الجواب الاجمالي:
لا يمكن أن يكون المراد بالإرادة في الآية هي الإرادة التشريعية, لأنّها تنص على قوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ)، وإنّما تفيد الحصر والقصر.
والمعنى: إنّ الله طلب من أهل البيت(ع) فقط أن يكونوا كذلك, وإذا كانت الإرادة تشريعية، فلا معنى لأن يكون طلب الطهارة والتنزه عن الرجس مختصاً بأهل البيت(ع) ومحصوراً بهم دون غيرهم, فالله سبحانه وتعالى أنزل الشريعة الإسلامية لا لكي يتطهّر أهل البيت(ع) وحدهم, ويتنزهوا عن الرجس دون سواهم, وإنّما لكي يتطهّر المسلمون جميعاً دون غيرهم، ويتنزه كلّ من بلغه هذا الدين.
ولو حملنا الإرادة على التشريع فسيكون الحصر في غير محله, ولا يلائم الآية المباركة أساساً, وبذلك لايمكن أن تكون الإرادة في الآية تشريعية، وإنّما هي إرادة تكوينية
الجواب التفصيلي:
إنّ الإرادة فی جملة: (إنّما یرید الله لیذهب عنکم الرجس) إرادة تکوینیة لا تشریعیة.
ولمزید التوضیح ینبغی أن نذکّر بأنّ المراد من «الإرادة التشریعیة» هی أوامر الله ونواهیه، فنعلم مثلا أنّ الله سبحانه یرید منّا أداء الصلاة والصوم والحجّ والجهاد، وهذه إرادة تشریعیة، ومن المعلوم أنّ الإرادة التشریعیة تتعلّق بأفعالنا لا بأفعال الله عزّوجلّ. فی حین أنّ الآیة أعلاه تتعلّق بأفعال الله سبحانه، فهی تقول: إنّ الله أراد أن یذهب عنکم الرجس، وبناءً على هذا فإنّ مثل هذه الإرادة یجب أن تکون تکوینیة، ومرتبطة بإرادة الله سبحانه فی عالم التکوین.
إضافةً إلى ذلک، فإنّ مسألة الإرادة التشریعیة فیما یتعلّق بالتقوى والعفّة لا تنحصر بأهل البیت(علیهم السلام)، لأنّ الله قد أمر الجمیع بالتقوى والتطهّر من الذنوب، وبذلک لا تکون لهم مزیّة وخاصیّة، لأنّ کلّ المکلّفین مشمولون بهذا الأمر.
وعلى أیّة حال، فإنّ هذا الموضوع ـ أی الإرادة التشریعیّة ـ مضافاً إلى أنّه لا یناسب ظاهر الآیة، فانّه لا یتناسب مع الأحادیث السابقة بأیّ وجه من الوجوه، لأنّ کلّ تلک الأحادیث تتحدّث عن فضیلة سامیة وهبة مهمّة خاصّة بأهل البیت(علیهم السلام).
ومن المسلّم أیضاً أنّ «الرجس» هنا لا یعنی الرجس الظاهری، بل هو إشارة إلى الأرجاس الباطنیة، وإطلاق هذه الکلمة ینفی انحصارها وکونها محدودة بالشرک والکفر والأعمال المنافیة للعفّة وأمثال ذلک، فإنّها تشمل کلّ الذنوب والمعاصی والمفاسد العقائدیة والأخلاقیة والعملیة.
والمسألة الاُخرى التی ینبغی الإلتفات إلیها بدقّة هی أنّ الإرادة التکوینیة التی تعنی الخلقة والإیجاد، تعنی هنا «المقتضی» لا العلّة التامّة لتکون موجبة للجبر وسلب الاختیار.
وتوضیح ذلک، إنّ مقام العصمة یعنی حالة تقوى الله التی توجد عند الأنبیاء والأئمّة بمعونة الله سبحانه، لکن وجود هذه الحالة لا یعنی أنّهم غیر قادرین على إرتکاب المعصیة، بل إنّهم قادرون على إتیانها، غیر أنّهم یعفّون أنفسهم ویجلّونها عن التلوّث بها باختیارهم، ویغضّون الطرف عنها طوعاً، تماماً کالطبیب الحاذق الذی لا یتناول مطلقاً مادّة سمّیة جدّاً وهو یعلم بالأخطار التی تنجم عن تناولها، ومع أنّه قادر على تناولها، إلاّ أنّ علومه واطلاعه ومبادئه الفکریة والروحیة تدفعه إلى الإمتناع إرادیاً واختیاراً عن هذا العمل.
ویجب التذکیر بهذه المسألة، وهی أنّ هذه التقوى موهبة خاصّة منحت للأنبیاء لا للآخرین، لکن الله سبحانه قد منحهم إیّاها للمسؤولیات الثقیلة الخطیرة الملقاة على عاتقهم فی قیادة الناس وإرشادهم، وبناءً على هذا فإنّه إمتیاز یعود نفعه على الجمیع، وهذه عین العدالة، تماماً کالإمتیاز الخاصّ الذی منحه الله لطبقات العین وأغشیتها الرقیقة والحسّاسة جدّاً، والتی یستفید منها جمیع البدن.
إضافةً إلى أنّ الأنبیاء تعظم مسؤولیاتهم وواجباتهم بنفس المقدار الذی یتمتّعون بهذا المواهب الإلهیّة والإمتیازات، فإنّ ترک الاُولى من قبلهم یعادل ذنباً کبیراً یصدر من الناس العادیین، وهذا معیار وتشخیص لخطّ العدالة.
والنتیجة أنّ هذه الإرادة إرادة تکوینیة فی حدود المقتضى ـ ولیست علّة تامّة ـ وهی فی الوقت نفسه لا توجب الجبر ولا تسلب الاختیار والإرادة الإنسانیة(1)
لا يوجد تعليق