على قبور الأنبیاء والأولیاء ممّا جرت علیها اتباع الأنبیاء والشرائع السماویة قبل الإسلام، وبعده.
فقد کانوا یشیّدون الأبنیة والأضرحة على قبور الأنبیاء والأولیاء، ولا زال کثیرها قائماً إلى الآن فی العراق وفلسطین والشام.
غیر أنّ الوهابیین زعموا أنّ ذلک من الشرک أو من البدعة، فأجمعوا أمرهم على هدم هذه الأبنیة والأضرحة.
یقول ابن القیم فی کتابه «زاد المعاد فی هدى خیر العباد»: یجب هدم المشاهد التی بنیت على القبور ولایجوز إبقاؤها، بعد القدرة على هدمها وإبطالها یوماً[1]
و على هذه السنّة السیئة جرى الوهابیون؛ فإنّهم بعد أن استولوا على الحجاز استفتوا علماء المدینة عن تلک الأضرحة والقبور، ذاکرین فی استفتائهم الحکم والجواب الذی یجب أن یجیب به علماء المدینة فطرح ابن بلهید- یومذاک - سؤالًا قال فیه: «ما قول علماء المدینة المنورة زادهم اللَّه فهماً وعلماً فی البناء على القبور واتّخذاها مساجد؛ هل هو جائز أو لا؟ واذا کان غیر جائز بل ممنوع منهیّ عنه نهیاً شدیداً[2] فهل یجب هدمها ومنع الصلاة عندها؟»[3]
فإنّنا نطرح هذه المسألة على الکتاب الإلهی العزیز لنرى ما هو الجواب الصحیح فیها.
و إلیک مانستفیده فی هذا المجال من القرآن الکریم:
1- یظهر من بعض الآیات أنّ أهل الشرائع السماویة کانوا یبنون المساجد على قبور أولیائهم أو عندها ولأجل ذلک لما کشف أمر أصحاب الکهف تنازع الواقفون على آثارهم فمنهم من قال وهم المشرکون: «ابنُوا عَلَیهم بُنیاناً رَبُّهمْ أعلَمُ بِهِمْ»
و قال الآخرون وهم المسلمون: «لَنتَّخِذَنَّ عَلَیهِمْ مَسْجِداً » (الکهف - 21).
قال الزمخشری فی تفسیر قوله: «ابنوا علیهم بنیاناً»: أی ابنوا على باب کهفهم لئلّا یتطرق إلیهم الناس ضناً بتربتهم ومحافظة علیها کما حفظت تربة رسول اللَّه بالحظیرة.
و قال فی تفسیر قوله: «قالَ الَّذِینَ غَلَبُوا عَلى أمْرِهِمْ لَنَتَّخِذنَّ عَلَیهِمْ مَسْجِداً»: أی قال المسلمون وکانوا أولى بهم وبالبناء علیهم: لنتّخذن على باب الکهف مسجداً، یصلّی فیه المسلمون ویتبرّکون بمکانهم[4]
و قال فی تفسیر الجلالین: فقالوا- أی الکفّار-: ابنوا علیهم- أی حولهم- بنیاناً یسترهم، ربّهم أعلم بهم «قال الذین غلبوا على أمرهم»: أمر الفتیة وهم المؤمنون: «لنتَّخذن علیهم»- حولهم- «مسجداً» یصلى فیه)[5]
و على الجملة فقد اتفق المفسّرون على أن القائل ببناء المسجد على قبورهم کان هم المسلمون ولم ینقل القرآن هذه الکلمة منهم إلّا لنقتدی بهم ونتّخذهم فی ذلک أُسوة.
و لو کان بناء المسجد على قبورهم أو قبور سائر الأولیاء أمراً محرّماً لتعرّض عند نقل قولهم بالرد والنقد لئلّا یضل الجاهل.
و أمّا ما روی عن النبیّ من قوله: لعن اللَّه الیهود والنصارى اتّخذوا قبور أنبیائهم مساجد[6] فالمراد منه هو السجود على قبور الأنبیاء واتّخاذها قبلة فی الصلاة وغیرها والمسلمون بریئون عن ذلک، وقد أوضحه القسطلانی فی کتابه إرشاد الساری فی شرح صحیح البخاری.
