الجواب الاجمالي:
إنّ الصحبة تكون ذات مزيّة إذا كانت في طاعة الله ورسوله(ص)، فالعدول والانحراف عن الخطّ السليم الذي رسمه الرسول الأعظم(ص) للأمّة بالنسبة لإمامة أمير المؤمنين(ع) هو: نوع من التراجع والارتداد عن منهج الرسالة في تطبيق أوامره ونواهيه(ص), وهذا هو معنى الروايات الواردة في مصادرنا الخاصّة في هذا المجال.
وأمّا ما يثار في حقّ الشيعة بأنّهم يقولون بارتداد كلّ الصحابة, فهذا إفك وبهتان عظيم, كيف وهم يلتزمون بالولاء لأفضل الصحابة، وهو: عليّ(ع) وأهل بيته, وأيضاً يعظّمون ويبجّلون بعضهم، أمثال سلمان وأبي ذر وعمّار والمقداد، وغيرهم.
نعم, هم يعتقدون - وفقاً للأدلّة العقلية والنقلية - بعدول بعض منهم عن خطّ الرسالة بعد ارتحال النبيّ(ص)؛ فإن ورد لفظ ردّة وارتداد لبعض الصحابة في روايات ومصادر الشيعة, فإنّما هو ارتداد عن الولاية والإمامة لأمير المؤمنين(ع)، لا ارتداد عن الإسلام.
وأمّا ما يثار في حقّ الشيعة بأنّهم يقولون بارتداد كلّ الصحابة, فهذا إفك وبهتان عظيم, كيف وهم يلتزمون بالولاء لأفضل الصحابة، وهو: عليّ(ع) وأهل بيته, وأيضاً يعظّمون ويبجّلون بعضهم، أمثال سلمان وأبي ذر وعمّار والمقداد، وغيرهم.
نعم, هم يعتقدون - وفقاً للأدلّة العقلية والنقلية - بعدول بعض منهم عن خطّ الرسالة بعد ارتحال النبيّ(ص)؛ فإن ورد لفظ ردّة وارتداد لبعض الصحابة في روايات ومصادر الشيعة, فإنّما هو ارتداد عن الولاية والإمامة لأمير المؤمنين(ع)، لا ارتداد عن الإسلام.
الجواب التفصيلي:
لمّا کان الکتاب والسنّة هما المصدرین الرئیسیین عند المسلمین جمیعاً، والشیعة منهم، وبهدی نورهما یسترشد فی استشراف الحقائق الثابتة التی لا غبار علیها، فإنّ التأمل فی هذین المصدرین الغدقین یبیّن مدى فضل الصحابة ومنزلتهم فی الإسلام.
ولعلّ المتأمل فی الکتاب والسنّة یجد مدى ما یحفى به الصحابة الصادقون من ثناء وتکریم، ومن تلا آیات الذکر الحکیم حول المهاجرین والذین اتّبعوهم بإحسان، لا یملک نفسه إلّاأن یغبط منزلتهم وعلوّ شأنهم، بل ویتمنّى من صمیم قلبه أن یکون أحدهم ویدرک شأنهم، ومن استمع للآیات النازلة فی الذین بایعوا رسول اللَّه صلى الله علیه وآله تحت الشجرة أو أصحاب سورة الفتح(1) فلا بد أن تفیض عیناه دمعاً ویرتعش قلبه شوقاً نحو تلک الثلّة المؤمنة التی صدقت ما عاهدت اللَّه علیه ورسوله صلى الله علیه وآله.
فإذا کان هذا حال الصحابة فی الذکر الحکیم فکیف یتجرّأ مسلم على تکفیر الصحابة ورمیهم بالردّة والزندقة أو تفسیقهم اکثرا ؟ «سبحانک هذا بهتان عظیم».
وکیف یستطیع أن یصوّر دعوة النبیّ صلى الله علیه وآله ضئیلة الفائدة أو یتّهمه بعدم النجاح فی هدایة قومه وإرشاد أُمّته، وأنّه لم یؤمن به إلّا شرذمة قلیلة لا یتجاوزون عدد الأصابع، وأنّ ما سواهم کانوا بین منافق ستر کفره بالتظاهر بالإیمان، أو مرتدّ على عقبیه القهقرى بعد رحلة النبیّ الأکرم صلى الله علیه وآله.
