الجواب الاجمالي:
إنّ الشیعة تتّقی السنّیّ فی ظروف خاصة، ویلجأ إلى اتّقاء أخیه المسلم لأسباب لا تخفى، لا
قصور فی الشیعی، بل فی أخیه الذی دفعه إلى ذلک؛ لأنّه یدرک أنّ الفتک والقتل مصیره إذا صرّح بمعتقده الذی هو موافق لأُصول الشرع الإسلامی وعقائده
الجواب التفصيلي:
إذ ابتُلی المسلم بأخیه المسلم الذی یخالفه فی بعض الفروع ولا یتردّد الطرف القوی عن إیذاء الطرف الآخر، کأن ینکّل به أو ینهب أمواله أو یقتله، ففی تلک الظروف الحرجة یحکم العقل السلیم بصیانة النفس والنفیس عن طریق کتمان العقیدة واستعمال التقیة، ولو کان هناک وزر إنّما یتوجّه على من یُتّقى منه لا على المتّقی .
فلو سادت الحرّیة جمیع الفرق الإسلامیة، وتحمّلت کلّ فرقة آراء الفرقة الأُخرى بصدر رحب، وفهمت بأنّ ذلک هو قدر اجتهادها، لم یضطرّ أحد من المسلمین إلى استخدام التقیّة، ولساد الوئام مکان النزاع.
تدلّ علی جواز التّقیّة من المسلم آیات من القرآن التی تدلّ علی جواز التقیّة لإنقاذ المؤمن من شرّ عدوّه الکافر، لأنّ مورد الآیات وإن کان هو اتّقاء المسلم من الکافر، ولکن المورد لیس بمخصّص لحکم الآیة فقط، إذ لیس الغرض من تشریع التقیّة عند الابتلاء بالکفّار إلّاصیانة النفس والنفیس من الشرّ(1)
وقد فهم ذلک لفیف من العلماء وصرّحوا به، وإلیک نصوص بعضهم:
1- یقول الإمام الرازی فی تفسیر قوله سبحانه: «إلّا أن تتّقوا منهم تقاة»(2) ظاهر الآیة على أنّ التقیة إنّما تحلّ مع الکفّار الغالبین، إلّا أنّ مذهب الشافعی- رضی الله عنه -: أنّ الحالة بین المسلمین إذا شاکلت الحالة بین المسلمین والکافرین حلّت التقیّة محاماة عن النفس.
وقال: التقیّة جائزة لصون النفس، وهل هی جائزة لصون المال؟ یحتمل أن یحکم فیها بالجواز لقوله صلى الله علیه وآله: «حرمة مال المسلم کحرمة دمه» وقوله صلى الله علیه وآله: «من قتل دون ماله فهو شهید»(3)
2- ینقل جمال الدین القاسمی عن الإمام مرتضى الیمانی فی کتابه «إیثار الحقّ على الخلق» ما هذا نصه: «وزاد الحق غموضاً وخفاءً أمران: أحدهما: خوف العارفین- مع قلّتهم- من علماء السوء وسلاطین الجور وشیاطین الخلق مع جواز التقیّة عند ذلک بنصّ القرآن، وإجماع أهل الإسلام، وما زال الخوف مانعاً من إظهار الحقّ، ولا برح المحقّ عدوّاً لأکثر الخلق، وقد صحّ عن أبی هریرة - رضی الله عنه - أنّه قال فی ذلک العصر الأوّل: «حفظت من رسول الله صلى الله علیه وآله وعاءین، أمّا أحدهما فبثثته فی الناس، وأمّا الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم»(4)
3- وقال المراغی فی تفسیر قوله سبحانه: «مَنْ کَفَرَ بِالله مِنْ بَعْدِ إِیمَانِهِ إلَّامَنْ أُکْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإیمَان»(5): ویدخل فی التقیة مداراة الکفرة والظلمة والفسقة، وإلانة الکلام لهم، والتبسّم فی وجوههم، وبذل المال لهم؛ لکفّ أذاهم وصیانة العرض منهم، ولا یعدّ هذا من الموالاة المنهیّ عنها، بل هو مشروع، فقد أخرج الطبرانی قوله صلى الله علیه وآله: «ما وَقَى المؤمن به عرضَه فهو صدقة»(6)
فتخصیص التقیة بالتقیة من الکافر فحسب جمود على ظاهر الآیة وسدّ لباب الفهم، ورفض للملاک الذی شُرّعت لأجله التقیة، وإعدام لحکم العقل القاضی بحفظ الأهمّ إذا عارض المهمّ.