إنّ قبور الأنبیاء المنتشرة حول بیت المقدس کقبر داود علیه السلام فی القدس، وقبور إبراهیم، وبنیه إسحاق ویعقوب ویوسف الذی نقله موسى من مصر إلى بیت المقدس فی بلد الخلیل، کلّها مبنیة مشیّدة قد بنی علیها بالحجارة العادیة العظیمة من قبل الإسلام، وبقی ذلک بعد الفتح الإسلامی الى الیوم.
غیر أنّ ابن تیمیة اعتذر عن ذلک فی کتابه: «الصراط المستقیم» بأنّ البناء الذی کان على قبر إبراهیم الخلیل علیه السلام کان موجوداً فی زمن الفتوح، وزمن الصحابة إلّا أنّ باب ذلک البناء کان مسدوداً إلى سنة 400 ه.
ولکن هذا الکلام لایفیده أبداً ولا یضرنا؛ فانّ «عمر» لما فتح بیت المقدس رأى ذلک البناء ومع ذلک لم یهدمه. وسواء أصح قول ابن تیمیة أنّه کان مسدوداً إلى عام 400 أم لم یصح یدل على عدم حرمة البناء على القبور، وقد مضت على هذا البناء الأعصار والدهور، وتوالت علیها القرون، ودول الإسلام، ولم یسمع عن أحد من العلماء والصلحاء وأهل الدین وغیرهم قبل الوهابیة أنّه أنکر ذلک وأمر بهدمه أو حرّمه، أو فاه فی ذلک ببنت شفة على کثرة مایرد من الزوار والمتردّدین من جمیع أقطار المعمورة.
هذا مضافاً إلى أنّه قد دفن النبی فی حجرة بیته ودفن فیها صاحباه ولا فرق بین البناء السابق واللاحق، ولم یقل أحد بالفرق بین البناء السابق واللاحق کما لا یخفى.
و فی تاریخ بناء الحرم النبوی مایفیدک فی هذا المجال، جداً، فلاحظ.
2- قال اللَّه الکریم:
«فی بُیُوتٍ أذِنَ اللَّهُ أنْ تُرْفَعَ ویُذْکَرَ فیها اسْمُهُ یُسَبِّحُ لَهُ فیها بالغُدُوِّ والآصالِ* رِجالٌ لاتُلهیهِمْ تِجارَةٌ ولا بَیْعٌ عَن ذِکْرِ اللَّهِ وإقامِ الصَّلاةِ وإیتاءِ الزَّکاةِ یَخافونَ یَوماً تَتَقَلَّبُ فیهِ القُلُوبُ والأبْصار»(النور: 36- 37).
الاستدلال بهذه الآیات على جواز البناء على القبور یتوقف على أمرین:
1- ما هو المراد من هذه البیوت؟
2- ما المراد من رفعها؟
أمّا الأمر الأوّل، فقد روی عن ابن عباس أنّ المراد بها هی المساجد؛ تکرّمُ وینهى عن اللغو فیها، ویذکر فیها اسمه.
غیر أنّه یجب علینا- فی المقام- التأمّل فی هذا التفسیر، حیث إنّ الظاهر أنّ تفسیر ابن عباس للبیوت بالمساجد بیان لأحد المصادیق، لا المصداق المنحصر، وکم لهذا التفسیر من نظیر، فی غیر هذا المقام.
بل یمکن أن یقال: إنّ «البیوت» غیر المساجد، لأنّ المساجد یستحبّ أن تکون عمارتها مکشوفة غیر مسقّفة، وأفضل الأربعة «المسجد الحرام» ونراه بالحسّ والعیان قد بنی مکشوفاً، والبیت لا یُطلق حقیقة على المکان المکشوف، بل هو عبارة عن المکان الذی یکون له سقف وظهر، قال تعالى: «لَجَعَلْنا لِمَنْ یَکْفُرُ بِالرَّحمنِ لِبُیُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ» (الزخرف- 33).
وقال: «وَ لَیْسَ البِرُّ بِأنْ تَأتُوا البُیُوتَ مِنْ ظُهُورِها» (البقرة- 189).
