الجواب الاجمالي:
أنّ مؤلِّفا كتاب «بيعة علي بن أبي طالب في ضوء الروايات الصحيحة» قد تتبّعا الروايات التي تزعم أنّ بعض الصحابة امتنع عن بيعته، وناقشا أسانيدها، فوجدا أنّها كلّها ضعيفة أو منكرة، وأوردا الروايات والأقوال التي تثبت إجماع المهاجرين والأنصار والبدريين وكبار الصحابة على بيعته(ع) وخلصا إلى أنّ: «كلّ الروايات التي استثنت بيعة بعض كبار الصحابة روايات ضعيفة منكرة، تعارضها الروايات الصحيحة».
الجواب التفصيلي:
يقول ابن تيميه: نصف الأُمّة ـ أو أقل أو أكثر ـ لم يبايعوه (يعني: عليّ بن أبي طالب)(1)
نقول: تضافرت الروايات والأخبار على أنّ الصحابة والتابعين قد بايعوا عليّاً بيعة واقعية ولم يتخلّف عنه إلاّ بضعة أفراد. و إليك نتفاً ممّا ذكره المحدّثون و المؤرخون :
1. قال ابن سعد (المتوفّى230هـ): قالوا... و بويع لعلي بن أبي طالب رحمه الله بالمدينة، الغد من يوم قُتل عثمان، بالخلافة، بايعه: طلحة والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وعمّار بن ياسر، وأُسامة بن زيد، وسهل بن حنيف، وأبوأيوب الأنصاري، ومحمد بن مسلمة، وزيد بن ثابت، وخزيمة بن ثابت، وجميع من كان بالمدينة من أصحاب رسول الله (ص) وغيرهم(2)
2. روى امام ابن تيميه أحمد بن حنبل (المتوفي241هـ) باسناده عن محمد بن الحنفية قال: كنت مع علي، وعثمان محصور، قال: فأتاه رجل فقال: إنّ أمير المؤمنين مقتول،... إلى أن قال: فأتى عليٌّ الدار، وقد قُتل الرجل فأتى داره فدخلها وأغلق عليه بابه، فـأتـاه النـاس فضـربوا عليـه الباب فـدخلوا عليـه فقـالوا: إنّ هـذا الـرجل قد قُتل، ولابدّ للناس من خليفة، ولا نعلم أحداً أحق بها منك، فقال لهم علي: لا تريدوني (وفي رواية الطبري: لا تفعلوا) فإنّي لكم وزير خيـر مني لكـم أميـر. فقالوا: لا والله ما نعلم أحداً أحقّ بها منك. قال: فإن أبيتم عليّ فإنّ بيعتي لا تكون سرّاً ولكن أخرج إلى المسجد، فمن شاء أن يبايعني بايعني. قال: فخرج إلى المسجد فبايعه الناس(3)
يقولان المؤلّفان (أُمّ مالك الخالدي وحسن فرحان المالكي من اهل السّنّة): والرواية تدلّ على أُمور:
1. زهد علي في الخلافة، وعدم طلبه لها أو طمعه فيها، واعتزاله في بيته حتى جاء الصحابة يطلبونه للبيعة.
2. أنّ الصحابة من المهاجرين والأنصار والناس عامّة هم الذين قصدوا عليّاً وطلبوا منه أن يوافق على البيعة وألحّوا عليه حتى قبلها.
3. أنّ عليّاً كان أحقّ الناس بالخلافة يومئذ في نظر الصحابة، ويدلّ على ذلك إلحاحهم عليه، ليقبل البيعة وتصريحهم بأنّهم لا يعلمون أحقّ منه بالخلافة يومئذ.
