الجواب الاجمالي:
الجواب التفصيلي:
روى مسلم فی صحیحه عن وکیع، عن سفیان عن حبیب بن أبی ثابت، عن أبی وائل، عن أبی الهیاج الأسدی، قال: قال لی علیٌ بن أبی طالب: «ألا أبعثک على ما بَعَثنی علیه رسول اللَّه صلى الله علیه و آله و سلم أن لا تَدَع تمثالًا إلّا طمسته ولا قبراً مُشرفاً إلّا سوَّیته»[1]
و لقد تمسّک النّافی للبناء علی القبور بالجملة الأخیرة ( ولا قبراً مُشرفاً إلّا سوَّیته) و ادّعى أنّ معناه: و لا قبراً عالیاً إلّا سوّیته بالأرض.
والاستدلال بهذا الحدیث باطل، لأنّه ضعیف السند و قاصر الدلالة، و نحن هنا ندرس ضعف الحدیث دلالة:
إنَّ تبیین ضعف دلالة الحدیث یتوقف على توضیح معنى اللفظین الواردین فی الحدیث المذکور:
1- قبراً مشرفاً. 2- إلّا سوّیته.
و أمّا الأوّل فقد قال صاحب القاموس: والشرف- محرَّکةً-: العُلوّ. و من البعیر سنامُه.
و على ذلک فیحتمل أن یراد منه مطلق العُلوّ أو العلوّ الخاصّ کسنام البعیر و لا یتعیّن أحد المعنیین إلّا بالقرینة، کما هو الحال فی المشترک اللفظی.
و أمّا الثانی: أعنی: قوله «سوّیته» فهو یستعمل على وجهین:
أ- یُطلق و یرادُ منه مساواةُ شیء بشیءٍ فیتعدّى إلى المفعول الثانی بحرف التعدیة کالباء، قال سبحانه:«إذْ نُسَوّیکُمْ بِربّ العالَمِین»[2]. أی نعدّ الآلهة المکذوبة متساوین مع ربّ العالمین، فنضیفُ إلیها ما نُضیفُ إلى ربّ العالمین.
وقال سبحانه حاکیاً عن حالِ الکافرین یوم القیامة: « یَومَئِذٍ یَوَدّ الَّذِینَ کَفَرُوا وعَصَوا الرَّسُولَ لَو تُسَوّى بِهمُ الأرض وَلا یَکْتُمونَ اللَّهَ حَدیثاً»[3] أی یَودّون أن یکونوا تراباً أو میتاً مدفوناً تحت الأرض.
ب- یُطلق و یُراد منه ما هو وصفٌ لنفس الشیء لا بملاحظة شیء آخر فیکتفی بمفعول واحد قال سبحانه: «الَّذِی خَلَقَ فَسوّى»[4] و قال سبحانه: «بَلى قادرینَ عَلَى أَنْ نُسَوی بَنانَهُ»[5]، و قال سبحانه: «فَإذا سَوَّیتُهُ وَنَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُوحِی فَقَعوا لَهُ ساجِدین»[6]
ففی هذه الموارد تقع التسویة وصفاً لنفس الشیء بلا إضافة إلى غیره، و یراد منه حسب اختلاف الموارد تارة کمال الخلقة و استقامته فی مقابل نقصه واعوجاجه، وهذا هو المقصود فی الآیات الکریمة، وأُخرى تعدیله مقابل اعوجاجه و بسطه مقابل کونه کالسنام.
إذا عرفت ذلک فلنعد إلى الحدیث و لندرسه فی ضوء هذه الضابطة.
إنّ الذی نلاحظه فی هذا الحدیث هو أنّه استعمل لفظ «التسویة» مع مفعول واحد، فلا یُراد منه المعنى الأوّل أی مُساواته بالأرض، و إلّا کان علیه أن یقول: «سوَّیته بالأرض» بل یُراد منه ما هو وصف لنفس القبر، و المعنى المناسب حینئذ هو تسطیح القبر فی مقابل تسنیمه، و بسطه فی مقابل اعوجاجه و هذا هو الذی فهمه شُرّاح الحدیث، و بما أنَّ السنَّة کانت هی التسطیح، والتسنیم طرأ بعد ذلک، لهذا أمر علیّ علیه السلام بأن تکافح هذه البدعة و یسطَّح کل قبرٍ مسنَّم.
روى أبو داود والحاکم من طریق القاسم بن محمّد بن أبی بکر قال: دخلت على عائشة و قلت لها: یا أُم اکشفی لی عن قبر النبی و صاحبیه، فکشفت لی عن ثلاثة قبور لا مشرفة و لا لاطیة [7]، مفتوحة ببطحاء العرصة الحمراء.
أمّا ما فی صحیح البخاری عن سفیان التمار أنَّه رأى قبر النبیّ مُسنّماً، فلا یعارض ما قدّمناه لأنّ سفیان ولد فی زمان معاویة فلم یر القبر الشریف إلّا فی آخر الأمر فیحتمل- کما قال البیهقی- أنّ القبر لم یکن فی الأوّل مُسنّماً ثم سُنّم عندما سقط الجدار.
و روى یحیى عن عبد اللَّه بن الحسین قال: رأیت قبر النبی مُسنّماً فی زمن الولید بن هشام[8]
و إنّما صار التسنیم بدعة و التسطیح سنّة لأنّ النبیّ لما دفن ابنه إبراهیم سطَّح قبره و لم یُسنّمه[9]
و ممّا یؤیّد أنّ المراد من الإشراف هو العلوُّ الخاصُّ أی کونه کسنام البعیر، و من التسویة بسطُه و تسطیحه، أنَّ صاحب الصحیح عنونَ الباب هکذا: «باب تسویة القبور» ثمّ نقل روایة عن ثمامة أنّه قال:
کنّا مع فضالة بن عبید فی أرض الروم فتوفّی صاحب لنا فأمر فضالة بن عبید بقبره فسوّی، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله علیه و آله و سلم یأمر بتسویته ثمّ أورد بعده حدیث أبی الهیاج المتقدم[10]
و قال القرطبی فی تفسیر الحدیث قال علماؤنا: ظاهر حدیث أبی الهیاج منع تسنیم القبور، و رفعها، و أن تکون واطئة ....
نعم ما ذکره من استفادة عدم کون القبر مرتفعاً فهو مردودٌ بما اتّفق علیه کلمةُ الفقهاء للمذاهب الأربعة فإنَّهم أجمعوا على استحباب رفع القبر بقدرِ شبرٍ[11]
وأظن أنَّ ما ذُکر کافٍ فی تفسیر الحدیث، و من أراد التفصیل فلیرجع إلى إرشاد الساری لابن حجر القسطلانی الجزء الثانی ص468[12]
لا يوجد تعليق