وهذا واضح بملاحظة العرف أیضاً، فإنّه یطلق على بیوت الأعراب وعلى خیامهم الموجودة فی البادیة ولا یطلق على نفس البادیة لکونها مکشوفة بخلاف الخیام فإنّها مسقفة، ولأجل ما ذکرناه لاتکاد تجد فی القرآن الکریم موضعاً أُطلق فیه البیت على المسجد، بخلاف الکعبة فإنّها حیث کانت مسقّفة أُطلق علیها البیت فی مواضع شتى.
قال سبحانه: «طَهّرا بَیْتیَ لِلطّائِفِینَ» (البقرة- 125).
و قال سبحانه: «جَعَلَ اللَّهُ الکَعْبَةَ البَیْتَ الحَرامَ قِیاماً للنّاس» (المائدة- 97).
و قال سبحانه: «ثُمَّ مَحِلُّها إلى البیتِ العَتیقِ» (الحج- 33).
و على ذلک فالمراد بها غیر المساجد بل البیوت المشرّفة التی أذن اللَّه أن تُرفع، ویُذکر فیها اسمه، وبیوت الأنبیاء والأولیاء من أوضح مصادیقها لِما خَصَّ اللَّه هذه البیوت وأهالیها بمزید الشرف، والکرامة فقد قال اللَّه عن البیت النبوی وأهله: «إنَّما یُریدُ اللَّهُ لِیُذهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أهلَ البَیْتِ وَیُطَهِّرَکُم تَطْهیراً» (الأحزاب- 33).
و هذا البیت نظیر بیت إبراهیم حیث قالت الملائکة فی شأنه لامرأة إبراهیم: «أتَعْجَبِینَ مِن أمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وبَرَکاتُهُ عَلَیْکُمْ أهْلَ البَیْتِ إنَّهُ حَمیدُ مَجید» (هود- 73).
ولأجل ذلک نرى العلّامة السیوطی بعد نقل قول ابن عباس نقل عن مجاهد قوله: إنّ المراد؛ هی بیوت النبی.
و أخرج ابن مردویه عن أنس بن مالک وبریدة أنّه قال: قرأ رسول اللَّه صلى الله علیه وآله وسلم هذه الآیة، فقام إلیه رجل فقال: أیّ بیوت هذه یارسول اللَّه؟
قال: بیوت الأنبیاء، فقام إلیه أبوبکر فقال: یارسول اللَّه هذا البیت منها؟ (یعنی بیت علیّ وفاطمة) قال: نعم من أفاضلها[7]
هذا عن الأمر الأوّل.
وأمّا المراد من الرفع (هو الأمر الثانی) فهو یحتمل أحد معنیین:
أ): أذن اللَّه أن ترفع تلک البیوت بالبناء والعمارة للعبادة التی وردت فی نفس الآیة من ذکر اسمه تعالى فیها، والتسبیح فیها بالغدوّ والآصال.
و یدل على ذلک قوله سبحانه: «وَإذْ یَرْفَعُ إبْراهیمُ القَواعِدَ مِنَ البَیْتِ وإسماعیل» (البقرة- 127).
فالظاهر هو أنّ المراد من «الرفع» فی کلا المقامین واحد، وهو بناؤها وعمارتها- البیوت- وإعلاؤها.
ب): إنّ المراد من الرفع هو تعظیمها وتوقیرها.
فلو کان المراد هو الأوّل لکان نصّاً صریحاً فی المطلوب (وهو البناء على القبور التی فی بیوتهم).
و لو کان المراد الثانی کان نصّاً فی توقیره وتعظیمه وتکریمه، ومن المعلوم أنّ عمارة البیت وصونه عن الخراب بتعمیره وتجدید بنائه، وفرشه بالسجاجید والإسراج فیه وتزیینه بغیر مانهى اللَّه عنه، والدفاع عن قصد تخریبه وهدمه، توقیراً وتعظیماً له کما یکون ستر الکعبة المعظّمة بالأستار الثمینة تعظیماً لها عرفاً.
کل ذلک تکریماً للنبی وتعظیماً له حتى تتحقّق- بها أیضاً- الغایات التی ذکرتها الآیة، (من ذکر اسم اللَّه والتسبیح له بالغدوّ والآصال).