کیف یجوز لمسلم أن یصف دعوته ویقول: إنّه لم یهتد ولم یثبت على الإسلام بعد مرور(23) عاماً من الدعوة إلّا ثلاثة أو سبعة أو عشرة. إنّ هذا لیس إلّا هراء وکذب رخیص لا تقبله العقول.
والأنکى من ذلک کلّه أن یُرمى الشیعة بهذا التقوّل الممجوج، وأن تجد من یصدّق ذلک ویرتّب على أساسه مواقف وآراء، وإنّا نسأل أُولئک عن هذا فنقول لهم: أیّ شیعی واع ادّعى ذلک؟ ومتى قال؟ وأین ذکره؟ إنّ الشیعة بریئة من هذه التخرّصات، وما هذه الحکایات السقیمة إلّا جزءاً من الدعایات الفارغة ضدّ الشیعة والتی أثارها الأمویّون فی أعصارهم، لیسقطوا الشیعة من عیون المسلمین، وتلقّفتها أقلام المستأجرین لتمزیق الوحدة الإسلامیة، وفصم عرى الأُخوّة.
نعم وردت روایات فی ذلک، ولکنّها لا تکون مصدراً للعقیدة، ولا تتّخذ مقیاساً لها؛ لأنّها روایات آحاد لا تفید علماً فی مجال العقائد، وستوافیک دراسة متونها وأسانیدها(2)
فقد روی أبو عمرو الکشّی روایة من انّ : «ارتدّ الناس بعد رسول اللَّه صلى الله علیه وآله إلّا ثلاثة»؟ إذ لو صحّ ما ذکر، وجب الالتزام بأنّ النبیّ الأکرم صلى الله علیه وآله لم ینجح فی دعوته، ولم یتخرّج من مدرسته إلّا قلائل لا یعتدّ بهم فی مقابل ما ضحّى به من النفس والنفیس.
والإجابة عن الروایة واضحة لمن تفحّص عنها سنداً ومتناً؛ فإنّ ما رواه لا یتجاوز(من حیث الطرق)السبع روایات؛ وهی بین ضعیف لا یعوّل علیه، وموثّق- حسب اصطلاح علماء الإمامیة فی تصنیف الأحادیث- وصحیح قابلین للتأویل، ولا یدلّان على الارتداد عن الدین، والخروج عن الإسلام بل یرمیان إلى أمر آخر.
أمّا الضعیف فهو ما رواه الکشّی عن حمدویه وإبراهیم ابنی نصیر قال: حدّثنا محمّد بن عثمان، عن حنّان بن سدیر، عن أبیه، عن أبی جعفر علیه السلام قال: «کان الناس أهل الردّة بعد النبیّ صلى الله علیه وآله إلّا ثلاثة...»(3)
وکفى فی ضعفها وجود محمّد بن عثمان فی سندها؛ وهو من المجاهیل.
ما رواه أیضاً عن علیّ بن الحکم، عن سیف بن عمیرة، عن أبی بکر الحضرمی قال: قال أبو جعفر علیه السلام: «ارتدّ الناس إلّا ثلاثة نفر: سلمان، وأبو ذر، والمقداد»(4)
وکفى فی ضعفها أنّ الکشّی من أعلام القرن الرابع الهجری القمری، فلا یصحّ أن یروی عن علیّ بن الحکم، سواء أکان المراد منه الأنباری الراوی عن ابن عمیرة المتوفّى عام (217 ه) أو کان المراد الزبیری الذی عدّه الشیخ من أصحاب الرضا علیه السلام المتوفّى عام 203هـ.
وما نقله أیضاً عن حمدویه بن نصیر قال: حدّثنی محمّد بن عیسى ومحمّد بن مسعود قال: حدّثنا جبرئیل بن أحمد قال: حدثنا محمّد بن عیسى، عن النضر بن سوید، عن محمّد بن البشیر، عمّن حدثه قال: «ما بقی أحد إلّا وقد جال جولة إلّا المقداد بن الأسود؛ فإنّ قلبه کان مثل زبر الحدید»(5)
والروایة ضعیفة بجبرئیل بن أحمد؛ فإنّه مجهول کما أنّها مرسلة فی آخرها.
