الجواب الاجمالي:
الجواب التفصيلي:
یقول ابن تیمیه حسب ما یزعم: أنّ حدیث نزول سورة «هَلْ أَتَى » فی اهل بیت النّبی (علیهم السّلام) من الموضوعات، لانّ سورة « هَلْ أَتَى » مکیّة باتفاق العلماء و علیّ إنّما تزوّج فاطمة بالمدینة بعد الهجـرة و ولد له الحسن فی السّنة الثانیة من الهجرة والحسین فی السّنة الرابعة من الهجرة بعد نزول «هَلْ أَتَى» بسنین کثیرة، فالقول بأنّها نزلت فیهم من الکذب[1]
ونحن نناقشه فی کلامه هذا من خلال النقاط التالیة:
الأُولى: إنّ دعوى ابن تیمیة أنّ السّورة مکیّة باتّفاق العلماء، تدلّ على فرط جهله بالنّقل، أو على تعمّده الکذب، فأقوال العلماء لم تتّفق على أنّ السّورة مکّیّة، وإنّما ذهب الکثیر منهم، بل أکثرهم، إلى أنّها مدنیّة، وقد استفاضت بذکر ذلک روایات أهل السنة، فروى مجاهد عن ابن عباس: أنّها مدنیّة. وهو قول مجاهد، وقتادة، ( وعکرمة، و الحسن البصری، والکلبیّ)[2] ، وجابر بن زید[3]
أمّا روایات أئمّة أهل البیت (علیهم السلام)، فقد أطبقت على کونها مدنیّة.
فأین اتّفاق العلماء على کونها مکیّة، یا شیخ الإسلام (الأموی)؟!!
الثانیة: إنّ لفظ (الأسیر) الوارد فی السورة، یؤید (بل یؤکد) أنّ السورة (أو الآیات التی تضمّنت قصة الإطعام) مدنیة، فثمّة ثلاثة أقوال للمفسّرین فی المراد بالأسیر:
أحدها: أنّه الأسیر من المشرکین، و بتعبیر الطبری: هو الحربیّ من أهل دار الحرب، یؤخذ قهراً بالغلبة. و هو قول ابن عباس، و الحسن البصریّ، و قتادة، و عکرمة.
و هذا القول یناسب الظاهر من لفظ (الأسیر).
ثانیها: المسجون من أهل القبلة. و هو قول مجاهد، و عطاء، و سعید بن جبیر[4]
ثالثها: المملوک (العبد). و به قال السُّدّیّ[5]
قال العلامة الآلوسیّ: و تسمیة المسجون أسیراً مجاز، لمنعه من الخروج، و أمّا تسمیة المملوک، فمجاز أیضاً لکن قیل باعتبار ما کان، و قیل باعتبار شبهه به فی تقییده بأسار الأمر و عدم تمکّنه من فعل ما یهوى[6]
یُشار إلى أنّ الطبری اقتصر على ذکر القولین الأوّلَین ( و روى بإسناده عن الحسن البصری أنّه قال: ما کان أسراهم إلاّ المشرکین)[7] ، و کذلک فعل الشیخ الطوسیّ من مفسّری الإمامیة[8]
و قال الطبرانی: و (الأسیر): الکافر المأسور فی أیدی المؤمنین، و یقال: الأسیر: العبد[9]
و أنت ترى ـ ایّها القارئ ـ أنّ القول بأنّ المراد بالأسیر، هو المشرک المأخوذ من أهل دار الحرب، هو القول الأقوى و الأنسب لظاهر اللفظ.
و هنا نسأل ابن تیمیة و مقلّدیه: متى تمکّن المسلمون من أخذ المشرکین أسرى؟ أفی مکة أم فی المدینة؟ أفی مکة التی کانوا فیها مضطهدین معذَّبین مُطارَدین، أم فی المدینة التی قویت فیها شوکتهم، و استحصدت فیها قوّتهم؟
و أمّا إذا أخذنا بقول من قال إنّ المراد بالأسیر، هو الأسیر من أهل القبلة، فإنّ هذا إنّما یستقیم ـ کما یقول الطیبی ـ إذا اتّفق الإطعام فی دار الحرب من المسلم لأسیر فی أیدیهم[10] (أی فی أیدی الکفّار).
و من المعلوم أنّه لیس ثمّة ما یدلّ على أنّ المشرکین فی مکّة قد أسروا أحداً من المسلمین، حتى یؤثره مسلم آخر بطعامه.
فکیف یقال، بعد هذا کلّه، أنّ السورة بتمامها مکیة؟!
