الجواب الاجمالي:
من تلا الآیات المباركة وتدبّر فیها یحکم بأنّه سبحانه فوق أنْ یقع فی وهم الإنسان وفکره ومجال بصره وعینه، وعند ذلک لو قیل له: إنّه جاء فی الأثر: إنّکم سترون ربّکم یوم القیامة کما ترون هذا (البدر) لا تُضامون فی رؤیته
فسیجد أنّ هذا الکلام یناقض ما تلا من الآیات أو استمع إلیها
فسیجد أنّ هذا الکلام یناقض ما تلا من الآیات أو استمع إلیها
الجواب التفصيلي:
إنّ القرآن الكريم یصف اللَّه سبحانه بصفات تهدف جمیعها إلى تنزیهه عن الجسم والجسمانیة، وأنّه لیس له مثل ولانظیر، ولا ندّ ولا کفو، وأنّه محیط بکلّ شیء، ولا یحیطه شیء، إلى غیر ذلک من الصفات المنزِّهة التی یقف علیها الباحث إذا جمع الآیات الواردة فی هذا المجال، وبدورنا نشیر إلى بعض منها: قال سبحانه:
1- «فَاطِرُ السَّموَاتِ والْأَرْضِ جَعَلَ لَکُمْ مِنْ أَنْفُسِکُمْ أَزْوَاجاً ومِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً یَذْرَؤُکُمْ فِیهِ لَیْسَ کَمِثْلِهِ شَیْءٌ وهُوَ السَّمِیعُ الْبَصِیرُ» (الشورى/ 11).
2- «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ یَلِدْ ولَمْ یُولَدْ ولَمْ یَکُنْ لَهُ کُفُواً أَحَدُ» (الاخلاص/ 1- 4).
3- «هُوَ الْأَوَّلُ والْآخِرُ والظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وهُوَ بِکُلِّ شَیْءٍ عَلِیمٌ» (الحدید/ 3).
4- «هُوَ الَّذِی خَلَقَ السَّموَاتِ والْأَرْضَ فِی سِتَّةِ أَیَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ یَعْلَمُ مَا یَلِجُ فِی الْأَرْضِ ومَا یَخْرُجُ مِنْهَا ومَا یَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ ومَا یَعْرُجُ فِیهَا وهُوَ مَعَکُمْ أَیْنَما کُنْتُمْ واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِیرٌ» (الحدید/ 4).
5- «هُوَ اللَّهُ الَّذِی لَاإلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِکُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَیْمِنُ الْعَزِیزُ الْجَبَّارُ الْمُتَکَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا یُشْرِکُونَ» (الحشر/ 23).
6- «هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى یُسَبِّحُ لَهُ مَا فِی السَّمَاوَاتِ ومَا فِی الْأَرْضِ وهُوَ الْعَزِیزُ الْحَکِیمُ» (الحشر/ 24).
7- «مَا یَکُونُ مِنْ نَجْوى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ ولَا خَمْسَةٍ إِلَّا وهُوَ سَادِسُهُمْ ولَا أَدْنَى مِنْ ذلِکَ ولَا أَکْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَیْنَما کَانُوا ثُمَّ یُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا یَوْمَ الْقِیَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِکُلِّ شَیْءٍ عَلِیمٌ» (المجادلة/ 7).
8- «أَلَا إِنَّهُمْ فِی مِرْیَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِکُلِّ شَیْءٍ مُحِیطٌ» (فصلت/ 54).
9- «اللَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَیُّ الْقَیُّومُ لَاتَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِی السَّموَاتِ ومَا فِی الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِی یَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ یَعْلَمُ مَا بَیْنَ أَیْدِیهِمْ ومَا خَلْفَهُمْ ولَا یُحِیطُونَ بِشَیْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ کُرْسِیُّهُ السَّموَاتِ والْأَرْضَ ولَا یَؤُدُهُ حِفْظُهُمَا وهُوَ الْعَلِیُّ الْعَظِیمُ» (البقرة/ 255).
10- «لَاتُدْرِکُهُ الْأَبْصَارُ وهُوَ یُدْرِکُ الْأَبْصَارَ وهُوَ اللَّطِیفُ الْخَبِیرُ» (الأنعام/ 103).
