عيد الأضحى المبارك، فرصة ثمينة ينبغي اغتنامها للتقرب إلى الله وهو عيد يرفع فيه الناس شعار الطاعة لله في ضوء العبوديّة له سبحانه. ولذلك فإنّ وجوب تقديم الأضحية في يوم عيد الأضحى في أرض منى يتضمّن في باطنه ذبح النفس الدنيئة والاهتمام بالورع والتقوى.
ولا تخفى ضرورة معرفة أبعاد وزوايا عيد الأضحى في المعارف الإسلاميّة والتي من شأنها حث المسلمين على الانتفاع بهذا اليوم المبارك والمفعم بالخيرات.
ويجدر بنا في هذا المجال، اعتماد آراء سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي لمعرفة أسباب وجود عيد الأضحى المبارك والمضيّ في سبيل جهاد النفس الذي هو الجهاد الأكبر(1). لقد فسّر الكثير من المفسّرين >يوم الحجّ الأكبر< بمعنى يوم عيد الأضحى الذي هو أهمّ أيام الحجّ كما أنّ روايات أهل البيت ^ وروايات أهل السنّة تؤيّد هذا المعنى أيضا(2)، ولذلك يجدر بنا التعرّف على أسباب وجود عيد الأضحى من خلال الدراسة المتعمّقة التي قام بها سماحته وهي:
عيد الأضحى؛ تجليّ عظمة الإسلام في مؤتمر الحجّ
قال سماحته في بيان أهميّة عيد الأضحى المبارك ومؤتمر الحج العظيم: إنّ لعيد الأضحى خصوصيّة فريدة جعلته من أهمّ أيّام الله وأيّام عبادته(3).
كما صرّح سماحته على رمزيّة عيد الأضحى لعظمة الإسلام ومؤتمر الحج العظيم وقال: نحن المسلمين، نصوم شهر رمضان الكريم ونتوب فيه من الذنوب ونحتفل آخره لما وفقنا الله فيه من العبادة، كذلك عندما ينتهي زوّار بيت الله الحرام من مناسك الحج، يحتفلون بعيد الأضحى ولكن لا تنحصر آثار أعمالهم بهم فحسب وإنّما ما يحصل به هو مجد للإسلام وعظمة للعالم الإسلامي وهذا هو دور مؤتمر الحج(4).
واعتبر المرجع الأعلى للشيعة سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازيّ بأنّ عيد الأضحى المبارك هو ضيافة الله لحجاج بيته ومهبط وحيه، فقال: اختار الله سبحانه عيد الأضحى لضيافة حجاج بيت الله بأجمعهم فهم ضيوف الله فينبغي الاحتفال بهذه الضيافة(5).
ويرى سماحته بأنّ المسلمون ولو لم يكونوا في مكّة بأجمعهم، إلاّ أنّهم ينتفعون بهذا العيد المبارك ويحتفلون ويفرحون به وهذا يدلّ على اتّساع مائدة هذه الضيافة الإلهيّة من مهبط الوحي إلى جميع البلاد الإسلامية وأنّها تعمّ المسلمين كافّة.
عيد الأضحى؛ رمز فداء رجل ربّانيّ عظيم وبطل التوحيد
قال سماحته في بيان فلسفة الأضحية في أرض منى: إحدى مناسك الحجّ في اليوم العاشر من ذي الحجّة الحرام هو أن يضحّي الحاجّ بأحد الأنعام في منى، وهذه فريضة إسلاميّة صريحة على كلّ مسلم؛ ولكن أحد الأسرار التي تكمن فيه هي إحياء ذكرى ما قام به الرجل الربّاني العظيم وبطل التوحيد، النبيّ إبراهيم خليل الله(عليه السلام) من الفداء(7).