وإلى هذا المعنى أشار العلاّمة الطباطبائی، بقوله: ثمّ إنّ عدّ الأسیر فیمن أطعمه هؤلاء الأبرار نعم الشاهد على کون الآیات مدنیة، فإنّ الأسر إنّما کان بعد هجرة النبی (ص)، و ظهور الإسلام على الکفر و الشرک لا قبلها[11]
الثالثة: أنّ نزول هذه الآیات فی علیّ و أهل بیته (علیهم السلام) لإیثارهم المسکین و الیتیم و الأسیر، قد ذکره جمع من العلماء و المفسّرین من أهل السنّة، و من المعتزلة (فضلاً عن الشیعة)، و منهم: أبو جعفر الإسکافی المعتزلیّ (المتوفّى 240هـ)، و ابن عبد ربّه الأندلسی المالکی[12](المتوفّى 328هـ)، و الحافظ أبو بکر بن مردویه[13] (المتوفّى 416هـ)، و أبو إسحاق الثعلبی[14](المتوفّى 427هـ)، و أبو الحسن الواحدی[15](المتوفّى 468هـ)، و الحسین بن مسعود البغوی الشافعی (المتوفّى 516هـ)، و أبو القاسم الزمخشری المعتزلی[16](المتوفّى 538هـ)، و فخر الدین الرازی الشافعی (المتوفّى 606هـ)، و القاضی ناصر الدین البیضاوی الشافعی[17] (المتوفّى 685هـ)، و حافظ الدین عبد الله بن أحمد النسفی الحنفی[18] (المتوفّى 701هـ)، و طائفة.
وإلیک أقوال ثلاثة من هؤلاء الأعلام:
قال أبو جعفر الإسکافی، و هو یذکر فضائل علی(ع): و هو الذی أطعم الطعام على حبّه مسکیناً و یتیماً و أسیراً، و أُنزلت فیه و فی زوجته و ابنیه سورة کاملة من القرآن[19]
و قال البغوی: روی عن مجاهد وعطاء، عن ابن عباس: نزلت [یعنی آیة الإطعام] فی علی بن أبی طالب، و ذلک أنّه عمل لیهودی بشیء من الشعیر، فقبض الشعیر، فطحن ثلثه، فجعلوه منه شیئاً لیأکلون، فلمّا تمّ إنضاجه أتى مسکین فسأل، فأخرجوا إلیه الطعام، ثم عمل الثلث الثانی، فلمّا تمّ إنضاجه أتى یتیم فسأل فأطعموه، ثم عمل الثلث الباقی، فلما تمّ إنضاجه أتى أسیر من المشرکین، فسأل فأطعموه، و طوَوْا یومهم ذلک[20]
و قال الفخر الرازی: و الواحدی من أصحابنا ـ یعنی من أهل السنّة ـ ذکر فی کتاب البسیط أنّها نزلت فی حقّ علی(ع)، و صاحب «الکشاف» من المعتزلة ذکر هذه القصة، فروى عن ابن عباس رضی الله عنهما: «أنّ الحسن و الحسین (علیهما السلام) مرضا، فعادهما رسول الله(ص) فی أُناس معه، فقالوا: یا أبا الحسن لو نذرت على ولدک، فنذر علی و فاطمة و فضة جاریة لهما... (إلى أن قال): فنزل جبریل، و قال: خذها یا محمد هنّأک الله فی أهل بیتک، فاقرأ هذه السورة»[21]
هذا، و قد صرّح کلّ من محیی الدین ابن عربی[22] (المتوفّى 638هـ)، و السید محمود الآلوسی البغدادی (المتوفّى 1270هـ) بأنّ خبر نزولها فی علیّ و أهل بیته (علیهم السلام)، مشهور بین الناس، ثم نقل الآلوسی هذین البیتین فی مدح علیّ (ع).
إلامَ أُلام و حتى متى *** أُعاتَبُ فی حبّ هذا الفتى
و هل زُوِّجتْ غیره فاطم *** و فی غیره هل أتى «هَلْ أَتَى»[23]
فهل تجد ـ ایّها القارئ ـ إذا ما وقفتَ على ما تقدّم و على غیره[24] باعثاً لتکذیب ابن تیمیة القول بنزول «هَلْ أَتَى» فی حقّ علیّ و أهل بیته، إلاّ الحنق الذی یحول بین القلب و بین الاستجابة للبرهان الناصع المنیر (فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَ لَکِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ التی فِی الصُّدُورِ)[25].[26]
لا يوجد تعليق