والتاریخ بین أیدینا یحدّثنا بوضوح عن لجوء جملة معروفة من کبار المسلمین إلى التقیة فی ظروف عصیبة أوشکت أن تودی بحیاتهم وبما یملکون، وخیر مثال على ذلک ما أورده الطبری فی تاریخه(7) عن محاولة المأمون دفع وجوه القضاة والمحدّثین فی زمانه إلى الإقرار بخلق القرآن قسراً حتّى وإن استلزم ذلک قتل الجمیع دون رحمة، ولمّا أبصر أُولئک المحدِّثون حد السیف مشهراً عمدوا إلى مصانعة المأمون فی دعواه وأسرّوا معتقدهم فی صدورهم، ولمّا عوتبوا على ما ذهبوا إلیه من موافقة المأمون، برّروا عملهم بعمل عمّار بن یاسر حین أُکره على الشرک وقلبه مطمئنّ بالإیمان، والقصّة شهیرة وصریحة فی جواز اللجوء إلى التقیة التی دأب البعض على التشنیع فیها على الشیعة؛ وکأنّهم هم الذین ابتدعوها من بنات أفکارهم دون أن تکون لها قواعد وأُصول إسلامیة ثابتة ومعلومة.
والحاصل:
إنّ الشیعة تتّقی السنّیّ فی ظروف خاصة، ویلجأ إلى اتّقاء أخیه المسلم لأسباب لا تخفى.
لا قصور فی الشیعی، بل فی أخیه الذی دفعه إلى ذلک؛ لأنّه یدرک أنّ الفتک والقتل مصیره إذا صرّح بمعتقده الذی هو موافق لأُصول الشرع الإسلامی وعقائده، نعم کان الشیعی وإلى وقت قریب یتحاشى أن یقول: إنّ اللَّه لیس له جهة، أو إنّه تعالى لا یُرى یوم القیامة، وإنّ المرجعیة العلمیة والسیاسیة لأهل البیت بعد رحیل النبیّ الأکرم، أو إنّ حکم المتعة غیر منسوخ؛ فإنّ الشیعی إذا صرّح بهذه الحقائق- الّتی ستنبطت من الکتاب والسنّة- سوف یُعرّض نفسه ونفیسه للمهالک والمخاطر. وقد مرّ علیک کلام الرازی وجمال الدین القاسمی والمراغی الصریح فی جواز هذا النوع من التقیة.
هذا ابن الرومی الشاعر العبقری یقول فی قصیدته التی یرثی بها یحیى بن عمر ابن الحسین بن زید بن علی:
أکلّ أو انٍ للنبیّ محمّد قتیل زکیّ بالدماء مضرّجُ
بنی المصطفى کم یأکل الناس شلوکم لبلواکم عمّا قلیل مفرِّجُ
أبعد المکنّى بالحسین شهیدکم تضیء مصابیح السماء فتسرجُ(8)
فإذا کان هذا هو حال أبناء الرسول، فما هو حال شیعتهم ومقتفی آثارهم؟!
نعم کانت التقیة بین الشیعة تزداد تارة وتتضاءل أُخرى، حسب قوّة الضغط وضآلته، فشتّان ما بین عصر المأمون الذی یجیز مادحی أهل البیت، ویکرم العلویین، وبین عصر المتوکّل الذی یقطع لسان ذاکرهم بفضیلة.