وقال سماحته في توضيح ذلك: إنّ قضيّة إبراهيم الخليل(ع) هي أنأأنبشيسأنّ الله سبحانه أمره بذبح ابنه الغالي في أرض منى في سبيل الله إكمالاً لروحه وإثباتاً لكفاءته واستعداده للفداء في سبيل الله، وإنّ ذلك كان اختباراً منه سبحانه لإبراهيم(عليه السلام)، ولذلك عندما تهيّأ(عليه السلام) للتضحية طاعة لأمر ربّه، جاءه النداء الربّانيّ بأن يذبح الكبش بدلاً من ابنه(8).
ولذلك يحيي زوار بيت الله ذكرى إخلاص إبراهيم(عليه السلام) وقوّة إيمانه وفداءه في القلب بالتضحية بأحد الأنعام(خروف، أو بقرة أو إبل) بأرض منى وبذلك يتذاكرون فيما بينهم درس التضحية والفداء وكأنّهم يقولون فعلاً بأنّ الرجل الربانيّ هو الذي يفدي جميع ما عنده في سبيل الله ـ كما فدا سيدنا إبراهيم(عليه السلام) بكلّ ما عنده ـ وهذه عبق من أسرار التضحية في أرض منى(9).
عيد الأضحى؛ عيد الطاعة
إنّ عيد الأضحى في منظور سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي هو رمز الطاعة واتّباع الأوامر الإلهيّة. قال سماحته في كلمة: يحتفل زوار بيت الله في منى بعيد الأضحى الذي هو ثاني أكبر أعياد المسلمين بعد أداء فريضة الحجّ والانتهاء من أغلب مراحله، فيواكبهم سائر المسلمين بالاحتفال بهذا العيد الإلهي(10).
عيد الأضحى في تفسير القرآن
قسماً بطلوع الفجر صبيحة عيد الأضحى
قال المفسّر القرآنيّ الكبير سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازيّ في بيان الرؤية القرآنيّة لعيد الأضحى، وشرح عبارة >والفجر<(11) وعلاقتها الوثيقة مع فجر عيد الأضحى: المراد من الفجر هو فجر يوم عيد الأضحى لما يضجّ به في مناسك الحجّ، فإنّ الحجاجّ في المشعر ينتظرون طلوع الفجر وكلّهم مشغولون بالمناجاة مع ربّهم وبعد الطلوع يقفون في المشعر هنيئة ثمّ يسيرون نحو منى أفواجاً؛ كالسيل المتدفق. فيرمون الجمرات في منى ثم يضحّون ويقصّرون. نعم! قسماً بطلوع الفجر من يوم عيد الأضحى المبارك الذي ترتسم فيه هذه المشاهد العظيمة الرائعة(12).
عيد الأضحى؛ التسليم والرضا بالأمر الإلهيّ
لا شكّ في ضرورة التدبّر والتعمّق في فلسفة وجود عيد الأضحى من خلال مراجعة القرآن الكريم والروايات الشريفة وكذلك آراء المراجع الدينيّة وعلماء المسلمين لمعرفة حقيقة قضيّة نبيّ الله إبراهيم(عليه السلام) وفداءه بابنه إسماعيل(عليه السلام).
قال صاحب التفسير الأمثل سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي في شرح هذه القضيّة الهامّة: إنّ إبراهيم(عليه السلام) نجح مرات عديدة في عظيم ما امتحنه واختبره الله فيه، وهذه المرة أيضاً سلّم أمر ربّه، وأقدم على ذبح فلذة كبده الذي انتظره طوال حياته والذي بلغ وصار شابّاً!(13).
فمن جهة، الأب يصارح ابنه البالغ من العمر(13) عاما بقضيّة الذبح، ويطلب منه إبداء رأيه فيها، حيث جعله هنا شخصيّة مستقلّة حرّة الإرادة، وكان يريد إشراك ولده في هذا الجهاد العظيم مع النفس، وأن يذوق حلاوة التسليم والرضا بالأمر الإلهي مثل أبيه(14).
ومن جهة اخرى، عمد الابن إلى ترسيخ عزم وتصميم والده في تنفيذ ما أمر به، إذ لم يقل له: اذبحني، وإنّما قال له: افعل ما أمرت به، فإنّني مستسلم لهذا الأمر، وخاصّة أنّه خاطب أباه بكلمة >يا أَبَتِ< كي يوضّح أنّ هذه القضيّة لا تقلّل من عاطفة الابن تجاه أبيه ولو بمقدار ذرّة(16).
