الجواب الاجمالي:
إنّ القضاء الحاسم فی عدالة الشخص هو دراسة عامّة صفحات تاریخ حیاته، و إلّا فلو حسنت حیاته فی فترة من فترات عمره ثمّ تبدّلت حاله و جنح إلى الفسق والفجور، فلا یستدلّ بحسن حاله فی أوائل عمره على کونه من أهل السعادة، بل المعیار هو دراسة أُخریات عمره.
الجواب التفصيلي:
اتّفق المسلمون على أنّ من آمن بعد الکفر والمعاصی، فهو من أهل الجنّة بمنزلة من لا معصیة له؛ و من کفر بعد الإیمان والعمل الصالح، فهو من أهل النار بمنزلة من لا حسنة له، إنّما الکلام فی من آمن و عمل عملًا صالحاً و آخر سیّئاً و استمر على الطاعات و الکبائر کما یشاهَد من الناس فمآله(1) إلى الجنّة و لو بعد النار، و استحقاقه للثواب والعقاب بمقتضى الوعد والوعید من غیر حبوط(2)
إنّ القضاء الحاسم فی عدالة الشخص هو دراسة عامّة صفحات تاریخ حیاته، و إلّا فلو حسنت حیاته فی فترة من فترات عمره ثمّ تبدّلت حاله و جنح إلى الفسق والفجور، فلا یستدلّ بحسن حاله فی أوائل عمره على کونه من أهل السعادة، بل المعیار هو دراسة أُخریات عمره.
الآیات القرآنیة تشهد على أنّ بعض الأعمال السیّئة ربّما تُبطل ما حصّله الإنسان عبر حیاته، یقول سبحانه: « یا أَیُّها الّذینَ آمَنُوا لا تَرفَعُوا أَصواتَکُمْ فَوقَ صَو ت النَّبیّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَولِ کَجَهْرِ بَعْضِکُمْ لِبَعْض أَنْ تحْبِط أَعمالُکُمْ و انْتُمْ لا تَشْعُرُون»(3)
و قد ذکر المفسرون فی أسباب نزول الآیة انّ بعض الصحابة کانوا یرفعون أصواتهم فوق صو ت النبی، فنزلت الآیة و حذّرتهم من ذلک الأُسلوب المشین(4)
کلّ ذلک یدلّ على أنّ القضاء البات فی حقّ الشخص هو دراسة سیرته طیلة حیاته، و لذلک نرى أنّ أُناساً کانوا من الصالحین و لکن اقترفوا فی أُخریات حیاتهم أعمالًا قبیحة، فهبطوا عمّا کانوا علیه من المنزلة والمکانسة.
والقرآن الکریم یحدِّثنا عن نماذج نذکر منهم:
1. من وصفه بقوله: «الذی آتیناه آیاتنا» حیث یقول سبحانه: «واتْلُ عَلَیْهِمْ نَبأ الَّذِی آتَیْناهُ آیاتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّیْطانُ فَکانَ مِنَ الْغَاوِین»(5)
روى السیوطی فی «الدر المنثور» عن عبد الله بن عباس أنّه کان ممّن تعلّم اسم الله الأکبر.
و عنه أیضاً: أنّه کان رجلًا أُعطی له ثلاث دعوات یُستجاب له فیهن.
و عن کعب أنّه کان یعلم اسم الله الأعظم الذی إذا دعی به أجاب، و مع هذه المکانة انسلخ من هذه الآیات فاتبعه الشیطان فکان من الغاوین(6)
قال ابن کثیر فی تفسیر قوله: «فأتبعه الشیطان» أیاستحوذ علیه وعلى أمره فمهما أمره امتثل وأطاع، و لهذا قال: «فکان من الغاوین» أی من الهالکین الحائرین البائرین.
ثمّ روى عن حذیفة بن الیمان أنّه قال: قال رسول الله- صلَّى الله علیه و آله و سلَّم-: إنّ ممّا أتخوف علیکم رجل قرأ القران حتى إذا روئیت بهجته علیه و کان رداؤه الإسلام، اعتراه إلى ما شاء الله انسلخ منه و نبذه وراء ظهره ... (7)
ولأجل أخذ العبرة من حیاة هذا الرجل یقول سبحانه فی الآیة التالیة بعد إتمام القصّة: «فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ یَتَفَکَّرُون».