3- البناء على القبور تعظیم للشعائر، وقد قال اللَّه تعالى: «وَ مَنْ یُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإنَّها مِنْ تَقْوَى القُلُوب» (الحج- 32).
والشعائر جمع شعیرة بمعنى العلامة، ولیس المراد منه علائم وجوده سبحانه لأنّ العالَم برمّته علائم وجوده بل علائم دینه، ولأجل ذلک فسّره المفسّرون بمعالم الدین، واللَّه یصف «الصفا والمروة» بأنّهما من شعائر اللَّه إذ یقول: «إنَّ الصَّفا والمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ» (البقرة- 158). ویقول: «والبُدْنَ جَعَلْناها لَکُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ» (الحج- 36). ویقول: «یا أیُّها الَّذینَ آمَنُوا لاتُحِلُّوا شعائِرَ اللَّه» (المائدة- 2). ولیس المراد إلّا کونها علامات دینه ..
فإذا وجب تعظیم شعائر اللَّه بتصریح القرآن معلّلًا بأنّها من تقوى القلوب جاز تعظیم الأنبیاء والأولیاء باعتبارهم أعظم آیة لدین اللَّه وأعظم تعظیم وأفضل تکریم. فهم الذین بلّغوا دین اللَّه إلى البشریة فیکون حفظ قبورهم وأضرحتهم وآثارهم عن الاندراس والاندثار خیر تکریم وتعظیم لهم.
و إن شئت قلت: إنّ تعظیم کل شیء بحسبه، فتعظیم الکعبة یکون بسترها بالأستار، وتعظیم البُدن الذی هو من شعائر اللَّه بالمواظبة على إبلاغها إلى محلّها وترک الرکوب علیها وتعلیفها، وتعظیم الأنبیاء والأولیاء فی حیاتهم بنحو وبعد وفاتهم بنحو آخر.
فکل ما یعدّ تعظیماً وتکریماً یجوز بنص هذه الآیة من غیر شک ولاشبهة.
و ورود الآیة فی مشاعر الحج وشعائره لا یکون دلیلًا على اختصاصها بها فإنّ قوله تعالى «وَمَنْ یُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ» ضابطة کلیة ومبدأ هام، ینطبق على مصادیقه وأفراده وجزئیاته الکثیرة[8]
فقد کانوا یشیّدون الأبنیة والأضرحة على قبور الأنبیاء والأولیاء، ولا زال کثیرها قائماً إلى الآن فی العراق وفلسطین والشام.
غیر أنّ الوهابیین زعموا أنّ ذلک من الشرک أو من البدعة، فأجمعوا أمرهم على هدم هذه الأبنیة والأضرحة.
یقول ابن القیم فی کتابه «زاد المعاد فی هدى خیر العباد»: یجب هدم المشاهد التی بنیت على القبور ولایجوز إبقاؤها، بعد القدرة على هدمها وإبطالها یوماً[1]
و على هذه السنّة السیئة جرى الوهابیون؛ فإنّهم بعد أن استولوا على الحجاز استفتوا علماء المدینة عن تلک الأضرحة والقبور، ذاکرین فی استفتائهم الحکم والجواب الذی یجب أن یجیب به علماء المدینة فطرح ابن بلهید- یومذاک - سؤالًا قال فیه: «ما قول علماء المدینة المنورة زادهم اللَّه فهماً وعلماً فی البناء على القبور واتّخذاها مساجد؛ هل هو جائز أو لا؟ واذا کان غیر جائز بل ممنوع منهیّ عنه نهیاً شدیداً[2] فهل یجب هدمها ومنع الصلاة عندها؟»[3]
فإنّنا نطرح هذه المسألة على الکتاب الإلهی العزیز لنرى ما هو الجواب الصحیح فیها.
و إلیک مانستفیده فی هذا المجال من القرآن الکریم:
1- یظهر من بعض الآیات أنّ أهل الشرائع السماویة کانوا یبنون المساجد على قبور أولیائهم أو عندها ولأجل ذلک لما کشف أمر أصحاب الکهف تنازع الواقفون على آثارهم فمنهم من قال وهم المشرکون: «ابنُوا عَلَیهم بُنیاناً رَبُّهمْ أعلَمُ بِهِمْ»
و قال الآخرون وهم المسلمون: «لَنتَّخِذَنَّ عَلَیهِمْ مَسْجِداً » (الکهف - 21).