وأمّا الروایات الباقیة فالموثّق عبارة عمّا ورد فی سنده علیّ بن الحسن الفضال، والثلاثة الباقیة صحیحة، ومن أراد الوقوف على أسنادها ومتونها فلیرجع إلى رجال الکشّی(6)
ومع ذلک کلّه فإنّ هذه الروایات لا یحتجّ بها أبداً لجهات عدیدة نشیر إلى بعض منها:
1- کیف یمکن أن یقال إنّه ارتدّ الناس بعد رسول اللَّه صلى الله علیه وآله ولم یبق إلّا ثلاثة تمسّکوا بولایة علیّ ولم یعدلوا عنها، مع أنّ ابن قتیبة والطبری رویا أنّ جماعة من بنی هاشم وغیرهم تحصَّنوا فی بیت علی معترضین على ما آل إلیه أمر السقیفة، ولم یترکوا بیت الإمام إلّا بعد التهدید والوعید وإضرام النار أمام البیت. وهذا یدلّ على أنّه کان هناک جماعة مخلصون بقوا أوفیاء لما تعهّدوا به فی حیاة النبیّ (صلى الله علیه وآله)،
وإلیک نصّ التاریخ: قال ابن قتیبة: إنّ بنی هاشم اجتمعت عند بیعة الأنصار إلى علیّ بن أبی طالب، ومعهم الزبیر ابن العوّام(7)
وقال فی موضع آخر: إنّ أبا بکر- رضی اللَّه عنه- تفقّد قوماً تخلَّفوا عن بیعته عند علیّ- کرّم اللَّه وجهه- فبعث إلیهم عمر فجاء فناداهم وهم فی دار علیّ، فأبوا أن یخرجوا، فدعا بالحطب وقال: والذی نفس عمر بیده لتخرجنّ أو لأحرقنّها على من فیها، فقیل له: یا أبا حفص إنّ فیها فاطمة، فقال: وإن...(8)
روى الطبری: قال: أتى عمر بن الخطاب منزل علیّ وفیه طلحة والزبیر ورجال من المهاجرین فقال: واللَّه لأُحرقنّ علیکم أو لتخرجنّ إلى البیعة، فخرج علیه الزبیر مصلتاً بالسیف فعثر فسقط السیف من یده فوثبوا علیه فأخذوه(9)
وقال ابن واضح الأخباری: وتخلّف عن بیعة أبی بکر قوم من المهاجرین والأنصار ومالوا مع علیّ بن أبی طالب، منهم: العبّاس بن عبد المطلب، والفضل بن العبّاس، والزبیر بن العوّام بن العاص، وخالد بن سعید، والمقداد بن عمرو، وسلمان الفارسی، وأبوذر الغفاری، وعمّار بن یاسر، والبراء بن عازب، وأُبی بن کعب. فأرسل أبو بکر إلى عمر بن الخطاب وأبی عبیدة بن الجراح والمغیرة بن شعبة فقال: ما الرأی؟ قالوا: الرأی أن تلقى العباس بن عبد المطلب فتجعل له فی هذا الأمر نصیباً...(10)
کلّ ذلک یشهد على أنّه کان هناک أُمّة بقوا على ما کانوا علیه، فی عصر الرسول الأعظم صلى الله علیه وآله، ولم یغترّوا بانثیال الأکثریة إلى غیر من کان الحقّ یدور مداره. وکیف یمکن ادّعاء الردّة لعامة الصحابة إلّا القلیل.
