الجواب الاجمالي:
الجواب التفصيلي:
نورد الوجوه التی استدل بها القائلون بالغسل لیتبیّن للقارىَ الکریم مدى ضعف حجّیتها:
1. إنّ الاخبار الکثیرة وردت بإیجاب الغسل، و الغسل مشتمل على المسح ولا ینعکس، فکان الغسل أقرب إلى الاحتیاط فوجب المصیر إلیه، و یکون غسل الارجل یقوم مقام مسحها[1]
یلاحظ علیه: أنّ أخبار الغسل معارضة بأخبار المسح، و لیس شیء أوثق من کتاب اللّه، فلو دلّ على لزوم المسح لا یبقى مجال لترجیحه على روایات المسح. و القرآن هو المهیمن على الکتب و المأثورات، و المعارض منها للکتاب لا یقام له وزن.
و أعجب من ذلک قوله: إنّ الغسل مشتمل على المسح، مع أنّهما حقیقتان مختلفتان، فالغسل إمرار الماء على المغسول، و المسح إمرار الید على الممسوح[2] و هما حقیقتان مختلفتان لغة و عرفاً و شرعاً، و لو حاول الاحتیاط لوجب الجمع بین المسح و الغسل، لا الاکتفاء بالغسل.
2. ما روی عن علی(علیه السّلام) من أنّه کان یقضی بین الناس فقال: «" وَ أَرْجُلَکُمْ" هذا من المقدّم و الموَخّر فی الکلام فکأنّه سبحانه قال: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَ أَیْدِیَکُمْ إِلَى الْمَرافِقِ و اغسلوا أرجلکم وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِکُمْ)».
لکنّه یرد: بأنّ أئمّة أهل البیت کالباقر و الصادق (علیهما السلام) أدرى بما فی البیت، و هما اتّفقا على المسح، و هل یمکن الاتّفاق على المسح مع اعتقاد کبیرهم بالغسل؟!
إنّ الموَکد هو أنّ هذه الروایة موضوعة عن لسان الامام لیثیروا الشک بین أتباعه و شیعته. و لا نعلّق على احتمال التقدیم و التأخیر شیئاً، سوى أنّه یجعل معنى الآیة شیئاً مبهماً فی المورد الذی یطلب فیه الوضوح، إذ هی المرجع للقروی و البدوی، و للحاضر عصر النزول، و الغائب عنه، فیجب أن یکون على نسق ینتقل منه إلى المراد، ثمّ إنّه أیّ ضرورة اقتضت هذا التقدیم و التأخیر، مع إنّه کان من الممکن ذکر الارجل بعد الایدی من دون تأخیر؟ و لو کان الدافع إلى التأخیر هو بیان الترتیب، و إنّ غسل الارجل بعد مسح الرأس، فکان من الممکن أن یُذکر فعله و یقال: ( فامسحوا بروَوسکم واغسلوا أرجلکم إلى الکعبین). کلّ ذلک یعرب عن أنّ هذه محاولات فاشلة لتصحیح الاجتهاد تجاه النص؛ و ما علیه أئمّة أهل البیت من الاتّفاق على المسح.
3. ما روی عن ابن عمر فی الصحیحن قال: تخلّف عنّا رسول اللّه- صلى الله علیه و آله و سلم- فی سفره، فأدرکنا و قد أرهقنا العصر، و جعلنا نتوضّأ و نمسح على أرجلنا، قال: فنادى بأعلى صوته: « ویل للَاعقاب من النار» مرتین أو ثلاث[3]
و یرد هذا الاستدلال: أنّ هذه الروایة على تعیّن المسح أدلّ من دلالتها على غسل الرجلین، فإنّها صریحة فی أنّ الصحابة یمسحون، و هذا دلیل على أنّ المعروف عندهم هو المسح، و ما ذکره البخاری من أنّ الانکار علیهم کان بسبب المسح لا بسبب الاقتصار على بعض الرجل، اجتهاد منه، و هو حجّة علیه لا على غیره، فکیف یمکن أن یخفى على ابن عمر حکم الرجلین حتى یمسح رجلیه عدّة سنین إلى أن ینکر علیه النبیّ المسح؟!
على أنّ للروایة معنى آخر توَیّده بعض المأثورات، فقد روی: أنّ قوماً من أجلاف العرب، کانوا یبولون و هم قیام، فیتشرشر البول على أعقابهم و أرجلهم فلا یغسلونها و یدخلون المسجد للصلاة، و کان ذلک سبباً لذلک الوعید[4]
و یوَیّد ذلک ما یوصف به بعض الاعراب بقولهم: بوّال على عقبیه، و على فرض کون المراد ما ذکره البخاری، فلا تقاوم الروایة نص الکتاب.
