الجواب الاجمالي:
الجواب التفصيلي:
اختلف المسلمون فی غسل الرجلین و مسحهما، فذهب الائمّة الاربعة إلى أنّ الواجب هو الغسل وحده، و قالت الشیعة الامامیة: إنّه المسح، و قال داود بن علی و الناصر للحق من الزیدیة: یجب الجمع بینهما و هو صریح الطبری فی تفسیره: و نقل عن الحسن البصری: إنّه مخیّر بینهما[1]
و ممّا یثیر العجب اختلاف المسلمین فی هذه المسألة، مع أنّهم رأوا وضوء رسول اللّه - صلى الله علیه و آله و سلم- کلّ یوم و لیلة فی موطنه و مهجره، و فی حضره و سفره، و مع ذلک اختلفوا فی هذه المسألة التی هی من أشدّ المسائل ابتلاءً، و هذا یعرب عن أنّ الاجتهاد لعب فی هذه المسألة دوراً عظیماً، فجعل أوضح المسائل أبهمها.
إنّ الذکر الحکیم تکفّل ببیان المسألة و ما أبقى فیها إبهاماً و اعضالًا، و قد بیّنها رسول اللّه - صلى الله علیه و آله و سلم- و من هنا فلابد من الجزم بأنّ المسلمین کانوا قد اتّفقوا على فعل واحد، و إلّا فما کان هذا الامر یخفى، إذن فلا محیص من القول بأنّ الحاضرین فی عصر النزول فهموا من الآیة معنىً واحداً: إمّا المسح أو الغسل، و لم یتردّدوا فی حکم الرجلین أبداً. و لو خفی حکم هذه المسألة بعد رحلة الرسول- صلى الله علیه و آله و سلم- على الاجیال الآتیة فلا غرو فی أن یخفى على المسلمین حکم أکثر المسائل.
و لیس فیها شیء أوثق من کتاب اللّه فعلینا دراسة ما جاء فیه، قال سبحانه:"یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَ أَیْدِیَکُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِکُمْ وَ أَرْجُلَکُمْ إِلَى الْکَعْبَیْنِ"[2] و قد اختلف القرّاء فی قراءة:" وَ أَرْجُلَکُمْ إِلَى الْکَعْبَیْنِ" فمنهم من قرأ بالفتح، و منهم من قرأ بالکسر. إلّا أنّه من البعید أن تکون کلّ من القراءتین موصولة إلى النبیّ- صلى الله علیه و آله و سلم- فإنّ تجویزهما یضفی على الآیة ابهاماً و اعضالًا، و یجعل الآیة لغزاً، و القرآن کتاب الهدایة والارشاد، و تلک الغایة تطلب لنفسها الوضوح وجلاء البیان، خصوصاً فیما یتعلّق بالاعمال و الاحکام التی یبتلى بها عامّة المسلمین، ولا تقاس بالمعارف و العقائد التی یختصّ الامعان فیها بالامثل فالامثل.
و على کلّ تقدیر فممّن حقّق مفاد الآیة و بیّنها الامام الرازی فی تفسیره، ننقل کلامه بتلخیص:
قال: حجّة من قال بوجوب المسح مبنی على القراءتین المشهورتین فی قوله:" وَ أَرْجُلَکُمْ" و هما:
الاوّل: قرأ ابن کثیر، و حمزة، و أبوعمرو، و عاصم فی روایة أبو بکر عنه بالجرّ.
الثانی: قرأ نافع، و ابن عامر، و عاصم فی روایة حفص عنه بالنصب.
أمّا القراءة بالجرّ فهی تقتضی کون الارجل معطوفة على الروَوس فکما وجب المسح فی الرأس، فکذلک فی الارجل.
فإن قیل لم لا یجوز أن یکون الجرّ على الجوار؟ کما فی قوله: «جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ» و قوله: «کَبیرُ أُناسٍ فی بِجادٍ مَزَمّلٍ».
قیل: هذا باطل من وجوه:
1 إنّ الکسر على الجوار معدود من اللحن الذی قد یتحمّل لَاجل الضرورة فی الشعر، و کلام اللّه یجب تنزیهه عنه.
2 إنّ الکسر على الجوار انّما یصار إلیه حیث یحصل الامن من الالتباس کما فی قوله: «جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ» فإنّ «الخَرِب» لا یکون نعتاً للضبّ بل للجحر، وفی هذه الآیة الامن من الالتباس غیر حاصل.
3 إنّ الکسر بالجوار إنّما یکون بدون حرف العطف و أمّا مع حرف العطف فلم تتکلّم به العرب.