2- کیف یمکن أن یقال: ارتدّ الناس إلّا ثلاثة مع أنّ الصدوق- رضی اللَّه عنه- ذکر عدّة من المنکرین للخلافة فی أوائل الأمر وقد بلغ عددهم اثنا عشر رجلًا من المهاجرین والأنصار وهم: خالد بن سعید بن العاص، والمقداد بن الأسود، وأُبی ابن کعب، وعمّار بن یاسر، وأبوذر الغفاری، وسلمان الفارسی، وعبد اللَّه بن مسعود، وبریدة الأسلمی، وخزیمة بن ثابت ذو الشهادتین، وسهل بن حنیف، وأبو أیّوب الأنصاری، وأبو هیثم بن التیهان وغیرهم. ثمّ ذکر اعتراضاتهم على مسألة الخلافة واحداً بعد واحد(11)
3- إنّ وجود الاضطراب والاختلاف فی عدد من استثناهم الإمام یورث الشکّ فی صحّتها، ففی بعضها «إلّا ثلاثة» وفی البعض الآخر «إلّا سبعة» وفی ثالث «إلّا ستة» فإنّ التعارض وإن کان یمکن رفعه بالحمل على اختلافهم فی درجات الإیمان غیر أنّه على کلّ تقدیر یوهن الروایة.
4- کیف یمکن إنکار إیمان أعلام من الصحابة مع اتّفاق کلمة الشیعة والسنّة على علوّ شأنهم، أمثال: بلال الحبشی، وحجر بن عدی، وأُویس القرنی، ومالک ابن نویرة المقتول ظلماً على ید خالد بن الولید، والعبّاس بن عبد المطلب وابنه حبر الأُمّة وعشرات من أمثالهم، وقد عرفت أسماء المتخلّفین عن بیعة أبی بکر فی کلام الیعقوبی، أضف إلى ذلک أنّ رجال البیت الهاشمی کانوا على خطّ الإمام ولم یتخلّفوا عنه، وإنّما غمدوا سیوفهم اقتداءً بالإمام لمصلحة عالیة ذکرها فی بعض کلماته(12)
وأقصى ما یمکن أن یقال فی حقّ هذه الروایات هو أنّه لیس المراد من الارتداد، الکفر والضلال والرجوع إلى الجاهلیة، وإنّما المراد عدم الوفاء بالعهد الذی أُخذ منهم فی غیر واحد من المواقف وأهمّها غدیر خم.
ویؤیّد ذلک: ما رواه وهب بن حفص، عن أبی بصیر، عن أبی جعفر علیه السلام: جاء المهاجرون والأنصار وغیرهم بعد ذلک(13) إلى علیّ علیه السلام فقالوا له: أنت واللَّه أمیر المؤمنین وأنت واللَّه أحقّ الناس وأولاهم بالنبیّ صلى الله علیه وآله هلمّ یدک نبایعک فواللَّه لنموتنّ قدامک.
فقال علیّ علیه السلام: إن کنتم صادقین فاغدوا غداً علیّ محلّقین. فحلق أمیر المؤمنین وحلق سلمان وحلق المقداد وحلق أبو ذر ولم یحلق غیرهم(14)
وهذه الروایة قرینة واضحة على أنّ المراد هو نصرة الإمام علیه السلام لأخذ الحق المغتصب، فیکون المراد من الردّة هو عدم القتال معه.
وممّا یؤیّد ذلک أیضاً الروایة التی جاء فیها أنّ قلب المقداد بن الأسود کزبر الحدید؛ فهی وإن کانت ضعیفة السند لکنّ فیها إشعاراً على ذلک؛ لأنّ وصف قلب المقداد إشارة إلى إرادته القویّة وثباته فی سبیل استرداد الخلافة(15)
ولعلّ المتأمل فی الکتاب والسنّة یجد مدى ما یحفى به الصحابة الصادقون من ثناء وتکریم، ومن تلا آیات الذکر الحکیم حول المهاجرین والذین اتّبعوهم بإحسان، لا یملک نفسه إلّاأن یغبط منزلتهم وعلوّ شأنهم، بل ویتمنّى من صمیم قلبه أن یکون أحدهم ویدرک شأنهم، ومن استمع للآیات النازلة فی الذین بایعوا رسول اللَّه صلى الله علیه وآله تحت الشجرة أو أصحاب سورة الفتح(1) فلا بد أن تفیض عیناه دمعاً ویرتعش قلبه شوقاً نحو تلک الثلّة المؤمنة التی صدقت ما عاهدت اللَّه علیه ورسوله صلى الله علیه وآله.