4. اتّفاق الناس على عليّ وإجماعهم على بيعته وفيهم المهاجرون والأنصار، ولم يتوقّف عن بيعته إلاّ أهل الشام، وهذا لا يضر بعد إجماع أهل المدينة(4)
3. قال أبو حنيفة الدينوري (المتوفّى282هـ): فلمّا قُتل (يعني عثمان) بقي الناس ثلاثة أيام بلا إمام، وكان الذي يصلّي بالناس الغافقي، ثم بايع الناس عليّاً (رضي الله عنه)، فقال: «أيّها الناس، بايعتموني على ما بويع عليه من كان قبلي، وإنّما الخيار قبل أن تقع البيعة، فإذا وقعت فلا خيار، وإنّما على الإمام الاستقامة، وعلى الرعيّة التسليم، وإنّ هذه بيعة عامّة، من ردّها رغب عن دين الإسلام، وإنّها لم تكن فلتة». ثمّ قال الدِّينوري: وكتب عليّ بن أبي طالب إلى معاوية:«أمّا بعد، فقد بلغك الذي كان من مصاب عثمان، واجتماع الناس عليّ ومبايعتهم لي، فادخل في السلم أو ائذن بحرب». وبعث الكتاب مع الحجّاج بن غَزِيّة الأنصاري(5)
4. قال ابن واضح اليعقوبي ( المتوفي بعد292هـ): وبايع الناس إلاّ ثلاثة نفر من قريش: مروان بن الحكم، وسعيد بن العاص، والوليد بن عقبة... إلى أن قال: وقام قوم من الأنصار فتكلّموا وكان أوّل من تكلّم ثابت بن قيس بن شمّاس الأنصاري وكان خطيب الأنصار، فقال: والله يا أمير المؤمنين لئن كانوا تقدموك في الولاية (يريد الخلفاء الثلاثة) فما تقدّموك في الدين، ولئن كانوا سبقوك أمس فقد لحقتهم اليوم، ولقد كانوا وكنت لا يخفى موضعك، ولا يجهل مكانك، يحتاجون إليك فيما لا يعلمون، وما احتجت إلى أحد مع علمك. ثم قام خزيمة بن ثابت الأنصاري، وهو ذوالشهادتين، فقال: يا أميرالمؤمنين ما أصبنا لأمرنا هذا غيرك، ولا كان المنقلب إلاّ إليك، ولئن صدقنا أنفسنا فيك، فلأنت أقدم الناس إيماناً، وأعلم الناس بالله، وأولى المؤمنين برسول الله، لك ما لهم، وليس لهم ما لك. وقام صعصعة بن صوحان فقال: والله يا أمير المؤمنين لقد زيّنتَ الخلافة وما زانتْك، و رفعتَها و ما رفعتك، ولهي إليك أحوج منك إليها. ثم قام مالك بن الحارث الأشتر فقال: أيّها الناس هذا وصي الأوصياء،... إلى أن قال: من كملت فيه الفضائل، ولم يشكّ في سابقته وعلمه وفضله الأواخر، ولا الأوائل. ثم قام عقبة بن عمرو فقال: من له يوم كيوم العقبة وبيعة كبيعة الرضوان، والإمام الأهدى الذي لا يُخاف جوره، والعالم الذي لا يُخاف جهله(6)
والشّاهد علي الخبر ما قال علي (ع) في وصف بيعته بالخلافة: وبسطتم يدي فككفتُها، ومددتُموها فقبضتها، ثم تداككتم عليّ تداكّ الإبل الهيم على حياضها يوم وردها، حتى انقطعت النعل، وسقط الرداء، ووطئ الضعيف، وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إياي أن ابتهج بها الصغير، وهدج إليها الكبير، وتحامل نحوها العليل، وحسَرت إليها الكعاب(7)
5. روى الطبري(المتوفي310هـ) باسناده عن أبي بشير العابدي، قال: كنت بالمدينة حين قُتل عثمان، واجتمع المهاجرون والأنصار فيهم طلحة والزبير، فأتوا عليّاً، فقالوا: يا أبا حسن، هلمّ نبايعك، فقال: لا حاجة لي في أمركم، أنا معكم، فمن اخترتم فقد رضيت به فاختاروا، فقالوا: والله ما نختار غيرك... (8)