2. مصیر قارون فقد کان- حسب ما تنقله الآثار- ابن عم موسى و کان یسمّى المنظر لحسن صو ته بالتوراة، ولکنّه بغى على بنی إسرائیل، یقول سبحانه: « إِنَّ قارُونَ کَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغَى عَلَیْهِمْ و اتَیْناهُ مِنَ الْکُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأ بِالْعُصْبَةِ أُولی الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ الله لا یُحِبُّ الْفَرِحِین»(8)
فقد جزاه الله سبحانه بالخسف به و بداره حیث قال: «فَخَسَفْنا بِهِ وَ بِدارِهِ الأَرْضَ فَما کانَ لَهُ مِنْ فِئةٍ یَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ الله وَ ما کانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِین»(9).(10)
ولأجل أن نعتبر بسیرة هؤلاء یقول سبحانه بعد إتمام القصة: «تِلْکَ الدّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِینَ لا یُرِیدُونَ عُلُوّاً فِی الأَرْضِ وَ لا فَسَاداً و العاقِبَةُ لِلْمُتَّقین»(11)
یقول ابن کثیر فی تفسیر الآیة: یخبر تعالى انّ الدار الآخرة و نعیمها المقیم الذی لا یحول ولا یزول جعلها لعباده المؤمنین المتواضعین الذین لا یریدون علوّاً فی الأرض، أی ترفّعاً على خلق الله، وتعاظماً علیهم، وتجبراً بهم، و لا فساداً علیهم(12)
و لعلّ ما أخرجه مسلم فی صحیحه یهدف إلى بیان حال هذه الطبقة حیث روى عن عبد الله بن مسعود أنّه قال: حدّثنا رسول الله - صلَّى الله علیه و آله و سلَّم- و هو الصادق المصدوق: «انّ أحدکم یجمع خلقه فی بطن أُمّه أربعین یوماً، ثمّ یکون فی ذلک علقة مثل ذلک، ثمّ یکون فی ذلک مضغة مثل ذلک، ثمّ یرسل الملک فینفخ فیه الروح و یؤمر بأربع کلمات یکتب رزقه وأجله وعمله وشقی أو سعید، فوالذی لا إله غیره انّ أحدکم لیعمل بعمل أهل الجنة حتّى ما یکون بینه و بینها إلّا ذراع فیسبق علیه الکتاب فیعمل بعمل أهل النار فیدخلها، و انّ أحدکم لیعمل بعمل أهل النار حتّى ما یکون بینه و بینها إلّا ذراع فیسبق علیه الکتاب فیعمل بعمل أهل الجنّة فیدخلها»(13)
و قال الإمام النووی عند شرحه لهذا الحدیث: و یدخل فی هذا من انقلب إلى عمل النار بکفر أو معصیة، لکن یختلفان فی التخلید و عدمه، فالکافر یخلّد فی النار و العامی الذی مات موحداً لا یخلّد فیها، و فی هذا الحدیث تصریح بإثبات القدر و انّ التوبة تهدم الذنوب قبلها، و انّ من مات على شیء حکم له به من خیر أو شر إلّا أنّ أصحاب المعاصی غیر الکفر فی المشیئة(14)
وعلى ضوء ذلک فما دلّ من الآیات و الروایات على أنّه سبحانه رضی عن طوائف من الصحابة فی ساعات خاصّة وأزمنة مختلفة، فلا یمکن الاستدلال بها على کونهم موصوفین بالحسن والوجاهة عند الله إلّا إذا داموا على الحالة السابقة، وأمّا إذا بطلت بالأدلّة القطعیة على اقتراف بعضهم السیئات وانحرافهم عن الحقّ المهیع، فإنّما یؤخذ بالدلیل الأخیر.
وممّا لا شکّ فیه وقوع التشاجر والقتال بین الصحابة بعد رحیل النبی- صلَّى الله علیه وآله وسلَّم- حتّى خاضوا معارک دامیة، فقتل من البدریّین والأُحدیّین بید بعض الصحابة، فهل یمکن أن یکون القاتل والمقتول من الطبقة المثلى؟!
ثمّ إنّ بعض الذین وقفوا على الأدلّة القاطعة الدالّة على اقتراف المعاصی و الکبائر من قِبَل لفیف من الصحابة، حاولوا أن یبرّروا أعمالهم من خلال التشبّث بالاجتهاد!! ولکن عزب عنهم أنّ الاجتهاد أمام النص و الضرورة، اجتهاد باطل لا یحوم حوله أیُّ مسلم واع(15)
لا يوجد تعليق