فإذا کان هذا حال الصحابة فی الذکر الحکیم فکیف یتجرّأ مسلم على تکفیر الصحابة ورمیهم بالردّة والزندقة أو تفسیقهم اکثرا ؟ «سبحانک هذا بهتان عظیم».
وکیف یستطیع أن یصوّر دعوة النبیّ صلى الله علیه وآله ضئیلة الفائدة أو یتّهمه بعدم النجاح فی هدایة قومه وإرشاد أُمّته، وأنّه لم یؤمن به إلّا شرذمة قلیلة لا یتجاوزون عدد الأصابع، وأنّ ما سواهم کانوا بین منافق ستر کفره بالتظاهر بالإیمان، أو مرتدّ على عقبیه القهقرى بعد رحلة النبیّ الأکرم صلى الله علیه وآله.
کیف یجوز لمسلم أن یصف دعوته ویقول: إنّه لم یهتد ولم یثبت على الإسلام بعد مرور(23) عاماً من الدعوة إلّا ثلاثة أو سبعة أو عشرة. إنّ هذا لیس إلّا هراء وکذب رخیص لا تقبله العقول.
والأنکى من ذلک کلّه أن یُرمى الشیعة بهذا التقوّل الممجوج، وأن تجد من یصدّق ذلک ویرتّب على أساسه مواقف وآراء، وإنّا نسأل أُولئک عن هذا فنقول لهم: أیّ شیعی واع ادّعى ذلک؟ ومتى قال؟ وأین ذکره؟ إنّ الشیعة بریئة من هذه التخرّصات، وما هذه الحکایات السقیمة إلّا جزءاً من الدعایات الفارغة ضدّ الشیعة والتی أثارها الأمویّون فی أعصارهم، لیسقطوا الشیعة من عیون المسلمین، وتلقّفتها أقلام المستأجرین لتمزیق الوحدة الإسلامیة، وفصم عرى الأُخوّة.
نعم وردت روایات فی ذلک، ولکنّها لا تکون مصدراً للعقیدة، ولا تتّخذ مقیاساً لها؛ لأنّها روایات آحاد لا تفید علماً فی مجال العقائد، وستوافیک دراسة متونها وأسانیدها(2)
فقد روی أبو عمرو الکشّی روایة من انّ : «ارتدّ الناس بعد رسول اللَّه صلى الله علیه وآله إلّا ثلاثة»؟ إذ لو صحّ ما ذکر، وجب الالتزام بأنّ النبیّ الأکرم صلى الله علیه وآله لم ینجح فی دعوته، ولم یتخرّج من مدرسته إلّا قلائل لا یعتدّ بهم فی مقابل ما ضحّى به من النفس والنفیس.
والإجابة عن الروایة واضحة لمن تفحّص عنها سنداً ومتناً؛ فإنّ ما رواه لا یتجاوز(من حیث الطرق)السبع روایات؛ وهی بین ضعیف لا یعوّل علیه، وموثّق- حسب اصطلاح علماء الإمامیة فی تصنیف الأحادیث- وصحیح قابلین للتأویل، ولا یدلّان على الارتداد عن الدین، والخروج عن الإسلام بل یرمیان إلى أمر آخر.
أمّا الضعیف فهو ما رواه الکشّی عن حمدویه وإبراهیم ابنی نصیر قال: حدّثنا محمّد بن عثمان، عن حنّان بن سدیر، عن أبیه، عن أبی جعفر علیه السلام قال: «کان الناس أهل الردّة بعد النبیّ صلى الله علیه وآله إلّا ثلاثة...»(3)
وکفى فی ضعفها وجود محمّد بن عثمان فی سندها؛ وهو من المجاهیل.