و حصیلة هذه الآیات:
أنّه لا یوجد فی صفحة الوجود له مثل، وهو أحدٌ لا کُفو له، لم یلد ولم یولد، بل هو أزلیّ، فبما أنّه أزلیّ الوجود، فوجوده قبل کلّ شیء أی لا وجود قبله. وبما أنّه أبدیّ الوجود، فهو آخرُ کلّ شیء إذْ لا وجود بعده. وبما أنّه خالقُ السماوات والأرض فالکون قائم بوجوده، فهو باطنُ کلّ شیء، کما أنّ النظام البدیع دلیل على وجوده، فهو ظاهر کلّ شیء، لا یحویه مکان، لأنّه خالق السماوات والأرض وخالق الکون والمکان، فکان قبل أنْ یکون أیّ مکان.
و بما أنّ العالم دقیقه وجلیله فقیر محتاج إلیه قائم به، فهو مع الأشیاء معیّة قیّومیّة لا معیّة مکانیّة، ومع الانسان أینما کان. فلا یکون من نجوى ثلاثةٍ إلّاهو رابعهم ولا خمسةٍ إلّاهو سادسُهم ولا أدنى من ذلک ولا أکثر إلّاهو معهم أینما کانوا، وذلک مقتضى کونه قیّوماً وما سواه قائماً به، ولا یمکن للقیّوم الغیبوبة عمّا قام به، وفی النهایة هو محیط بکلّ شیء لا یحیطه شیء، فقد أحاط کُرسیُّه السماوات والأرض، فالجمیع محاط وهو محیط، ومن کان بهذه المنزلة لا تُدرِکه الأبصار الصغیرة الضعیفة ولا یقع فی أُفقها، ولکنّه لکونه محیطاً یُدرکُ الأبصار.
هذه صفاته سبحانه فی القرآن ذکرناه بایجاز وأوردناها بلا تفسیر.
هذا وأنّ من سمات العقیدة الإسلامیة کونها عقیدة سهلة لا إبهام فیها ولا لغز، فلو وجدنا شیئاً فی السنّة أو غیرها ما یصطدم بهذه الصفات فیحکم علیه بالتأویل إن صحّ السند، أو بالضرب عرض الجدار إن لم یصح.
فمن تلا هذه الآیات وتدبّر فیها یحکم بأنّه سبحانه فوق أنْ یقع فی وهم الإنسان وفکره ومجال بصره وعینه، وعند ذلک لو قیل له: إنّه جاء فی الأثر: إنّکم سترون ربّکم یوم القیامة کما ترون هذا (البدر) لا تُضامون فی رؤیته[1]
فسیجد أنّ هذا الکلام یناقض ما تلا من الآیات أو استمع إلیها، وسیشکک ویقول: اذا کان الخالقُ البارئُ الذی هو لیس بجسم ولا جسمانی، لا یحویه مکان ومحیط بالسماوات والأرض، فکیف یرى یوم القیامة کالبدر فی جهة خاصة وناحیة عالیة مع أنّه کان ولا علوّ ولا جهة، بل هو خالقهما، وأین هذه الرؤیة من وصفه سبحانه بأنّه لا یحویه مکان ولا یقع فی جهة وهو محیط بکلّ شیء؟!
و لا یکون هذا التناقض بین الوصفین بأقلّ من التناقض الموجود فی العقیدة النصرانیّة من أنّه سبحانه واحد وفی الوقت نفسه ثلاثة.
و کلّما حاول القائل بالرؤیة الجمع بین العقیدتین، لا یستطیع أنْ یرفع التعارض والاصطدام بین المعرفتین فی أنظار المخاطبین بهذه الآیات والروایة، ومن جرّد نفسه عن المجادلات الکلامیّة والمحاولات الفکریّة للجمع بین المعرفتین یرى التعریفین متصادمین، فأین القول بأنّه سبحانه بعید عن الحسّ والمحسوسات منزّه عن الجهة والمکان محیط بعوالم الوجود، وفی نفس الوقت تنزله سبحانه منزلة الحسّ والمحسوسات، واقعاً بمرأى ومنظر من الانسان یراه ویبصره کما یبصر البدر ویشاهده فی أُفق عال.
و قد عرفت أنّ السهولة فی العقیدة والخلوّ من الألغاز هو من سمات العقیدة الإسلامیّة، فالجمع بین المعرفتین کجمع النصارى بین کونه واحداً وثلاثاً.
هذا من جانب، ومن جانب آخر نرى أنّه سبحانه کلّما طرح مسألة الرؤیة فی القرآن الکریم فإنّما یطرحها لیؤکد عجز الانسان عن نیلها، ویعتبر سؤالها وتَمنّیها من الإنسان أمراً فظیعاً وقبیحاً وتطلُّعاً إلى ما هو دونه.
1- قال سبحانه: «وَ إِذْ قُلْتُمْ یَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَکَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْکُمُ الصَّاعِقَةُ وأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاکُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِکُمْ لَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ» (البقرة/ 55- 56).