و أمّا القراءة بالنصب فهی أیضاً توجب المسح، و ذلک لَانّ" بِرُؤُسِکُمْ" فی قوله:" وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِکُمْ" فی محل النصب[3] بامسحوا لَانّه المفعول به، و لکنّها مجرورة لفظاً بالباء، فإذا عطفت الارجل على الروَوس جاز فی الارجل النصب عطفاً على محل الروَوس، و جاز الجر عطفاً على الظاهر.
و نزید بیاناً أنّه على قراءة النصب یتعیّن العطف على محل بروَوسکم، ولا یجوز العطف على ظاهر" أَیْدِیَکُمْ" لاستلزامه الفصل بین المعطوف و المعطوف علیه بجملة أجنبیة و هو غیر جائز فی المفرد، فضلًا عن الجملة.
هذا هو الذی یعرفه المتدبّر فی الذکر الحکیم، و لا یسوغ لمسلم أن یعدل عن القرآن إلى غیره، فإذا کان هو المهیمن على جمیع الکتب السماویة، فأولى أن یکون مهیمناً على ما فی أیدی الناس من الحقّ و الباطل، و المأثورات التی فیها الحدیث ذو شجون. مع کونها متضاربة فی المقام، فلو ورد فیها الامر بالغسل، فقد جاء فیها الامر بالمسح، رواه الطبری عن الصحابة و التابعین نشیر إلیه على وجه الاجمال.
1. ابن عباس، قال: الوضوء غسلتان و مسحتان.
2. کان أنس إذا مسح قدمیه بلّهما، و لمّا خطب الحجّاج و قال: لیس شیء من ابن آدم أقرب إلى خبثه فی قدمیه فاغسلوا بطونهما و ظهورهما وعراقیبهما، قال أنس: صدق اللّه و کذب الحجّاج، قال اللّه:" وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِکُمْ وَ أَرْجُلَکُمْ إِلَى الْکَعْبَیْنِ" و کان أنس إذا مسح قدمیه بلّهما.
3. عکرمة، قال: لیس على الرجلین غسل و إنّما نزل فیهما المسح.
4. الشعبی قال: نزل جبرئیل بالمسح و قال: ألا ترى انّ التیمّم أن یُمسَحَ ما کان غسلًا و یُلْغى ما کان مسحاً.
5. عامر: أُمر أن یمسح فی التیمّم ما أُمر أن یغسل بالوضوء، و أُبطل ما أُمر أن یمسح فی الوضوء: الرأس و الرجلان. و قیل له: إنّ أُناساً یقولون: إنّ جبرئیل نزل بغسل الرجلین فقال: نزل جبرئیل بالمسح.
6. قتادة: فی تفسیر الآیة: افترض اللّه غسلتین و مسحتین.
7. الاعمش: قرأ" و أرجلکم" مخفوضة اللام.
8. علقمة: قرأ" أرجلکم" مخفوضة اللام.
9. الضحاک: قرأ" و أرجلکم" بالکسر.
10. مجاهد: مثل ما تقدّم[4]
و هوَلاء من أعلام التابعین و فیهم الصحابیان: ابن عباس و أنس، و قد أصفقوا على المسح و قراءة الجر الصریحة فی تقدیم المسح على الغسل، و جمهور أهل السنّة یحتجّون بأقوالهم فی مجالات مختلفة فلماذا أُعرض عنهم فی هذا المجال المهم والحساس فی عبادة المسلم.
إنّ القول بالمسح هو المنصوص عن أئمّة أهل البیت علیهم السّلام، و هم یسندون المسح إلى النبیّ الاکرم- صلى الله علیه و آله و سلم-، و یحکون وضوءه به، قال أبو جعفر الباقر علیه السّلام: «ألا أحکی لکم وضوء رسول اللّه- صلى الله علیه و آله وسلم-؟ ثمّ أخذ کفّاً من الماء فصبّها على وجهه ... إلى أن قال: ثمّ مسح رأسه و قدمیه.
و فی روایة أُخرى: ثمّ مسح ببقیّة ما بقى فی یدیه رأسه و رجلیه و لم یعدهما فی الاناء[5]
و فی ضوء هذه الروایات و المأثورات اتّفقت الشیعة الامامیة على أنّ الوضوء غسلتان و مسحتان، و إلى ذلک یشیر السیّد بحر العلوم فی منظومته الموسومة بالدرة النجفیّة:
إنّ الوضوء غسلتان عندنا ومسحتان والکتاب معن
فالغسل للوجه وللیدین والمسح للرأس وللرجلین[6]
لا يوجد تعليق