6. روى الحاكم النيسابوري(المتوفي403هـ) باسناده عن الأسود بن يزيد النخعي، قال: لمّا بويع علي بن أبي طالب(رضي الله عنه) على منبر رسول الله (ص) قال خزيمة بن ثابت، وهو واقف بين يدي المنبر:
إذا نحن بايعنا عليّاً فحسبنا *** أبو حسن مما نخاف من الفتنْ
وجدناه أولى الناس بالناس إنّه *** أطبُّ قريش بالكتاب وبالسُّننْ
وإنّ قريشاً ما تشقّ غباره *** إذا ما جرى يوماً على الضُّمَر البُدُن
وفيه الذي فيهم من الخير كلّه *** وما فيهمُ كلّ الذي فيه من الحَسن
ثمّ نفى الحاكم صحّة ما ادّعي على بعضهم من أنّهم قعدوا عن بيعته، ووصم من زعم ذلك بأنّه يجحد تلك الأحوال، والصواب أنّهم قعدوا عن نصرته في الحرب، وروى في هذا الشأن عدّة أخبار، ثمّ قال: فبهذه الأسباب وما جانسها، كان اعتزال من اعتزل عن القتال مع علي(رضي الله عنه) أو قتال من قاتله(9)
وممّا يؤكد ما سبق، وأنّ نفيراً من الصحابة إنّما قعدوا عن القتال معه لا عن بيعته(ع)، هو تلك الأعذار التي قدّموها بين يدي الإمام، ونقلها أبو حنيفة الدينوري، قال: ثمّ إنّ عليّاً(رضي الله عنه) نادى في الناس بالتأهُّب للمسير إلى العراق، فدخل عليه سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، ومحمد بن مسلمة، فقال لهم: «قد بلغني عنكم هناة كرهتها لكم»، فقال سعد: «قد كان ما بلغك، فأعطني سيفاً يعرف المسلم من الكافر حتى أُقاتل به معك»!!!
وقال عبد الله بن عمر:«أُنشدك الله أن تحملني على ما لا أعرف». وقال محمد بن مسلمة:«إنّ رسول الله(ص) أمرني أن أُقاتل بسيفي ما قوتل به المشركون، فإذا قوتل أهل الصلاة ضربت به صخر أُحد حتى ينكسر، وقد كسرته بالأمس». ثم خرجوا من عنده. ثمّ إنّ أُسامة بن زيد دخل، فقال: «اعفني من الخروج معك في هذا الوجه، فإنّي عاهدت الله ألاّ أُقاتل من يشهد أن لا إله إلاّ الله»(10)
ويؤكّده أيضاً قول ابن أبي الحديد: فأمّا أصحابنا (يعني المعتزلة) فإنّهم يذكرون في كتبهم أنّ هؤلاء الرَّهط إنّما اعتذروا بما اعتذروا به لمّا ندبهم إلى الشخوص معه لحرب أصحاب الجمل، وأنّهم لم يتخلّفوا عن البيعة، وإنّما تخلّفوا عن الحرب(11)
7 . قال الإمام أبو عبد الله القرطبي (المتوفّى 671هـ): انعقدت خلافته (يعني خلافة عليّ(ع)) في مسجد رسول الله (ص)، ومهبط وحيه، ومقرّ النبوة، وموضع الخلافة، بجميع من كان فيها من المهاجرين والأنصار، بطوع منهم وارتضاء واختيار... (12)
مع هذه الشواهد، وأقواها، حسب مباني القوم، رواية أحمد بن حنبل، وهي صحيحة على شرط مسلم و رجالها ثقات رجال الشيخين، هل يبقى في قلب أحد شكّ في بيعة المهاجرين والأنصار لعليّ (ع) بالخلافة؟ وهل يحق لمنصف أن يذعن لما قاله ابن تيمية: نصف الأُمّة ـ أو أقل أو أكثر ـ لم يبايعوه (يعني: عليّ بن أبي طالب)؟ وهل يجهل ابن تيمية هذه الأقوال، وهذه الأخبار والروايات التاريخية؟
نحن لا نظنّ ذلك، ولكنّه الهوى الذي يوافق الهوى الأمويّ البغيض، ويهوي بصاحبه في هذا الوادي السحيق.