2- وقال سبحانه: «یَسْأَلُکَ أَهْلُ الْکِتَابِ أَنْ تُنَزِّل عَلَیْهِمْ کِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَکْبَرَ مِنْ ذلِکَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَیِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذلِکَ وآتَیْنَا مُوسى سُلْطَاناً مُبِیناً» (النساء/ 153).
3- وقال سبحانه: «وَ لَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِیقَاتِنَا وَکَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِی أَنْظُرْ إِلَیْکَ قَالَ لَنْ تَرَانِی ولکِنْ أُنْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَکَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِی فَلَمَّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَکّاً وخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَکَ تُبْتُ إِلَیکَ وأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِینَ» (الأعراف/ 143).
4- وقال سبحانه: «وَ اخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِینَ رَجُلًا لِمِیقَاتِنَا، فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةَ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَکْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وإِیَّایَ أَتُهْلِکُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِیَ إِلَّا فِتْنَتُکَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِی مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِیُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَیْرُ الْغَافِرِینَ» (الأعراف/ 155).
فالمتدبّر فی هذه الآیات یقضی بأنّ القرآن الکریم یستعظم الرؤیة ویستفظع سؤالها ویقبّحه ویعدّ الانسان قاصراً عن أنْ ینالها على وجه ینزل العذاب عند سؤالها.
فلو کانت الرؤیة أمراً ممکناً ولو فی وقتٍ آخر، لکان علیه سبحانه أن یتلطّف علیهم بأنّکم سترونه فی الحیاة الآخرة لا فی الحیاة الدنیا، ولکنّا نرى أنّه سبحانه یقابلهم بنزول الصاعقة فیقتلهم ثمّ یحییهم بدعاء موسى، کما أنّ موسى لمّا طلب الرؤیة وأُجیب بالمنع تاب إلى اللَّه سبحانه وقال: أنا أوّل المؤمنین بأنّک لا تُرى.
فالإمعان بما ورد فیها من عتاب وتندید، بل وإماتة وإنزال عذاب، یدلّ بوضوح على أنّ الرؤیة فوق قابلیّة الإنسان، وطلبه لها أشبه بالتطلّع إلى أمر محال، فعند ذلک لو قیل للمتدبّر فی الآیات إنّه روى قیس بن أبی حازم أنّه حدّثه جریر وقال: خرج علینا رسول اللَّه لیلة البدر فقال: «إنّکم سترون ربّکم یوم القیامة کما ترون هذا لا تضامون فی رؤیته»[2] یجد الحدیث مناقضاً لما ورد فی هذه الآیات ویشکّ أنّه کیف صار الأمر الممتنع أمراً ممکناً، والإنسان غیر المؤهل على الرؤیة مؤهلًا لها[3]
1- «فَاطِرُ السَّموَاتِ والْأَرْضِ جَعَلَ لَکُمْ مِنْ أَنْفُسِکُمْ أَزْوَاجاً ومِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً یَذْرَؤُکُمْ فِیهِ لَیْسَ کَمِثْلِهِ شَیْءٌ وهُوَ السَّمِیعُ الْبَصِیرُ» (الشورى/ 11).
2- «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ یَلِدْ ولَمْ یُولَدْ ولَمْ یَکُنْ لَهُ کُفُواً أَحَدُ» (الاخلاص/ 1- 4).
3- «هُوَ الْأَوَّلُ والْآخِرُ والظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وهُوَ بِکُلِّ شَیْءٍ عَلِیمٌ» (الحدید/ 3).
4- «هُوَ الَّذِی خَلَقَ السَّموَاتِ والْأَرْضَ فِی سِتَّةِ أَیَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ یَعْلَمُ مَا یَلِجُ فِی الْأَرْضِ ومَا یَخْرُجُ مِنْهَا ومَا یَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ ومَا یَعْرُجُ فِیهَا وهُوَ مَعَکُمْ أَیْنَما کُنْتُمْ واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِیرٌ» (الحدید/ 4).
5- «هُوَ اللَّهُ الَّذِی لَاإلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِکُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَیْمِنُ الْعَزِیزُ الْجَبَّارُ الْمُتَکَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا یُشْرِکُونَ» (الحشر/ 23).
6- «هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى یُسَبِّحُ لَهُ مَا فِی السَّمَاوَاتِ ومَا فِی الْأَرْضِ وهُوَ الْعَزِیزُ الْحَکِیمُ» (الحشر/ 24).
