الجواب الاجمالي:
تعتبر هذه الخطبة من أهم خطب نهج البلاغة حيث تتعرض بجميع نصوصها إلى مسألة الخلافة بعد رحيل الرسول الأكرم والمشاكل التي أفرزها عصر الخلفاء ممن سبقوه ثم يتطرق صراحة إلى أحقيته بالخلافة من الجميع معربا عن أسفه وابتئاسه لخروج الخلافة عن محورها الأصلي الذي خطط له الإسلام والنبي.
الجواب التفصيلي:
هى خطبة، أوردها الامام علي عليه السلام أواخر عمره الشريف بعيد موقعة الجمل وصفين والنهروان حين قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين(1) وتشتمل على الشكوى من أمر الخلافة ثم ترجيح صبره عنها ثم مبايعة الناس له.
تعتبر هذه الخطبة من أهم خطب نهج البلاغة حيث تتعرض بجميع نصوصها إلى مسألة الخلافة بعد رحيل الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله والمشاكل التي أفرزها عصر الخلفاء ممن سبقوه ثم يتطرق صراحة إلى أحقيته بالخلافة من الجميع معربا عن أسفه وابتئاسه لخروج الخلافة عن محورها الأصلي الذي خطط له الإسلام والنبي.
فقال عليه السلام: «أما والله لقد تقمّصها ابن أبی قحافة، وإنَّه لیعلم أنَّ محلّی منها محلُّ القطب من الرحى، ینحدر عنّی السیل، ولا یرقى إلیَّ الطیر، فسدلْتُ دونها ثوباً، وطویتُ عنها کشحاً، وطَفِقْتُ أَرْتَئی بین أن أَصُولَ بِیَد جذّاء، أو أَصْبِرَ على طِخْیَة عمیاء، یَهْرَمُ فیها الکبیر، ویشیب فیها الصغیر، ویَکْدَحُ فیها مؤمن حتّى یلقى ربَّه، فرأیتُ أنَّ الصبر على هاتا أحجى، فصبرتُ وفی العین قذى، وفی الحلق شجى، أرى تُراثی نَهْباً»
فقد إستهل الإمام عليه السلام الخطبة بشكواه ممّا آلت إليه الخلافة فقال: «أما والله لقد تقمصها فلان وإنّه ليعلم أنّ محلي منها محل القطب من الرحا».
لا شك ولا إشكال في أنّ الضمير في «تقمصها» يعود إلى الخلافة، ولعل التعبير بالقميص إشارة إلى أمر وهو أنّ فلاناً قد استغل مسألة الخلافة كقميص يزين به نفسه، والحال أنّ هذه الرحا تتطلب محوراً قوياً يحفظ نظامها في الحركة ويحول دون إنحراف مسارها وتعثر بفعل المطبات التي تواجهها وتسيرها بما يضمن مصالح الإسلام والمسلمين.
ثم أشار الإمام علي عليه السلام إلى عهد الخليفة الثاني فقال:«حتّى مضى الأوّلُ لسبیله فأدلى بها إلى ابن الخطّاب بعده.
(ثمّ تمثّل بقول الأعشى) : شتّان ما یومی على کُورِها *** و یومُ حیّانَ أخی جابِر
فیا عجباً یستقیلها فی حیاته إذ عقدها لآخر بعد وفاته، لشَدَّ ما تشطّرا ضَرْعَیْها، فصیّرها فی حوزة خَشْناء یغلُظُ کلمها، ویَخْشُنُ مسُّها، ویکثر العثار فیها والاعتذار منها، فصاحبُها کراکِبِ الصَعْبة، إن أَشْنَقَ لها خَرَمَ، وإن أسْلَسَ لها تقحَّم، فمُنِىَ الناسُ ـ لَعَمْرُ الله ـ بِخَبْط وشِمَاس، وتَلَوُّن واعتراض، فصبرتُ على طول المدّة، وشدّةِ المحنة».
المراد بالحوزة هنا أخلاق الخليفة الثاني وصفاته فالواقع قد ذكر له أربعة صفات؛ الاولى خشونته وعنفه التي عبر عنها بقوله «يغلظ كلمها» في إشارة إلى الجروح الروحية والجسمية التي يفرزها الاصطدام به. الصفة الثانية الشدة في التعامل «و يخشن مسها» وعليه فالحوزة الخشناء قد فسرت بالعبارتين اللاحقتين التين أشارتا إلى العنف في الكلام والعنف في المعاملة. الصفة الثالثة هى كثرة الأخطاء والرابعة الاعتذار من تلك الأخطاء «و يكثر العثار فيها الاعتذار منها».
