الجواب الاجمالي:
أنّ القرآن الکریم یأمر جمیع السائرین فی درب الحقّ أن یتدبّروا ویتأمّلوا کثیراً فی أسرار عالم الوجود وما فیه من عجائب الخلق، حيث یتبیّن لنا من خلال التدقیق فی هذا النظام، هو إدراک طبیعة الانسجام العظیم بین مختلف جوانب الوجود، بالإضافة إلى خلوه من کلّ نقص وعیب وخلل. إنّ لهذه الآیات دلالة واضحة على دقّة النظام الکونی، حیث معناها أنّ وجود النظام فی کلّ شیء دلیل على وجود العلم والقدرة على خلق ذلک الشیء.
الجواب التفصيلي:
یتناول القرآن المجید فی الآیتین 3ـ4 من سورة «الملک»، النظام الکلّی للعالم، وتدعو الإنسان إلى التأمّل فی عالم الوجود، والتهیّؤ لمخاض الامتحان الکبیر عن طریق التدبّر فی آیات هذا الکون العظیم،و یقول تعالى: (الذی خلق سبع سماوات طباقاً).
ثمّ یضیف سبحانه: (ما ترى فی خلق الرحمن من تفاوت).
إنّ الآیة أعلاه تبیّن لنا أنّ عالم الوجود ـ بکلّ ما یحیطه من العظمة ـ قائم وفق نظام مستحکم، وقوانین منسجمة، ومقادیر محسوبة، ودقّة متناهیة، ولو وقع أی خلل فی جزء من هذا العالم الفسیح لأدّى إلى دماره وفنائه.
وهذه الدقّة المتناهیة، والنظام المحیّر، والخلق العجیب، یتجسّد لنا فی کلّ شیء، ابتداء من الذرّة الصغیرة وما تحویه من الإلکترونات والنیوترونات والبروتونات، وانتهاءً بالنظم الحاکمة على جمیع المنظومة الشمسیة والمنظومات الاُخرى، کالمجرّات وغیرها... إذ إنّ جمیع ذلک یخضع لسیطرة قوانین متناهیة فی الدقّة، ویسیر وفق نظام خاصّ.
وخلاصة القول أنّ کلّ شیء فی الوجود له قانون وبرنامج، وکلّ شیء له نظام محسوب.
ثمّ یضیف تعالى مؤکّداً: (فارجع البصر هل ترى من فطور).
«فطور» من مادّة (فطر)، على وزن (سطر) بمعنى الشقّ من الطول، کما تأتی بمعنى الکسر (کإفطار الصیام) والخلل والإفساد، وقد جاءت بهذا المعنى فی الآیة مورد البحث.
ویقصد بذلک أنّ الإنسان کلّما دقّق وتدبّر فی عالم الخلق والوجود، فإنّه لا یستطیع أن یرى أی خلل أو اضطراب فیه.
لذا یضیف سبحانه مؤکّداً هذا المعنى فی الآیة اللاحقة حیث یقول: (ثمّ ارجع البصر کرّتین ینقلب إلیک البصر خاسئاً وهو حسیر).
«کرّتین» من مادّة (کر) على وزن (شرّ) بمعنى التوجّه والرجوع إلى شیء معیّن، و(کرّة) بمعنى التکرار و(کرّتین) مثنّاها.
إلاّ أنّ بعض المفسّرین ذکر أنّ المقصود من الـ (کرّتین) هنا لیس التثنیة، بل الالتفات والتوجّه المتکرّر المتعاقب والمتعدّد.
وبناءً على هذا فإنّ القرآن الکریم یأمر الناس فی هذه الآیات أن یتطلّعوا ویتأمّلوا ویدقّقوا النظر فی عالم الوجود ثلاث مرّات ـ کحدّ أدنى ـ ویتدبّروا أسرار الخلق، وبمعنى آخر فإنّ على الإنسان أن یدقّق فی خلق الله سبحانه مرّات ومرّات، وعندما لا یجد أی خلل أو نقص فی هذا النظام العجیب والمحیّر لخلق الکون، فإنّ ذلک سیؤدّی إلى معرفة خالق هذا الوجود العظیم ومدى علمه وقدرته اللامتناهیة، ممّا یؤدّی إلى عمق الإیمان به سبحانه والقرب من حضرته المقدّسة.
وعلى کلّ حال فیمکن إستنتاج أساسین من الآیات المتقدّمة:
الأوّل: أنّ القرآن الکریم یأمر جمیع السائرین فی درب الحقّ أن یتدبّروا ویتأمّلوا کثیراً فی أسرار عالم الوجود وما فیه من عجائب الخلق، وأن لا یکتفوا بالنظر إلى هذه المخلوقات مرّة واحدة أو مرّتین، حیث إنّ هنالک أسراراً کثیرة وعظیمة لا تتجلّى ولا تظهر من خلال النظرة الاُولى أو الثانیة، بل تستدعی النظر الثاقب والمتعاقب والدقّة الکثیرة، حتى تتّضح الأسرار وتتبیّن الحقائق.
الأمر الثّانی: الذی یتبیّن لنا من خلال التدقیق فی هذا النظام، هو إدراک طبیعة الانسجام العظیم بین مختلف جوانب الوجود، بالإضافة إلى خلوه من کلّ نقص وعیب وخلل.
وإذا ما لوحظ فی النظرة الأوّلیة لبعض الظواهر الموجودة فی هذا العالم (کالزلازل والسیول، والأمراض، والکوارث الطبیعیة الاُخرى، والتی تصیب البشر أحیاناً فی حیاتهم) واعتبرت شروراً وآفات وفساداً، فإنّه من خلال الدراسات والتدقیقات المتأمّلة یتبیّن لنا أنّ هذه الاُمور هی الاُخرى تمثّل أسراراً أساسیة غایة فی الدقّة(1).
إنّ لهذه الآیات دلالة واضحة على دقّة النظام الکونی، حیث معناها أنّ وجود النظام فی کلّ شیء دلیل على وجود العلم والقدرة على خلق ذلک الشیء، وإلاّ، فإنّ حصول حوادث عشوائیة غیر محسوبة لا یمکن أبداً أن تکون منطلقاً للنظام ومبدأ للحساب.
لا يوجد تعليق