ونختم البحث في هذا الموضوع بالإشارة إلى أنّ مؤلِّفا كتاب «بيعة علي بن أبي طالب في ضوء الروايات الصحيحة» قد تتبّعا الروايات التي تزعم أنّ بعض الصحابة امتنع عن بيعة عليّ(ع)، وناقشا أسانيدها، فوجدا أنّها كلّها ضعيفة أو منكرة، وأوردا الروايات والأقوال التي تثبت إجماع المهاجرين والأنصار والبدريين وكبار الصحابة على بيعته(ع) وخلصا إلى النتيجة التالية، وهي أنّ: «كلّ الروايات التي استثنت بيعة بعض كبار الصحابة كسعد وابن عمر وأُسامة وغيرهم، روايات ضعيفة منكرة، تعارضها الروايات الصحيحة، وإلى الآن لم نجد رواية سليمة تثبت تخلّف بعض هؤلاء عن البيعة»(13).(14)
نقول: تضافرت الروايات والأخبار على أنّ الصحابة والتابعين قد بايعوا عليّاً بيعة واقعية ولم يتخلّف عنه إلاّ بضعة أفراد. و إليك نتفاً ممّا ذكره المحدّثون و المؤرخون :
1. قال ابن سعد (المتوفّى230هـ): قالوا... و بويع لعلي بن أبي طالب رحمه الله بالمدينة، الغد من يوم قُتل عثمان، بالخلافة، بايعه: طلحة والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وعمّار بن ياسر، وأُسامة بن زيد، وسهل بن حنيف، وأبوأيوب الأنصاري، ومحمد بن مسلمة، وزيد بن ثابت، وخزيمة بن ثابت، وجميع من كان بالمدينة من أصحاب رسول الله (ص) وغيرهم(2)
2. روى امام ابن تيميه أحمد بن حنبل (المتوفي241هـ) باسناده عن محمد بن الحنفية قال: كنت مع علي، وعثمان محصور، قال: فأتاه رجل فقال: إنّ أمير المؤمنين مقتول،... إلى أن قال: فأتى عليٌّ الدار، وقد قُتل الرجل فأتى داره فدخلها وأغلق عليه بابه، فـأتـاه النـاس فضـربوا عليـه الباب فـدخلوا عليـه فقـالوا: إنّ هـذا الـرجل قد قُتل، ولابدّ للناس من خليفة، ولا نعلم أحداً أحق بها منك، فقال لهم علي: لا تريدوني (وفي رواية الطبري: لا تفعلوا) فإنّي لكم وزير خيـر مني لكـم أميـر. فقالوا: لا والله ما نعلم أحداً أحقّ بها منك. قال: فإن أبيتم عليّ فإنّ بيعتي لا تكون سرّاً ولكن أخرج إلى المسجد، فمن شاء أن يبايعني بايعني. قال: فخرج إلى المسجد فبايعه الناس(3)
يقولان المؤلّفان (أُمّ مالك الخالدي وحسن فرحان المالكي من اهل السّنّة): والرواية تدلّ على أُمور:
1. زهد علي في الخلافة، وعدم طلبه لها أو طمعه فيها، واعتزاله في بيته حتى جاء الصحابة يطلبونه للبيعة.
2. أنّ الصحابة من المهاجرين والأنصار والناس عامّة هم الذين قصدوا عليّاً وطلبوا منه أن يوافق على البيعة وألحّوا عليه حتى قبلها.
3. أنّ عليّاً كان أحقّ الناس بالخلافة يومئذ في نظر الصحابة، ويدلّ على ذلك إلحاحهم عليه، ليقبل البيعة وتصريحهم بأنّهم لا يعلمون أحقّ منه بالخلافة يومئذ.