ثم أشار الإمام عليه السلام إلى انتهاء عصر الخليفة الثاني والأحداث التي مهدت السبيل أمام عثمان للاستيلاء على الخلافة بعد أن أماط اللثام عن التفاصيل التاريخية والأسرار التي إنطوت عليها هذه القضية ويعلن موقفه من ذلك، ثم عرج على المشاكل والفتن التي عاشتها الامّة الإسلامية على عهد عثمان والانتفاضة الشعبية العارمة التي أدت إلى قتله بعبارات مقتضبة عميقة المعنى من خلال الكنايات والاستعارات والتشبيهات البلاغية الرائعة التي طبعت كلماته وخطبه عليه السلام فقال:« حتّى إذا مضى لسبیله جعلها فی جماعة زعم أنّی أحدهم فیا لِلّه ولِلشورى، متى اعْتَرَضَ الریبُ فِیَّ مع الأوّل منهم حتّى صرتُ اُقْرَنُ إلى هذه النظائر، لکنِّی أسْفَفْتَ إذْ أَسَفُّوا، وطِرْتُ إذا طاروا، فَصَغَى رجلٌ منهم لِضِغْنِه، ومَالَ الآخَرُ لِصِهْرِه مع هَن وهَن، إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حِضْنَیْه بین نَثِیلِهِ ومُعْتَلَفِهِ، وقام معه بَنُو أبیه یَخْضِمُون مالَ الله خَضْمَةَ الإبل نِبْتَةَ الربیع، إلى أن انْتَکَثَ فَتْلُهُ، وأَجْهَزَ علیه عملُه، وکَبَتْ به بِطْنَتُه . . .»(2).
فقد قال عليه السلام: «حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم».
و لعل قوله عليه السلام «زعم أني أحدهم» تشير إلى معنيين: الأول: أنّه جعلني ظاهرياً أحد أعضاء هذه الشورى بينما كان يعلم باطنياً بالنتيجة التي ستتمخض عنها ومن يفوز بالأمر. الثاني: أنّه أراد أن يجعلني ظاهرياً في مصاف هؤلاء الخمسة، والحال كان يعلم باطنياً عدم إمكانية مقارنتي بأي منهم(3)
ثم أشار عليه السلام إلى نتيجة تلك الشورى وأعمالها المريية حيث تحرك أحدهم بدافع من حقده وضغينته (هو سعد بن أبي وقاص الذي كان ينتمي من طرف أمه إلى بني أمية وقد قتل أخواله وأقربائه على يد علي عليه السلام في المعارك الإسلامية ضد الكفر والشرك، ولذلك لم يكن مستعداً لمبايعة علي عليه السلام حتى في خلافته. و عمر بن سعد ذلك المجرم الجبار الذي قتل الحسين عليه السلام وصحبة في كربلاء هو ابنه)، بينما إندفع الآخر بوحي من قرابته ونسبه (هو عبدالرحمن بن عوف زوج ام كلثوم بنت عثمان) لينتهي الأمر إلى عثمان.
أمّا التعبير بنبتة الربيع للإشارة إلى أنّها نبتة سائغة وطعمة سهلة للحيوان فيتناولها بكل شره ووله. والعبارة «يخضمون مال الله ...»- وبالالتفات إلى المعنى اللغوي لخضم- تفيد أنّ بني امية قد اقتحمت الميدان بكل ثقلها لتنهب بيت المال فتبتلع منه ما شاءت. وقال ابن أبي الحديد(4):« لقد سلط الخليفة الثالث- عثمان- بني امية على رقاب الناس وأغدق عليهم الأموال فقد أعطى عبد الله بن خالد أربعمأة ألف درهم، وأعطى عبدالله بن أبي سرح جميع ما أفاء الله عليه من فتح افريقية بالمغرب، وأعطى أبا سفيان بن حرب مائتي ألف من بيت المال، واعطى الحارث بن الحكم- زوج بنت، عائشة- مائة ألف من بيت المال، واعطى طلحه ثلاثمأة واثنين وعشرين ألف، والزبير خمسمأة وثمانية وتسعين دينارا، حتى بلغ ما أغدقه من بيت المال مئة وستة وعشرين مليون وسبعمأة دينار. و الأعجب من ذلك، الدنانير التي أغدقها على بني أمية فقد منح مروان بن الحكم خمسمأة الف دينار، ويعلي بن امية خمسمأة الف دينار، وعبد الرحمن بن عوف مليونين وخمسمأة وستين الف دينار والمجموع أربعة ملايين وثلاثمأئة وعشرة دنانير.» وهنا يتضح عمق المعنى لقوله عليه السلام: «يخضمون مال الله خضمة الابل نبتة الربيع». وبالطبع فان هذا الوضع لم يكن ليستمر لمدّة طويلة حيث لا يسع المسلمون تحمل مثل هذه الظروف ولذلك لم تمض مدّة حتى انطلقت تلك النهضة ضد عثمان لتطيح به في خاتمة المطاف وتقتله بمرأى ومسمع من الامّة دون أن يهب أحد من المسلمين لنصرته وهذا بعينه ما أشار إليه الإمام عليه السلام حين قال: «إلى أن انتكث عليه فتله(5) وأجهز(6) عليه عمله، وكبت به بطنته»(7)
لا يوجد تعليق