قال الزمخشری فی تفسیر قوله: «ابنوا علیهم بنیاناً»: أی ابنوا على باب کهفهم لئلّا یتطرق إلیهم الناس ضناً بتربتهم ومحافظة علیها کما حفظت تربة رسول اللَّه بالحظیرة.
و قال فی تفسیر قوله: «قالَ الَّذِینَ غَلَبُوا عَلى أمْرِهِمْ لَنَتَّخِذنَّ عَلَیهِمْ مَسْجِداً»: أی قال المسلمون وکانوا أولى بهم وبالبناء علیهم: لنتّخذن على باب الکهف مسجداً، یصلّی فیه المسلمون ویتبرّکون بمکانهم[4]
و قال فی تفسیر الجلالین: فقالوا- أی الکفّار-: ابنوا علیهم- أی حولهم- بنیاناً یسترهم، ربّهم أعلم بهم «قال الذین غلبوا على أمرهم»: أمر الفتیة وهم المؤمنون: «لنتَّخذن علیهم»- حولهم- «مسجداً» یصلى فیه)[5]
و على الجملة فقد اتفق المفسّرون على أن القائل ببناء المسجد على قبورهم کان هم المسلمون ولم ینقل القرآن هذه الکلمة منهم إلّا لنقتدی بهم ونتّخذهم فی ذلک أُسوة.
و لو کان بناء المسجد على قبورهم أو قبور سائر الأولیاء أمراً محرّماً لتعرّض عند نقل قولهم بالرد والنقد لئلّا یضل الجاهل.
و أمّا ما روی عن النبیّ من قوله: لعن اللَّه الیهود والنصارى اتّخذوا قبور أنبیائهم مساجد[6] فالمراد منه هو السجود على قبور الأنبیاء واتّخاذها قبلة فی الصلاة وغیرها والمسلمون بریئون عن ذلک، وقد أوضحه القسطلانی فی کتابه إرشاد الساری فی شرح صحیح البخاری.
إنّ قبور الأنبیاء المنتشرة حول بیت المقدس کقبر داود علیه السلام فی القدس، وقبور إبراهیم، وبنیه إسحاق ویعقوب ویوسف الذی نقله موسى من مصر إلى بیت المقدس فی بلد الخلیل، کلّها مبنیة مشیّدة قد بنی علیها بالحجارة العادیة العظیمة من قبل الإسلام، وبقی ذلک بعد الفتح الإسلامی الى الیوم.
غیر أنّ ابن تیمیة اعتذر عن ذلک فی کتابه: «الصراط المستقیم» بأنّ البناء الذی کان على قبر إبراهیم الخلیل علیه السلام کان موجوداً فی زمن الفتوح، وزمن الصحابة إلّا أنّ باب ذلک البناء کان مسدوداً إلى سنة 400 ه.
ولکن هذا الکلام لایفیده أبداً ولا یضرنا؛ فانّ «عمر» لما فتح بیت المقدس رأى ذلک البناء ومع ذلک لم یهدمه. وسواء أصح قول ابن تیمیة أنّه کان مسدوداً إلى عام 400 أم لم یصح یدل على عدم حرمة البناء على القبور، وقد مضت على هذا البناء الأعصار والدهور، وتوالت علیها القرون، ودول الإسلام، ولم یسمع عن أحد من العلماء والصلحاء وأهل الدین وغیرهم قبل الوهابیة أنّه أنکر ذلک وأمر بهدمه أو حرّمه، أو فاه فی ذلک ببنت شفة على کثرة مایرد من الزوار والمتردّدین من جمیع أقطار المعمورة.
هذا مضافاً إلى أنّه قد دفن النبی فی حجرة بیته ودفن فیها صاحباه ولا فرق بین البناء السابق واللاحق، ولم یقل أحد بالفرق بین البناء السابق واللاحق کما لا یخفى.
و فی تاریخ بناء الحرم النبوی مایفیدک فی هذا المجال، جداً، فلاحظ.