7- «مَا یَکُونُ مِنْ نَجْوى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ ولَا خَمْسَةٍ إِلَّا وهُوَ سَادِسُهُمْ ولَا أَدْنَى مِنْ ذلِکَ ولَا أَکْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَیْنَما کَانُوا ثُمَّ یُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا یَوْمَ الْقِیَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِکُلِّ شَیْءٍ عَلِیمٌ» (المجادلة/ 7).
8- «أَلَا إِنَّهُمْ فِی مِرْیَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِکُلِّ شَیْءٍ مُحِیطٌ» (فصلت/ 54).
9- «اللَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَیُّ الْقَیُّومُ لَاتَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِی السَّموَاتِ ومَا فِی الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِی یَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ یَعْلَمُ مَا بَیْنَ أَیْدِیهِمْ ومَا خَلْفَهُمْ ولَا یُحِیطُونَ بِشَیْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ کُرْسِیُّهُ السَّموَاتِ والْأَرْضَ ولَا یَؤُدُهُ حِفْظُهُمَا وهُوَ الْعَلِیُّ الْعَظِیمُ» (البقرة/ 255).
10- «لَاتُدْرِکُهُ الْأَبْصَارُ وهُوَ یُدْرِکُ الْأَبْصَارَ وهُوَ اللَّطِیفُ الْخَبِیرُ» (الأنعام/ 103).
و حصیلة هذه الآیات:
أنّه لا یوجد فی صفحة الوجود له مثل، وهو أحدٌ لا کُفو له، لم یلد ولم یولد، بل هو أزلیّ، فبما أنّه أزلیّ الوجود، فوجوده قبل کلّ شیء أی لا وجود قبله. وبما أنّه أبدیّ الوجود، فهو آخرُ کلّ شیء إذْ لا وجود بعده. وبما أنّه خالقُ السماوات والأرض فالکون قائم بوجوده، فهو باطنُ کلّ شیء، کما أنّ النظام البدیع دلیل على وجوده، فهو ظاهر کلّ شیء، لا یحویه مکان، لأنّه خالق السماوات والأرض وخالق الکون والمکان، فکان قبل أنْ یکون أیّ مکان.
و بما أنّ العالم دقیقه وجلیله فقیر محتاج إلیه قائم به، فهو مع الأشیاء معیّة قیّومیّة لا معیّة مکانیّة، ومع الانسان أینما کان. فلا یکون من نجوى ثلاثةٍ إلّاهو رابعهم ولا خمسةٍ إلّاهو سادسُهم ولا أدنى من ذلک ولا أکثر إلّاهو معهم أینما کانوا، وذلک مقتضى کونه قیّوماً وما سواه قائماً به، ولا یمکن للقیّوم الغیبوبة عمّا قام به، وفی النهایة هو محیط بکلّ شیء لا یحیطه شیء، فقد أحاط کُرسیُّه السماوات والأرض، فالجمیع محاط وهو محیط، ومن کان بهذه المنزلة لا تُدرِکه الأبصار الصغیرة الضعیفة ولا یقع فی أُفقها، ولکنّه لکونه محیطاً یُدرکُ الأبصار.
هذه صفاته سبحانه فی القرآن ذکرناه بایجاز وأوردناها بلا تفسیر.
هذا وأنّ من سمات العقیدة الإسلامیة کونها عقیدة سهلة لا إبهام فیها ولا لغز، فلو وجدنا شیئاً فی السنّة أو غیرها ما یصطدم بهذه الصفات فیحکم علیه بالتأویل إن صحّ السند، أو بالضرب عرض الجدار إن لم یصح.
فمن تلا هذه الآیات وتدبّر فیها یحکم بأنّه سبحانه فوق أنْ یقع فی وهم الإنسان وفکره ومجال بصره وعینه، وعند ذلک لو قیل له: إنّه جاء فی الأثر: إنّکم سترون ربّکم یوم القیامة کما ترون هذا (البدر) لا تُضامون فی رؤیته[1]
فسیجد أنّ هذا الکلام یناقض ما تلا من الآیات أو استمع إلیها، وسیشکک ویقول: اذا کان الخالقُ البارئُ الذی هو لیس بجسم ولا جسمانی، لا یحویه مکان ومحیط بالسماوات والأرض، فکیف یرى یوم القیامة کالبدر فی جهة خاصة وناحیة عالیة مع أنّه کان ولا علوّ ولا جهة، بل هو خالقهما، وأین هذه الرؤیة من وصفه سبحانه بأنّه لا یحویه مکان ولا یقع فی جهة وهو محیط بکلّ شیء؟!
