الجواب :
ينبغي علينا أولاً التطرّق الى النصوص القرآنية المشار اليها کاملةً قبل بسط الکلام في معناها وتفسيرها ، وهي کما يلي :
1- )إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ( .
2- )إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(.
3- )إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَکُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى کُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (.
يمکن التصور أول وهلة أن هذه الآيات الشريفة بصدد إثبات أن أتباع تلک الأديان يفلحون برضا الله جلّ وعلا إن هم حافظوا على إيمانهم بالله واليوم الآخر وواظبوا على أداء الأعمال الصالحة ، ما يعني أن أديانهم لم تنسخ بعد حتى مع مجيء الاسلام ، بل کل واحد منها يمثل سبيلاً الى الله تعالى ، وبوسع الانسان سلوک أي واحدٍ من تلک السبل المتعددة ليصل اليه تعالى ولا يتعين عليه اتبّاع شريعة بعينها کالاسلام مثلاً . هذا ما يکرره من لا يمتلک من القرآن إلا معلومات سطحية .
لکن ينبغي الالتفات الى أن أساس تفسير آيةٍ ما لا يبتني على النظر اليها بمفردها وبمعزلٍ عن باقي الآيات القرآنية ، بل لا بدّ من الرجوع الى شأن نزول تلک الآية والأخذ بنظر الاعتبار الآيات السابقة والتالية لها ، بل يجب أخذ کافة الآيات القرآنية بالحسبان .
واذا کان من الصحيح البقاء على الأديان السماوية السابقة للاسلام -ففضلاً عن لغوية تشريع دينٍ جديدٍ باسم الاسلام – تنتفي الغاية من إرسال النبي (ص) مکاتيب الى ملوک زمانه وأمراء عصره وبعث الرسل إليهم لدعوتهم الى الدين الاسلامي الحنيف ، معتبراً دينه ديناً عالمياً وشريعته شريعةً خاتمةً للشرائع .
إن کتب النبي (ص) ودعواته المتواصلة وجهاد المسلمين المضني لأهل الکتاب في عصر النبي (ص) وبعده وما وصلنا من أحاديث مستفيضة عن أئمة أهل البيت (ع) في هذا المجال ، تکشف جميعاً عن أن ظهور الاسلام ختم ما قبله من الأديان ، ولم يعد هناک رسالة سوى الرسالة الاسلامية ونبوة غير نبوة النبي محمد (ص) .
أما الآن فيجب استجلاء الهدف من نزول تلک الآيات القرآنية ، وهي في الحقيقة تبيّن حقيقتين ، الأولى إجمالية والأخرى تفصيلية :
1- إن کان اليهود والنصارى يؤمنون بالله والقيامة حقاً ولا يراؤون في تدينهم ، يلزم عليهم الايمان بنبوة نبي الاسلام النبي محمد (ص) وفقاً لما جاء في کتبهم من توراة وإنجيل وغيرها ؛ لأنها بشّرت بظهوره وذکرت علامات ذلک حتى أنهم صاروا يعرفونه کما يعرفون أبناءهم .
والطريف أن القرآن الکريم أوضح هذه الحقيقة في سورة المائدة قبل الآية المذکورة آنفاً فقال تعالى :
)قُلْ يَا أَهْلَ الْکِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْکُمْ مِنْ رَبِّکُمْ(.
فالمقصود باقامة هذه الکتب السماوية العمل بمحتوياتها ، وأحد محتوياتها نبوة النبي محمد (ص) ورسالته العالمية التي طالما ذکرها القرآن الکريم . ولو کان أولئک يؤمنون بالله واليوم الآخر بحقٍّ لکان عليهم الايمان بالرسالة النبوية التي تعتبر جزءً من التعاليم الالهية في کتب العهدين ، وفي هذه الحالة يصبحون من المسلمين بلا شک ويؤجرون على اتّباعهم تعاليم النبي (ص) .
وباختصار: لا ينفکّ الايمان بالله تعالى واليوم الآخر عن الايمان بالکتب السماوية المساوق للايمان بنبوة خاتم الأنبياء الرسل ؛ ومن يؤمن بذلک يغدو مسلماً ولا يمکنه البقاء على المسيحية .
2- مع الأخذ بنظر الاعتبار الآيات السابقة للآية المذکورة من سورة البقرة يتضح أن هذه الآية تتعلق بتلک الفئة من الناس الذين کانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر في عصر الأنبياء السالفين ويسيرون في ضوء تعاليمهم ، في مقابل من زاغ عن جادّة الصواب وأخذ بعبادة العجل حتى بلغت بهم الجرأة أن يقولوا للنبي موسى (ع) وبکل صراحة : )يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَکَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً( . ونتيجة لهذا السلوک الشائن شملهم الغضب الالهي فقال تعالى :)وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْکَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِکَ بِأَنَّهُمْ کَانُوا يَکْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِکَ بِمَا عَصَوْا وَکَانُوا يَعْتَدُونَ(.
فلأجل أن يبين الله تعالى أن حساب من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً من أهل الکتاب يختلف عن غيرهم وأنهم لاخوف عليهم ولا هم يحزنون أنزل تلک الآيات على نبيه الکريم (ص) .
وفي هذه الحالة لا تشمل الآيات الآنفة من يعيش في عصر الرسالة النبوية ، بل تقتصر على من تتوفر فيه الشروط المذکورة من أهل الکتاب ممن کان موجوداً قبل البعثة النبوية الشريفة .
ومن ناحية أخرى فان شأن نزول الآية يلعب دوراً أکبر في معرفة المراد منها ؛ فبعد نزول القرآن وبعثة نبي الرحمة (ص) تساءل بعض المسلمين عن أجدادهم الذين کانوا يعتنقون ديناً آخر بعد أن علموا أن الاسلام هو الدين الحقّ وطريق النجاة الأوحد !
هنالک نزلت هذه الآية الشريفة لتعلن أن من کان يؤمن بالله واليوم الآخر ونبي زمانه وعمل صالحاً هو من أهل النجاة والفلاح ولا بأس عليه .
لما أسلم سلمان على يدي النبي (ص) تحدث له عن رفاقه من الرهبان في دير الموصل فقال له : کان جميع الرهبان هناک ينتظرون بعثتک لکنهم توفوا قبل وقوعها ، فقال له أحد الحاضرين في المجلس : أولئک من أهل النار . فاغتمّ سلمان من ذلک ، فنزلت تلک الآية الشريفة على النبي (ص) موضحةً أن من آمن بالأديان السابقة ايماناً حقيقياً لا خوف عليه من دخول النار ، وان لم يدرک عصر الرسالة النبوية .
وباختصار : من عاش قبل الاسلام وآمن بالدين الموجود آنذاک ايماناً راسخاً سينجو من أهوال يوم القيامة ، وعليه لا تمتّ الآية بصلةٍ الى القول بأن أتباع کافة الأديان الأخرى سينجون يوم القيامة ، وهکذا تفسير يعکس مدى الجهل بمفاد هذه الآية والآيات الأخرى ذات الصلة .
وبقطع النظر عن کل ذلک ، فان الآية الثالثة (الآية 17 من سورة الحج) لا ترتبط من قريب أو من بعيد بادعاءٍ کهذا ؛ فلا تدلّ على أکثر من أن الله تعالى يفصل بين أتباع الديانات المختلفة يوم القيامة ، ولا دلالة فيه على نجاة معتنقي جميع الأديان إذ ذاک .
------------------------------------