فهذا ابن السکّیت أحد أعلام الأدب فی زمن المتوکّل، وقد اختاره معلّماً لولدیه فسأله یوماً: أیّهما أحبُّ إلیک ابنای هذان أم الحسن والحسین؟ قال ابن السکّیت: والله إنّ قنبر خادم علیّ علیه السلام خیر منک ومن ابنیک. فقال المتوکل: سلّوا لسانه من قفاه، ففعلوا ذلک به فمات. وذلک فی لیلة الاثنین لخمس خلون من رجب سنة أربع وأربعین ومائتین، وقیل ثلاث وأربعین، وکان عمره ثمانیاً وخمسین سنة. ولمّا مات سیَّر المتوکل لولده یوسف عشرة آلاف درهم وقال: هذه دیة والدک!!(9)
فلو کان الأخ السنّی یرى التقیة أمراً محرّماً فلیعمل على رفع الضغط عن أخیه الشیعی، وأن لا یضیق علیه فی الحرّیة التی سمح بها الإسلام لأبنائه، ولیعذره فی عقیدته وعمله کما عذر أُناساً کثیراً خالفوا الکتاب والسنّة وأراقوا الدماء ونهبوا الدور، فکیف بطائفة تدین بدینه وتتّفق معه فی کثیر من معتقداته؟ وإذا کان معاویة وأبناء بیته والعباسیون کلّهم عنده مجتهدین فی بطشهم وإراقة دماء مخالفیهم، فماذا یمنعه عن إعذار الشیعة باعتبارهم مجتهدین؟
وإذا کانوا یقولون- وذاک هو العجیب - إنّ الخروج على الإمام علیّ علیه السلام غیر مضرّ بعدالة الخارجین والثائرین علیه، وفی مقدّمتهم طلحة والزبیر وأُمّ المؤمنین عائشة، وإنّ إثارة الفتن فی صفّین- التی انتهت إلى قتل کثیر من الصحابة والتابعین، وإراقة دماء الآلاف من العراقیین والشامیین- لا تنقص شیئاً من ورع المحاربین، وهم بعد ذلک مجتهدون معذورون لهم ثواب من اجتهد وأخطأ، فلم لا یتعامل مع الشیعة ضمن هذا الفهم، ویذهب إلى أنّهم معذورون ومثابون!!
قال العلّامة الشهرستانی: إنّ التقیة شعار کلّ ضعیف مسلوب الحریة. إنّ الشیعة قد اشتهرت بالتقیة أکثر من غیرها؛ لأنّها منیت باستمرار الضغط علیها أکثر من أیة أُمّة أُخرى، فکانت مسلوبة الحریّة فی عهد الدولة الأُمویة کلّه، وفی عهد العباسیین على طوله، وفی أکثر أیام الدولة العثمانیة، ولأجله استشعروا بشعار التقیة أکثر من أیّ قوم، ولمّا کانت الشیعة تختلف عن الطوائف المخالفة لها فی قسم مهمّ من الاعتقادات فی أُصول الدین، وفی کثیر من الأحکام الفقهیّة، والمخالفة تستجلب بالطبع رقابة، وتصدّقه التجارب، لذلک أضحت شیعة الأئمة من آل البیت مضطرة فی أکثر الأحیان إلى کتمان ما تختصّ به من عادة أو عقیدة أو فتوى أو کتاب أو غیر ذلک، تبتغی بهذا الکتمان صیانة النفس والنفیس، والمحافظة على الوداد والأُخوّة مع سائر إخوانهم المسلمین، لئلا تنشق عصا الطاعة، ولکی لا یحسّ الکفار بوجود اختلاف ما فی المجتمع الإسلامی، فیوسع الخلاف بین الأُمّة المحمّدیة(10)
لهذه الغایات النزیهة کانت الشیعة تستعمل التقیّة وتحافظ على وفاقها فی الظواهر مع الطوائف الأُخرى، متّبعة فی ذلک سیرة الأئمة من آلمحمّد وأحکامهم الصارمة حول وجوب التقیة من قبیل: «التقیة دینی ودین آبائی»، إذ أنّ دین الله یمشی على سنّة التقیة لمسلوبی الحریة، دلّت على ذلک آیات من القرآن العظیم(11)
روی عن صادق آل البیت علیهم السلام فی الأثر الصحیح: «التقیة دینی ودین آبائی» و«من لا تقیة له لا دین له» وکذلک هی(12)
لقد کانت التقیة شعاراً لآل البیت علیهم السلام دفعاً للضرر عنهم، وعن أتباعهم، وحقناً لدمائهم، واستصلاحاً لحال المسلمین، وجمعاً لکلمتهم، ولمّاً لشعثهم، وما زالت سمة تُعرف بها الإمامیة دون غیرها من الطوائف والأُمم. وکلّ إنسان إذا أحسّ بالخطر على نفسه، أو ماله بسبب نشر معتقده، أو التظاهر به لابدّ أن یتکتّم ویتّقی مواضع الخطر. وهذا أمر تقتضیه فطرة العقول.