4. اتّفاق الناس على عليّ وإجماعهم على بيعته وفيهم المهاجرون والأنصار، ولم يتوقّف عن بيعته إلاّ أهل الشام، وهذا لا يضر بعد إجماع أهل المدينة(4)
3. قال أبو حنيفة الدينوري (المتوفّى282هـ): فلمّا قُتل (يعني عثمان) بقي الناس ثلاثة أيام بلا إمام، وكان الذي يصلّي بالناس الغافقي، ثم بايع الناس عليّاً (رضي الله عنه)، فقال: «أيّها الناس، بايعتموني على ما بويع عليه من كان قبلي، وإنّما الخيار قبل أن تقع البيعة، فإذا وقعت فلا خيار، وإنّما على الإمام الاستقامة، وعلى الرعيّة التسليم، وإنّ هذه بيعة عامّة، من ردّها رغب عن دين الإسلام، وإنّها لم تكن فلتة». ثمّ قال الدِّينوري: وكتب عليّ بن أبي طالب إلى معاوية:«أمّا بعد، فقد بلغك الذي كان من مصاب عثمان، واجتماع الناس عليّ ومبايعتهم لي، فادخل في السلم أو ائذن بحرب». وبعث الكتاب مع الحجّاج بن غَزِيّة الأنصاري(5)
4. قال ابن واضح اليعقوبي ( المتوفي بعد292هـ): وبايع الناس إلاّ ثلاثة نفر من قريش: مروان بن الحكم، وسعيد بن العاص، والوليد بن عقبة... إلى أن قال: وقام قوم من الأنصار فتكلّموا وكان أوّل من تكلّم ثابت بن قيس بن شمّاس الأنصاري وكان خطيب الأنصار، فقال: والله يا أمير المؤمنين لئن كانوا تقدموك في الولاية (يريد الخلفاء الثلاثة) فما تقدّموك في الدين، ولئن كانوا سبقوك أمس فقد لحقتهم اليوم، ولقد كانوا وكنت لا يخفى موضعك، ولا يجهل مكانك، يحتاجون إليك فيما لا يعلمون، وما احتجت إلى أحد مع علمك. ثم قام خزيمة بن ثابت الأنصاري، وهو ذوالشهادتين، فقال: يا أميرالمؤمنين ما أصبنا لأمرنا هذا غيرك، ولا كان المنقلب إلاّ إليك، ولئن صدقنا أنفسنا فيك، فلأنت أقدم الناس إيماناً، وأعلم الناس بالله، وأولى المؤمنين برسول الله، لك ما لهم، وليس لهم ما لك. وقام صعصعة بن صوحان فقال: والله يا أمير المؤمنين لقد زيّنتَ الخلافة وما زانتْك، و رفعتَها و ما رفعتك، ولهي إليك أحوج منك إليها. ثم قام مالك بن الحارث الأشتر فقال: أيّها الناس هذا وصي الأوصياء،... إلى أن قال: من كملت فيه الفضائل، ولم يشكّ في سابقته وعلمه وفضله الأواخر، ولا الأوائل. ثم قام عقبة بن عمرو فقال: من له يوم كيوم العقبة وبيعة كبيعة الرضوان، والإمام الأهدى الذي لا يُخاف جوره، والعالم الذي لا يُخاف جهله(6)
والشّاهد علي الخبر ما قال علي (ع) في وصف بيعته بالخلافة: وبسطتم يدي فككفتُها، ومددتُموها فقبضتها، ثم تداككتم عليّ تداكّ الإبل الهيم على حياضها يوم وردها، حتى انقطعت النعل، وسقط الرداء، ووطئ الضعيف، وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إياي أن ابتهج بها الصغير، وهدج إليها الكبير، وتحامل نحوها العليل، وحسَرت إليها الكعاب(7)
5. روى الطبري(المتوفي310هـ) باسناده عن أبي بشير العابدي، قال: كنت بالمدينة حين قُتل عثمان، واجتمع المهاجرون والأنصار فيهم طلحة والزبير، فأتوا عليّاً، فقالوا: يا أبا حسن، هلمّ نبايعك، فقال: لا حاجة لي في أمركم، أنا معكم، فمن اخترتم فقد رضيت به فاختاروا، فقالوا: والله ما نختار غيرك... (8)
6. روى الحاكم النيسابوري(المتوفي403هـ) باسناده عن الأسود بن يزيد النخعي، قال: لمّا بويع علي بن أبي طالب(رضي الله عنه) على منبر رسول الله (ص) قال خزيمة بن ثابت، وهو واقف بين يدي المنبر:
إذا نحن بايعنا عليّاً فحسبنا *** أبو حسن مما نخاف من الفتنْ
وجدناه أولى الناس بالناس إنّه *** أطبُّ قريش بالكتاب وبالسُّننْ
وإنّ قريشاً ما تشقّ غباره *** إذا ما جرى يوماً على الضُّمَر البُدُن
وفيه الذي فيهم من الخير كلّه *** وما فيهمُ كلّ الذي فيه من الحَسن
ثمّ نفى الحاكم صحّة ما ادّعي على بعضهم من أنّهم قعدوا عن بيعته، ووصم من زعم ذلك بأنّه يجحد تلك الأحوال، والصواب أنّهم قعدوا عن نصرته في الحرب، وروى في هذا الشأن عدّة أخبار، ثمّ قال: فبهذه الأسباب وما جانسها، كان اعتزال من اعتزل عن القتال مع علي(رضي الله عنه) أو قتال من قاتله(9)
وممّا يؤكد ما سبق، وأنّ نفيراً من الصحابة إنّما قعدوا عن القتال معه لا عن بيعته(ع)، هو تلك الأعذار التي قدّموها بين يدي الإمام، ونقلها أبو حنيفة الدينوري، قال: ثمّ إنّ عليّاً(رضي الله عنه) نادى في الناس بالتأهُّب للمسير إلى العراق، فدخل عليه سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، ومحمد بن مسلمة، فقال لهم: «قد بلغني عنكم هناة كرهتها لكم»، فقال سعد: «قد كان ما بلغك، فأعطني سيفاً يعرف المسلم من الكافر حتى أُقاتل به معك»!!!