4. روى ابن ماجة القزوینی عن أبی إسحاق عن أبی حیّة، قال: رأیت علیّاً توضّأ فغسل قدمیه إلى الکعبین ثمّ قال: «أردت أن أُریکم طهور نبیّکم»[5]
یلاحظ علیه: أنّ أبا حیّة مجهول لا یعرف، و نقله عنه أبو إسحاق الذی شاخ و نسى واختلط و ترک الناس روایته[6]
أضف إلیه أنّه یعارض ما رواه عنه أهل بیته، و أئمّة أهل بیته، خصوصاً من لازمه فی حیاته و هو ابن عباس کما مرّ.
5. قال صاحب المنار: و أقوى الحجج اللفظیة على الامامیة جعل الکعبین غایة طهارة الرجلین، و هذا لا یحصل إلّا باستیعابهما بالماء، لَانّ الکعبین هما العظمان الناتئان فی جانبی الرجل.
و هذا القول یلاحظ علیه: أنّا نفترض أنّ المراد من الکعبین هو ما ذکره، لکنّا نسأله: لماذا لا تحصل تلک الغایة إلّا باستیعابها بالماء؟ مع أنّه یمکن تحصیل تلک الغایة بمسحهما بالنداوة المتبقیة فی الید، والاختبار سهل، و نحن لا نرى فی العمل اعضالًا و عسراً.
6. و قال: إنّ الامامیة یمسحون ظاهر القدم إلى معقد الشراک عند المفصل بین الساق و القدم، و یقولون هو الکعب، ففی الرجل کعب واحد على رأیهم، فلو صحّ هذا لقال: إلى الکعاب کما قال فی الیدین:" إِلَى الْمَرافِقِ"[7]
أقول: إنّ المشهور بین الامامیة هو تفسیر الکعب بقبّة القدم التی هی معقد الشراک، و هناک من یذهب إلى أنّ المراد هو المفصل بین الساق و القدم، و ذهب قلیل منهم إلى أنّ المراد هما العظمان الناتئان فی جانبی الرجل. وعلى کلّ تقدیر، یصح اطلاق الکعبین، و إن کان حدّ المسح هو معقد الشراک أو المفصل، فیکون المعنى: (فامسحوا بأرجلکم إلى الکعبین منکم) إذ لا شک أنّ کلّ مکلّف یملک کعبین فی رجلیه.
أضف إلى ذلک: أنّه لو صحّ التفسیر بما ذکره فإنّه یجب أن یوسع الممسوح و یحدّد بالعظمین الناتئین لا أن یبدّل المسح بالغسل، و کأنّه تخیّل أنّ المسح بالنداوة المتبقّیة فی الید لا یتحقّق بها، و أنّه تجفّ إلید قبل الوصول إلیهما.
و لعمری أنّ هذه اجتهادات واهیة، و تخرّصات لا قیمة لها فی مقابل الذکر الحکیم.
7. آخر ما عند صاحب المنار فی توجیه غسل الارجل هو التمسّک بالمصالح، حیث قال: لا یعقل لِایجاب مسح ظاهر القدم بالید المبلّلة بالماء حکمة، بل هو خلاف حکمة الوضوء، لَانّ طروء الرطوبة القلیلة على العضو الذی علیه غبار أو وسخ یزیده و ساخة، و ینال الید الماسحة حظ من هذه الوساخة.
یلاحظ علیه: أنّ ما ذکره استحسان لا یُعرَّج علیه مع وجود النص، فلا شک أنّ الاحکام الشرعیة تابعة للمصالح الواقعیة و لا یجب علینا أن نقف علیها، فأی مصلحة فی المسح على الرأس و لو بمقدار اصبع أو اصبعین حتى قال الشافعی: إذا مسح الرأس باصبع واحدة أو بعض اصبع أو باطن کفه، أو أمر مَن یمسح له أجزأه ذلک؟!
و هناک کلمة قیّمة للِامام شرف الدین الموسوی نأتی بنصها، قال رحمه اللّه: نحن نوَمن بأنّ الشارع المقدّس لاحظ عباده فی کل ما کلّفهم به من أحکامه الشرعیة، فلم یأمرهم إلّا بما فیه مصلحتهم، و لم ینههم إلّا عمّا فیه مفسدة لهم، لکنّه مع ذلک لم یجعل شیئاً من مدارک تلک الاحکام منوطاً من حیث المصالح و المفاسد بآراء العباد، بل تعبّدهم بأدلّة قویّة عیّنها لهم، فلم یجعل لهم مندوحة عنها إلى ما سواها. و أوّل تلک الادلّة الحکیمة کتاب اللّه عزّ و جلّ، و قد حکم بمسح الروَوس والارجل فی الوضوء، فلا مندوحة عن البخوع لحکمه، أمّا نقاء الارجل من الدنس فلابدّ من احرازه قبل المسح علیها عملًا بأدلّة خاصّة دلّت على اشتراط الطهارة فی أعضاء الوضوء قبل الشروع فیه [8] و لعلّ غسل رسول اللّه - صلى الله علیه و آله و سلم- رجلیه المدعى فی أخبار الغسل إنّما کان من هذا الباب و لعلّه کان من باب التبرّد، أو کان من باب المبالغة فی النظافة بعد الفراغ من الوضوء. واللّه أعلم[9].[10]
لا يوجد تعليق