ومن المعلوم أنّ الإمامیة وأئمتهم لاقوا من ضروب المحن، وصنوف الضیق على حرّیاتهم فی جمیع العهود ما لم تلاقه أیّة طائفة، أو أُمّة أُخرى، فاضطرّوا فی أکثر عهودهم إلى استعمال التقیة فی تعاملهم مع المخالفین لهم، وترک مظاهرتهم، وستر عقائدهم، وأعمالهم المختصّة بهم عنهم، لما کان یعقب ذلک من الضرر فی الدنیا.
و لهذا السبب امتازوا بالتقیة وعرفوا بها دون سواهم(13)
فلو سادت الحرّیة جمیع الفرق الإسلامیة، وتحمّلت کلّ فرقة آراء الفرقة الأُخرى بصدر رحب، وفهمت بأنّ ذلک هو قدر اجتهادها، لم یضطرّ أحد من المسلمین إلى استخدام التقیّة، ولساد الوئام مکان النزاع.
تدلّ علی جواز التّقیّة من المسلم آیات من القرآن التی تدلّ علی جواز التقیّة لإنقاذ المؤمن من شرّ عدوّه الکافر، لأنّ مورد الآیات وإن کان هو اتّقاء المسلم من الکافر، ولکن المورد لیس بمخصّص لحکم الآیة فقط، إذ لیس الغرض من تشریع التقیّة عند الابتلاء بالکفّار إلّاصیانة النفس والنفیس من الشرّ(1)
وقد فهم ذلک لفیف من العلماء وصرّحوا به، وإلیک نصوص بعضهم:
1- یقول الإمام الرازی فی تفسیر قوله سبحانه: «إلّا أن تتّقوا منهم تقاة»(2) ظاهر الآیة على أنّ التقیة إنّما تحلّ مع الکفّار الغالبین، إلّا أنّ مذهب الشافعی- رضی الله عنه -: أنّ الحالة بین المسلمین إذا شاکلت الحالة بین المسلمین والکافرین حلّت التقیّة محاماة عن النفس.
وقال: التقیّة جائزة لصون النفس، وهل هی جائزة لصون المال؟ یحتمل أن یحکم فیها بالجواز لقوله صلى الله علیه وآله: «حرمة مال المسلم کحرمة دمه» وقوله صلى الله علیه وآله: «من قتل دون ماله فهو شهید»(3)
2- ینقل جمال الدین القاسمی عن الإمام مرتضى الیمانی فی کتابه «إیثار الحقّ على الخلق» ما هذا نصه: «وزاد الحق غموضاً وخفاءً أمران: أحدهما: خوف العارفین- مع قلّتهم- من علماء السوء وسلاطین الجور وشیاطین الخلق مع جواز التقیّة عند ذلک بنصّ القرآن، وإجماع أهل الإسلام، وما زال الخوف مانعاً من إظهار الحقّ، ولا برح المحقّ عدوّاً لأکثر الخلق، وقد صحّ عن أبی هریرة - رضی الله عنه - أنّه قال فی ذلک العصر الأوّل: «حفظت من رسول الله صلى الله علیه وآله وعاءین، أمّا أحدهما فبثثته فی الناس، وأمّا الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم»(4)
3- وقال المراغی فی تفسیر قوله سبحانه: «مَنْ کَفَرَ بِالله مِنْ بَعْدِ إِیمَانِهِ إلَّامَنْ أُکْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإیمَان»(5): ویدخل فی التقیة مداراة الکفرة والظلمة والفسقة، وإلانة الکلام لهم، والتبسّم فی وجوههم، وبذل المال لهم؛ لکفّ أذاهم وصیانة العرض منهم، ولا یعدّ هذا من الموالاة المنهیّ عنها، بل هو مشروع، فقد أخرج الطبرانی قوله صلى الله علیه وآله: «ما وَقَى المؤمن به عرضَه فهو صدقة»(6)
فتخصیص التقیة بالتقیة من الکافر فحسب جمود على ظاهر الآیة وسدّ لباب الفهم، ورفض للملاک الذی شُرّعت لأجله التقیة، وإعدام لحکم العقل القاضی بحفظ الأهمّ إذا عارض المهمّ.