ما رواه أیضاً عن علیّ بن الحکم، عن سیف بن عمیرة، عن أبی بکر الحضرمی قال: قال أبو جعفر علیه السلام: «ارتدّ الناس إلّا ثلاثة نفر: سلمان، وأبو ذر، والمقداد»(4)
وکفى فی ضعفها أنّ الکشّی من أعلام القرن الرابع الهجری القمری، فلا یصحّ أن یروی عن علیّ بن الحکم، سواء أکان المراد منه الأنباری الراوی عن ابن عمیرة المتوفّى عام (217 ه) أو کان المراد الزبیری الذی عدّه الشیخ من أصحاب الرضا علیه السلام المتوفّى عام 203هـ.
وما نقله أیضاً عن حمدویه بن نصیر قال: حدّثنی محمّد بن عیسى ومحمّد بن مسعود قال: حدّثنا جبرئیل بن أحمد قال: حدثنا محمّد بن عیسى، عن النضر بن سوید، عن محمّد بن البشیر، عمّن حدثه قال: «ما بقی أحد إلّا وقد جال جولة إلّا المقداد بن الأسود؛ فإنّ قلبه کان مثل زبر الحدید»(5)
والروایة ضعیفة بجبرئیل بن أحمد؛ فإنّه مجهول کما أنّها مرسلة فی آخرها.
وأمّا الروایات الباقیة فالموثّق عبارة عمّا ورد فی سنده علیّ بن الحسن الفضال، والثلاثة الباقیة صحیحة، ومن أراد الوقوف على أسنادها ومتونها فلیرجع إلى رجال الکشّی(6)
ومع ذلک کلّه فإنّ هذه الروایات لا یحتجّ بها أبداً لجهات عدیدة نشیر إلى بعض منها:
1- کیف یمکن أن یقال إنّه ارتدّ الناس بعد رسول اللَّه صلى الله علیه وآله ولم یبق إلّا ثلاثة تمسّکوا بولایة علیّ ولم یعدلوا عنها، مع أنّ ابن قتیبة والطبری رویا أنّ جماعة من بنی هاشم وغیرهم تحصَّنوا فی بیت علی معترضین على ما آل إلیه أمر السقیفة، ولم یترکوا بیت الإمام إلّا بعد التهدید والوعید وإضرام النار أمام البیت. وهذا یدلّ على أنّه کان هناک جماعة مخلصون بقوا أوفیاء لما تعهّدوا به فی حیاة النبیّ (صلى الله علیه وآله)،
وإلیک نصّ التاریخ: قال ابن قتیبة: إنّ بنی هاشم اجتمعت عند بیعة الأنصار إلى علیّ بن أبی طالب، ومعهم الزبیر ابن العوّام(7)
وقال فی موضع آخر: إنّ أبا بکر- رضی اللَّه عنه- تفقّد قوماً تخلَّفوا عن بیعته عند علیّ- کرّم اللَّه وجهه- فبعث إلیهم عمر فجاء فناداهم وهم فی دار علیّ، فأبوا أن یخرجوا، فدعا بالحطب وقال: والذی نفس عمر بیده لتخرجنّ أو لأحرقنّها على من فیها، فقیل له: یا أبا حفص إنّ فیها فاطمة، فقال: وإن...(8)
روى الطبری: قال: أتى عمر بن الخطاب منزل علیّ وفیه طلحة والزبیر ورجال من المهاجرین فقال: واللَّه لأُحرقنّ علیکم أو لتخرجنّ إلى البیعة، فخرج علیه الزبیر مصلتاً بالسیف فعثر فسقط السیف من یده فوثبوا علیه فأخذوه(9)
وقال ابن واضح الأخباری: وتخلّف عن بیعة أبی بکر قوم من المهاجرین والأنصار ومالوا مع علیّ بن أبی طالب، منهم: العبّاس بن عبد المطلب، والفضل بن العبّاس، والزبیر بن العوّام بن العاص، وخالد بن سعید، والمقداد بن عمرو، وسلمان الفارسی، وأبوذر الغفاری، وعمّار بن یاسر، والبراء بن عازب، وأُبی بن کعب. فأرسل أبو بکر إلى عمر بن الخطاب وأبی عبیدة بن الجراح والمغیرة بن شعبة فقال: ما الرأی؟ قالوا: الرأی أن تلقى العباس بن عبد المطلب فتجعل له فی هذا الأمر نصیباً...(10)
کلّ ذلک یشهد على أنّه کان هناک أُمّة بقوا على ما کانوا علیه، فی عصر الرسول الأعظم صلى الله علیه وآله، ولم یغترّوا بانثیال الأکثریة إلى غیر من کان الحقّ یدور مداره. وکیف یمکن ادّعاء الردّة لعامة الصحابة إلّا القلیل.