و لا یکون هذا التناقض بین الوصفین بأقلّ من التناقض الموجود فی العقیدة النصرانیّة من أنّه سبحانه واحد وفی الوقت نفسه ثلاثة.
و کلّما حاول القائل بالرؤیة الجمع بین العقیدتین، لا یستطیع أنْ یرفع التعارض والاصطدام بین المعرفتین فی أنظار المخاطبین بهذه الآیات والروایة، ومن جرّد نفسه عن المجادلات الکلامیّة والمحاولات الفکریّة للجمع بین المعرفتین یرى التعریفین متصادمین، فأین القول بأنّه سبحانه بعید عن الحسّ والمحسوسات منزّه عن الجهة والمکان محیط بعوالم الوجود، وفی نفس الوقت تنزله سبحانه منزلة الحسّ والمحسوسات، واقعاً بمرأى ومنظر من الانسان یراه ویبصره کما یبصر البدر ویشاهده فی أُفق عال.
و قد عرفت أنّ السهولة فی العقیدة والخلوّ من الألغاز هو من سمات العقیدة الإسلامیّة، فالجمع بین المعرفتین کجمع النصارى بین کونه واحداً وثلاثاً.
هذا من جانب، ومن جانب آخر نرى أنّه سبحانه کلّما طرح مسألة الرؤیة فی القرآن الکریم فإنّما یطرحها لیؤکد عجز الانسان عن نیلها، ویعتبر سؤالها وتَمنّیها من الإنسان أمراً فظیعاً وقبیحاً وتطلُّعاً إلى ما هو دونه.
1- قال سبحانه: «وَ إِذْ قُلْتُمْ یَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَکَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْکُمُ الصَّاعِقَةُ وأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاکُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِکُمْ لَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ» (البقرة/ 55- 56).
2- وقال سبحانه: «یَسْأَلُکَ أَهْلُ الْکِتَابِ أَنْ تُنَزِّل عَلَیْهِمْ کِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَکْبَرَ مِنْ ذلِکَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَیِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذلِکَ وآتَیْنَا مُوسى سُلْطَاناً مُبِیناً» (النساء/ 153).
3- وقال سبحانه: «وَ لَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِیقَاتِنَا وَکَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِی أَنْظُرْ إِلَیْکَ قَالَ لَنْ تَرَانِی ولکِنْ أُنْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَکَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِی فَلَمَّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَکّاً وخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَکَ تُبْتُ إِلَیکَ وأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِینَ» (الأعراف/ 143).
4- وقال سبحانه: «وَ اخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِینَ رَجُلًا لِمِیقَاتِنَا، فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةَ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَکْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وإِیَّایَ أَتُهْلِکُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِیَ إِلَّا فِتْنَتُکَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِی مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِیُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَیْرُ الْغَافِرِینَ» (الأعراف/ 155).
فالمتدبّر فی هذه الآیات یقضی بأنّ القرآن الکریم یستعظم الرؤیة ویستفظع سؤالها ویقبّحه ویعدّ الانسان قاصراً عن أنْ ینالها على وجه ینزل العذاب عند سؤالها.
فلو کانت الرؤیة أمراً ممکناً ولو فی وقتٍ آخر، لکان علیه سبحانه أن یتلطّف علیهم بأنّکم سترونه فی الحیاة الآخرة لا فی الحیاة الدنیا، ولکنّا نرى أنّه سبحانه یقابلهم بنزول الصاعقة فیقتلهم ثمّ یحییهم بدعاء موسى، کما أنّ موسى لمّا طلب الرؤیة وأُجیب بالمنع تاب إلى اللَّه سبحانه وقال: أنا أوّل المؤمنین بأنّک لا تُرى.
فالإمعان بما ورد فیها من عتاب وتندید، بل وإماتة وإنزال عذاب، یدلّ بوضوح على أنّ الرؤیة فوق قابلیّة الإنسان، وطلبه لها أشبه بالتطلّع إلى أمر محال، فعند ذلک لو قیل للمتدبّر فی الآیات إنّه روى قیس بن أبی حازم أنّه حدّثه جریر وقال: خرج علینا رسول اللَّه لیلة البدر فقال: «إنّکم سترون ربّکم یوم القیامة کما ترون هذا لا تضامون فی رؤیته»[2] یجد الحدیث مناقضاً لما ورد فی هذه الآیات ویشکّ أنّه کیف صار الأمر الممتنع أمراً ممکناً، والإنسان غیر المؤهل على الرؤیة مؤهلًا لها[3]
لا يوجد تعليق