والتاریخ بین أیدینا یحدّثنا بوضوح عن لجوء جملة معروفة من کبار المسلمین إلى التقیة فی ظروف عصیبة أوشکت أن تودی بحیاتهم وبما یملکون، وخیر مثال على ذلک ما أورده الطبری فی تاریخه(7) عن محاولة المأمون دفع وجوه القضاة والمحدّثین فی زمانه إلى الإقرار بخلق القرآن قسراً حتّى وإن استلزم ذلک قتل الجمیع دون رحمة، ولمّا أبصر أُولئک المحدِّثون حد السیف مشهراً عمدوا إلى مصانعة المأمون فی دعواه وأسرّوا معتقدهم فی صدورهم، ولمّا عوتبوا على ما ذهبوا إلیه من موافقة المأمون، برّروا عملهم بعمل عمّار بن یاسر حین أُکره على الشرک وقلبه مطمئنّ بالإیمان، والقصّة شهیرة وصریحة فی جواز اللجوء إلى التقیة التی دأب البعض على التشنیع فیها على الشیعة؛ وکأنّهم هم الذین ابتدعوها من بنات أفکارهم دون أن تکون لها قواعد وأُصول إسلامیة ثابتة ومعلومة.
والحاصل:
إنّ الشیعة تتّقی السنّیّ فی ظروف خاصة، ویلجأ إلى اتّقاء أخیه المسلم لأسباب لا تخفى.
لا قصور فی الشیعی، بل فی أخیه الذی دفعه إلى ذلک؛ لأنّه یدرک أنّ الفتک والقتل مصیره إذا صرّح بمعتقده الذی هو موافق لأُصول الشرع الإسلامی وعقائده، نعم کان الشیعی وإلى وقت قریب یتحاشى أن یقول: إنّ اللَّه لیس له جهة، أو إنّه تعالى لا یُرى یوم القیامة، وإنّ المرجعیة العلمیة والسیاسیة لأهل البیت بعد رحیل النبیّ الأکرم، أو إنّ حکم المتعة غیر منسوخ؛ فإنّ الشیعی إذا صرّح بهذه الحقائق- الّتی ستنبطت من الکتاب والسنّة- سوف یُعرّض نفسه ونفیسه للمهالک والمخاطر. وقد مرّ علیک کلام الرازی وجمال الدین القاسمی والمراغی الصریح فی جواز هذا النوع من التقیة.
هذا ابن الرومی الشاعر العبقری یقول فی قصیدته التی یرثی بها یحیى بن عمر ابن الحسین بن زید بن علی:
أکلّ أو انٍ للنبیّ محمّد قتیل زکیّ بالدماء مضرّجُ
بنی المصطفى کم یأکل الناس شلوکم لبلواکم عمّا قلیل مفرِّجُ
أبعد المکنّى بالحسین شهیدکم تضیء مصابیح السماء فتسرجُ(8)
فإذا کان هذا هو حال أبناء الرسول، فما هو حال شیعتهم ومقتفی آثارهم؟!
نعم کانت التقیة بین الشیعة تزداد تارة وتتضاءل أُخرى، حسب قوّة الضغط وضآلته، فشتّان ما بین عصر المأمون الذی یجیز مادحی أهل البیت، ویکرم العلویین، وبین عصر المتوکّل الذی یقطع لسان ذاکرهم بفضیلة.
فهذا ابن السکّیت أحد أعلام الأدب فی زمن المتوکّل، وقد اختاره معلّماً لولدیه فسأله یوماً: أیّهما أحبُّ إلیک ابنای هذان أم الحسن والحسین؟ قال ابن السکّیت: والله إنّ قنبر خادم علیّ علیه السلام خیر منک ومن ابنیک. فقال المتوکل: سلّوا لسانه من قفاه، ففعلوا ذلک به فمات. وذلک فی لیلة الاثنین لخمس خلون من رجب سنة أربع وأربعین ومائتین، وقیل ثلاث وأربعین، وکان عمره ثمانیاً وخمسین سنة. ولمّا مات سیَّر المتوکل لولده یوسف عشرة آلاف درهم وقال: هذه دیة والدک!!(9)
فلو کان الأخ السنّی یرى التقیة أمراً محرّماً فلیعمل على رفع الضغط عن أخیه الشیعی، وأن لا یضیق علیه فی الحرّیة التی سمح بها الإسلام لأبنائه، ولیعذره فی عقیدته وعمله کما عذر أُناساً کثیراً خالفوا الکتاب والسنّة وأراقوا الدماء ونهبوا الدور، فکیف بطائفة تدین بدینه وتتّفق معه فی کثیر من معتقداته؟ وإذا کان معاویة وأبناء بیته والعباسیون کلّهم عنده مجتهدین فی بطشهم وإراقة دماء مخالفیهم، فماذا یمنعه عن إعذار الشیعة باعتبارهم مجتهدین؟
وإذا کانوا یقولون- وذاک هو العجیب - إنّ الخروج على الإمام علیّ علیه السلام غیر مضرّ بعدالة الخارجین والثائرین علیه، وفی مقدّمتهم طلحة والزبیر وأُمّ المؤمنین عائشة، وإنّ إثارة الفتن فی صفّین- التی انتهت إلى قتل کثیر من الصحابة والتابعین، وإراقة دماء الآلاف من العراقیین والشامیین- لا تنقص شیئاً من ورع المحاربین، وهم بعد ذلک مجتهدون معذورون لهم ثواب من اجتهد وأخطأ، فلم لا یتعامل مع الشیعة ضمن هذا الفهم، ویذهب إلى أنّهم معذورون ومثابون!!