2- قال اللَّه الکریم:
«فی بُیُوتٍ أذِنَ اللَّهُ أنْ تُرْفَعَ ویُذْکَرَ فیها اسْمُهُ یُسَبِّحُ لَهُ فیها بالغُدُوِّ والآصالِ* رِجالٌ لاتُلهیهِمْ تِجارَةٌ ولا بَیْعٌ عَن ذِکْرِ اللَّهِ وإقامِ الصَّلاةِ وإیتاءِ الزَّکاةِ یَخافونَ یَوماً تَتَقَلَّبُ فیهِ القُلُوبُ والأبْصار»(النور: 36- 37).
الاستدلال بهذه الآیات على جواز البناء على القبور یتوقف على أمرین:
1- ما هو المراد من هذه البیوت؟
2- ما المراد من رفعها؟
أمّا الأمر الأوّل، فقد روی عن ابن عباس أنّ المراد بها هی المساجد؛ تکرّمُ وینهى عن اللغو فیها، ویذکر فیها اسمه.
غیر أنّه یجب علینا- فی المقام- التأمّل فی هذا التفسیر، حیث إنّ الظاهر أنّ تفسیر ابن عباس للبیوت بالمساجد بیان لأحد المصادیق، لا المصداق المنحصر، وکم لهذا التفسیر من نظیر، فی غیر هذا المقام.
بل یمکن أن یقال: إنّ «البیوت» غیر المساجد، لأنّ المساجد یستحبّ أن تکون عمارتها مکشوفة غیر مسقّفة، وأفضل الأربعة «المسجد الحرام» ونراه بالحسّ والعیان قد بنی مکشوفاً، والبیت لا یُطلق حقیقة على المکان المکشوف، بل هو عبارة عن المکان الذی یکون له سقف وظهر، قال تعالى: «لَجَعَلْنا لِمَنْ یَکْفُرُ بِالرَّحمنِ لِبُیُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ» (الزخرف- 33).
وقال: «وَ لَیْسَ البِرُّ بِأنْ تَأتُوا البُیُوتَ مِنْ ظُهُورِها» (البقرة- 189).
وهذا واضح بملاحظة العرف أیضاً، فإنّه یطلق على بیوت الأعراب وعلى خیامهم الموجودة فی البادیة ولا یطلق على نفس البادیة لکونها مکشوفة بخلاف الخیام فإنّها مسقفة، ولأجل ما ذکرناه لاتکاد تجد فی القرآن الکریم موضعاً أُطلق فیه البیت على المسجد، بخلاف الکعبة فإنّها حیث کانت مسقّفة أُطلق علیها البیت فی مواضع شتى.
قال سبحانه: «طَهّرا بَیْتیَ لِلطّائِفِینَ» (البقرة- 125).
و قال سبحانه: «جَعَلَ اللَّهُ الکَعْبَةَ البَیْتَ الحَرامَ قِیاماً للنّاس» (المائدة- 97).
و قال سبحانه: «ثُمَّ مَحِلُّها إلى البیتِ العَتیقِ» (الحج- 33).
و على ذلک فالمراد بها غیر المساجد بل البیوت المشرّفة التی أذن اللَّه أن تُرفع، ویُذکر فیها اسمه، وبیوت الأنبیاء والأولیاء من أوضح مصادیقها لِما خَصَّ اللَّه هذه البیوت وأهالیها بمزید الشرف، والکرامة فقد قال اللَّه عن البیت النبوی وأهله: «إنَّما یُریدُ اللَّهُ لِیُذهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أهلَ البَیْتِ وَیُطَهِّرَکُم تَطْهیراً» (الأحزاب- 33).
و هذا البیت نظیر بیت إبراهیم حیث قالت الملائکة فی شأنه لامرأة إبراهیم: «أتَعْجَبِینَ مِن أمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وبَرَکاتُهُ عَلَیْکُمْ أهْلَ البَیْتِ إنَّهُ حَمیدُ مَجید» (هود- 73).
ولأجل ذلک نرى العلّامة السیوطی بعد نقل قول ابن عباس نقل عن مجاهد قوله: إنّ المراد؛ هی بیوت النبی.
و أخرج ابن مردویه عن أنس بن مالک وبریدة أنّه قال: قرأ رسول اللَّه صلى الله علیه وآله وسلم هذه الآیة، فقام إلیه رجل فقال: أیّ بیوت هذه یارسول اللَّه؟
قال: بیوت الأنبیاء، فقام إلیه أبوبکر فقال: یارسول اللَّه هذا البیت منها؟ (یعنی بیت علیّ وفاطمة) قال: نعم من أفاضلها[7]
هذا عن الأمر الأوّل.