وقال عبد الله بن عمر:«أُنشدك الله أن تحملني على ما لا أعرف». وقال محمد بن مسلمة:«إنّ رسول الله(ص) أمرني أن أُقاتل بسيفي ما قوتل به المشركون، فإذا قوتل أهل الصلاة ضربت به صخر أُحد حتى ينكسر، وقد كسرته بالأمس». ثم خرجوا من عنده. ثمّ إنّ أُسامة بن زيد دخل، فقال: «اعفني من الخروج معك في هذا الوجه، فإنّي عاهدت الله ألاّ أُقاتل من يشهد أن لا إله إلاّ الله»(10)
ويؤكّده أيضاً قول ابن أبي الحديد: فأمّا أصحابنا (يعني المعتزلة) فإنّهم يذكرون في كتبهم أنّ هؤلاء الرَّهط إنّما اعتذروا بما اعتذروا به لمّا ندبهم إلى الشخوص معه لحرب أصحاب الجمل، وأنّهم لم يتخلّفوا عن البيعة، وإنّما تخلّفوا عن الحرب(11)
7 . قال الإمام أبو عبد الله القرطبي (المتوفّى 671هـ): انعقدت خلافته (يعني خلافة عليّ(ع)) في مسجد رسول الله (ص)، ومهبط وحيه، ومقرّ النبوة، وموضع الخلافة، بجميع من كان فيها من المهاجرين والأنصار، بطوع منهم وارتضاء واختيار... (12)
مع هذه الشواهد، وأقواها، حسب مباني القوم، رواية أحمد بن حنبل، وهي صحيحة على شرط مسلم و رجالها ثقات رجال الشيخين، هل يبقى في قلب أحد شكّ في بيعة المهاجرين والأنصار لعليّ (ع) بالخلافة؟ وهل يحق لمنصف أن يذعن لما قاله ابن تيمية: نصف الأُمّة ـ أو أقل أو أكثر ـ لم يبايعوه (يعني: عليّ بن أبي طالب)؟ وهل يجهل ابن تيمية هذه الأقوال، وهذه الأخبار والروايات التاريخية؟
نحن لا نظنّ ذلك، ولكنّه الهوى الذي يوافق الهوى الأمويّ البغيض، ويهوي بصاحبه في هذا الوادي السحيق.
ونختم البحث في هذا الموضوع بالإشارة إلى أنّ مؤلِّفا كتاب «بيعة علي بن أبي طالب في ضوء الروايات الصحيحة» قد تتبّعا الروايات التي تزعم أنّ بعض الصحابة امتنع عن بيعة عليّ(ع)، وناقشا أسانيدها، فوجدا أنّها كلّها ضعيفة أو منكرة، وأوردا الروايات والأقوال التي تثبت إجماع المهاجرين والأنصار والبدريين وكبار الصحابة على بيعته(ع) وخلصا إلى النتيجة التالية، وهي أنّ: «كلّ الروايات التي استثنت بيعة بعض كبار الصحابة كسعد وابن عمر وأُسامة وغيرهم، روايات ضعيفة منكرة، تعارضها الروايات الصحيحة، وإلى الآن لم نجد رواية سليمة تثبت تخلّف بعض هؤلاء عن البيعة»(13).(14)
لا يوجد تعليق