قال العلّامة الشهرستانی: إنّ التقیة شعار کلّ ضعیف مسلوب الحریة. إنّ الشیعة قد اشتهرت بالتقیة أکثر من غیرها؛ لأنّها منیت باستمرار الضغط علیها أکثر من أیة أُمّة أُخرى، فکانت مسلوبة الحریّة فی عهد الدولة الأُمویة کلّه، وفی عهد العباسیین على طوله، وفی أکثر أیام الدولة العثمانیة، ولأجله استشعروا بشعار التقیة أکثر من أیّ قوم، ولمّا کانت الشیعة تختلف عن الطوائف المخالفة لها فی قسم مهمّ من الاعتقادات فی أُصول الدین، وفی کثیر من الأحکام الفقهیّة، والمخالفة تستجلب بالطبع رقابة، وتصدّقه التجارب، لذلک أضحت شیعة الأئمة من آل البیت مضطرة فی أکثر الأحیان إلى کتمان ما تختصّ به من عادة أو عقیدة أو فتوى أو کتاب أو غیر ذلک، تبتغی بهذا الکتمان صیانة النفس والنفیس، والمحافظة على الوداد والأُخوّة مع سائر إخوانهم المسلمین، لئلا تنشق عصا الطاعة، ولکی لا یحسّ الکفار بوجود اختلاف ما فی المجتمع الإسلامی، فیوسع الخلاف بین الأُمّة المحمّدیة(10)
لهذه الغایات النزیهة کانت الشیعة تستعمل التقیّة وتحافظ على وفاقها فی الظواهر مع الطوائف الأُخرى، متّبعة فی ذلک سیرة الأئمة من آلمحمّد وأحکامهم الصارمة حول وجوب التقیة من قبیل: «التقیة دینی ودین آبائی»، إذ أنّ دین الله یمشی على سنّة التقیة لمسلوبی الحریة، دلّت على ذلک آیات من القرآن العظیم(11)
روی عن صادق آل البیت علیهم السلام فی الأثر الصحیح: «التقیة دینی ودین آبائی» و«من لا تقیة له لا دین له» وکذلک هی(12)
لقد کانت التقیة شعاراً لآل البیت علیهم السلام دفعاً للضرر عنهم، وعن أتباعهم، وحقناً لدمائهم، واستصلاحاً لحال المسلمین، وجمعاً لکلمتهم، ولمّاً لشعثهم، وما زالت سمة تُعرف بها الإمامیة دون غیرها من الطوائف والأُمم. وکلّ إنسان إذا أحسّ بالخطر على نفسه، أو ماله بسبب نشر معتقده، أو التظاهر به لابدّ أن یتکتّم ویتّقی مواضع الخطر. وهذا أمر تقتضیه فطرة العقول.
ومن المعلوم أنّ الإمامیة وأئمتهم لاقوا من ضروب المحن، وصنوف الضیق على حرّیاتهم فی جمیع العهود ما لم تلاقه أیّة طائفة، أو أُمّة أُخرى، فاضطرّوا فی أکثر عهودهم إلى استعمال التقیة فی تعاملهم مع المخالفین لهم، وترک مظاهرتهم، وستر عقائدهم، وأعمالهم المختصّة بهم عنهم، لما کان یعقب ذلک من الضرر فی الدنیا.
و لهذا السبب امتازوا بالتقیة وعرفوا بها دون سواهم(13)
لا يوجد تعليق