وأمّا المراد من الرفع (هو الأمر الثانی) فهو یحتمل أحد معنیین:
أ): أذن اللَّه أن ترفع تلک البیوت بالبناء والعمارة للعبادة التی وردت فی نفس الآیة من ذکر اسمه تعالى فیها، والتسبیح فیها بالغدوّ والآصال.
و یدل على ذلک قوله سبحانه: «وَإذْ یَرْفَعُ إبْراهیمُ القَواعِدَ مِنَ البَیْتِ وإسماعیل» (البقرة- 127).
فالظاهر هو أنّ المراد من «الرفع» فی کلا المقامین واحد، وهو بناؤها وعمارتها- البیوت- وإعلاؤها.
ب): إنّ المراد من الرفع هو تعظیمها وتوقیرها.
فلو کان المراد هو الأوّل لکان نصّاً صریحاً فی المطلوب (وهو البناء على القبور التی فی بیوتهم).
و لو کان المراد الثانی کان نصّاً فی توقیره وتعظیمه وتکریمه، ومن المعلوم أنّ عمارة البیت وصونه عن الخراب بتعمیره وتجدید بنائه، وفرشه بالسجاجید والإسراج فیه وتزیینه بغیر مانهى اللَّه عنه، والدفاع عن قصد تخریبه وهدمه، توقیراً وتعظیماً له کما یکون ستر الکعبة المعظّمة بالأستار الثمینة تعظیماً لها عرفاً.
کل ذلک تکریماً للنبی وتعظیماً له حتى تتحقّق- بها أیضاً- الغایات التی ذکرتها الآیة، (من ذکر اسم اللَّه والتسبیح له بالغدوّ والآصال).
3- البناء على القبور تعظیم للشعائر، وقد قال اللَّه تعالى: «وَ مَنْ یُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإنَّها مِنْ تَقْوَى القُلُوب» (الحج- 32).
والشعائر جمع شعیرة بمعنى العلامة، ولیس المراد منه علائم وجوده سبحانه لأنّ العالَم برمّته علائم وجوده بل علائم دینه، ولأجل ذلک فسّره المفسّرون بمعالم الدین، واللَّه یصف «الصفا والمروة» بأنّهما من شعائر اللَّه إذ یقول: «إنَّ الصَّفا والمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ» (البقرة- 158). ویقول: «والبُدْنَ جَعَلْناها لَکُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ» (الحج- 36). ویقول: «یا أیُّها الَّذینَ آمَنُوا لاتُحِلُّوا شعائِرَ اللَّه» (المائدة- 2). ولیس المراد إلّا کونها علامات دینه ..
فإذا وجب تعظیم شعائر اللَّه بتصریح القرآن معلّلًا بأنّها من تقوى القلوب جاز تعظیم الأنبیاء والأولیاء باعتبارهم أعظم آیة لدین اللَّه وأعظم تعظیم وأفضل تکریم. فهم الذین بلّغوا دین اللَّه إلى البشریة فیکون حفظ قبورهم وأضرحتهم وآثارهم عن الاندراس والاندثار خیر تکریم وتعظیم لهم.
و إن شئت قلت: إنّ تعظیم کل شیء بحسبه، فتعظیم الکعبة یکون بسترها بالأستار، وتعظیم البُدن الذی هو من شعائر اللَّه بالمواظبة على إبلاغها إلى محلّها وترک الرکوب علیها وتعلیفها، وتعظیم الأنبیاء والأولیاء فی حیاتهم بنحو وبعد وفاتهم بنحو آخر.
فکل ما یعدّ تعظیماً وتکریماً یجوز بنص هذه الآیة من غیر شک ولاشبهة.
و ورود الآیة فی مشاعر الحج وشعائره لا یکون دلیلًا على اختصاصها بها فإنّ قوله تعالى «وَمَنْ یُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ» ضابطة کلیة ومبدأ هام، ینطبق على مصادیقه وأفراده وجزئیاته الکثیرة[8]
لا يوجد تعليق