2- کیف یمکن أن یقال: ارتدّ الناس إلّا ثلاثة مع أنّ الصدوق- رضی اللَّه عنه- ذکر عدّة من المنکرین للخلافة فی أوائل الأمر وقد بلغ عددهم اثنا عشر رجلًا من المهاجرین والأنصار وهم: خالد بن سعید بن العاص، والمقداد بن الأسود، وأُبی ابن کعب، وعمّار بن یاسر، وأبوذر الغفاری، وسلمان الفارسی، وعبد اللَّه بن مسعود، وبریدة الأسلمی، وخزیمة بن ثابت ذو الشهادتین، وسهل بن حنیف، وأبو أیّوب الأنصاری، وأبو هیثم بن التیهان وغیرهم. ثمّ ذکر اعتراضاتهم على مسألة الخلافة واحداً بعد واحد(11)
3- إنّ وجود الاضطراب والاختلاف فی عدد من استثناهم الإمام یورث الشکّ فی صحّتها، ففی بعضها «إلّا ثلاثة» وفی البعض الآخر «إلّا سبعة» وفی ثالث «إلّا ستة» فإنّ التعارض وإن کان یمکن رفعه بالحمل على اختلافهم فی درجات الإیمان غیر أنّه على کلّ تقدیر یوهن الروایة.
4- کیف یمکن إنکار إیمان أعلام من الصحابة مع اتّفاق کلمة الشیعة والسنّة على علوّ شأنهم، أمثال: بلال الحبشی، وحجر بن عدی، وأُویس القرنی، ومالک ابن نویرة المقتول ظلماً على ید خالد بن الولید، والعبّاس بن عبد المطلب وابنه حبر الأُمّة وعشرات من أمثالهم، وقد عرفت أسماء المتخلّفین عن بیعة أبی بکر فی کلام الیعقوبی، أضف إلى ذلک أنّ رجال البیت الهاشمی کانوا على خطّ الإمام ولم یتخلّفوا عنه، وإنّما غمدوا سیوفهم اقتداءً بالإمام لمصلحة عالیة ذکرها فی بعض کلماته(12)
وأقصى ما یمکن أن یقال فی حقّ هذه الروایات هو أنّه لیس المراد من الارتداد، الکفر والضلال والرجوع إلى الجاهلیة، وإنّما المراد عدم الوفاء بالعهد الذی أُخذ منهم فی غیر واحد من المواقف وأهمّها غدیر خم.
ویؤیّد ذلک: ما رواه وهب بن حفص، عن أبی بصیر، عن أبی جعفر علیه السلام: جاء المهاجرون والأنصار وغیرهم بعد ذلک(13) إلى علیّ علیه السلام فقالوا له: أنت واللَّه أمیر المؤمنین وأنت واللَّه أحقّ الناس وأولاهم بالنبیّ صلى الله علیه وآله هلمّ یدک نبایعک فواللَّه لنموتنّ قدامک.
فقال علیّ علیه السلام: إن کنتم صادقین فاغدوا غداً علیّ محلّقین. فحلق أمیر المؤمنین وحلق سلمان وحلق المقداد وحلق أبو ذر ولم یحلق غیرهم(14)
وهذه الروایة قرینة واضحة على أنّ المراد هو نصرة الإمام علیه السلام لأخذ الحق المغتصب، فیکون المراد من الردّة هو عدم القتال معه.
وممّا یؤیّد ذلک أیضاً الروایة التی جاء فیها أنّ قلب المقداد بن الأسود کزبر الحدید؛ فهی وإن کانت ضعیفة السند لکنّ فیها إشعاراً على ذلک؛ لأنّ وصف قلب المقداد إشارة إلى إرادته القویّة وثباته فی سبیل استرداد الخلافة(15)
لا يوجد تعليق