وقال سماحته بعد ذلك في تفسير كيفية نجاح إبراهيم الخليل(عليه السلام) وابنه إسماعيل(عليه السلام): إن إبراهيم(عليه السلام) أظهر أدبا رفيعا تّجاه ربّه سبحانه وتعالى، لألا يعتمد أحد على إيمانه وإرادته وتصميمه فقط، وإنّما يعتمد على إرادة ومشيئة اللّه، وبعبارة اخرى: أن يطلب توفيق الاستعانة والاستقامة من اللّه.
وبهذا الشكل يجتاز الأب وابنه المرحلة الاولى من هذا الامتحان الصعب بنجاح كامل(17).
عيد الأضحى؛ الخلاص من التعلّق النفسانيّ
بيّن سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي كيفية إقدام نبيّ الله إبراهيم(عليه السلام) على ذبح ابنه العزيز وقال: في لحظات خطيرة كان ينبغي الامتثال إلى الأمر الإلهيّ، وحين رأى الوالد استسلام ولده لأمر الله ضمّه إلى صدره وقبّل وجهه وبكيا معاً، والبكاء تعبير عن المشاعر النبيلة بينهما ومقدّمة لملاقاة الّله شوقا إليه(18).
والقرآن يصف هذا المشهد فيقول: >فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ<(19)(20).
فسّر سماحته هذه الآية القرآنيّة وقال: رأى البعض بأنّ المراد من عبارة >تَلَّهُ لِلْجَبِينِ<(21) هو أنّه وضع جبين ولده ـ طبقا لاقتراحه ـ على الأرض، حتّى لا تقع عيناه على وجه ابنه فتهيج لديه عاطفة الابوّة وتمنعه من تنفيذ الأمر الإلهي المقدس! فجعل إبراهيم(عليه السلام) وجه إسماعيل(عليه السلام) على الأرض ووضع السكين على نحره ولكنّ السكين لم تؤثّر به شيئا!...(22).
فتحيّر إبراهيم(عليه السلام) من ذلك، فأعاد عليه السكين مرة أخرى فلم تؤثّر أيضاً. فالخليل يأمر السكين أن >اذبحي< والجليل ينهاها ويقول >لا تذبحي<! والسكين لا تمتثل إلا أمر الجليل(23).
وهنا ينهي القرآن الكريم الانتظار بتعبير قصير كثير المعنى ويقول: >وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ<(24)... > قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا<(25).
ويقول سبحانه: نحن نمنحهما توفيق النجاح في الامتحان والابتلاء، ونحفظ لهم ولدهم العزيز، نعم فالذي يستسلم تماما وبكلّ وجوده للأمر الإلهي ويصل إلى أقصى درجات الإحسان، لا مكافأته له غير هذه. ثم يزيد: >إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ<(26).
عيد الأضحى؛ مكافأة العباد المخلصين المؤمنين
بيّن سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازيّ النقاط التفسيريّة الهامّة والمتميّزة في سبيل معرفة فلسفة وجود عيد الأضحى استنادا إلى الروايات فقال: ورد في بعض الروايات أنّه حين أقدم إبراهيم(عليه السلام) على ذبح ابنه اسماعيل، نادى جبرائيل عجباً: >الله أكبر الله أكبر<... فنادى إسماعيل(عليه السلام): >لا إله إلا الله، والله أكبر<... فهتف أبوه بطل الفداء: >الله أكبر ولله الحمد<(27) وهذه الأذكار تشبه ما نردّده في عيد الأضحى(28).
الذبح العظيم؛ مكافأة نجاح نبيّ الله إبراهيم(عليه السلام) في الابتلاء الإلهيّ
وتابع سماحته بيان فلسفة وجود عيد الأضحى وكيفيّة تدوين السنن الإبراهيميّة العظيمة فقال: ولكيلا ينقطع مشروع إبراهيم ويكون قد أفدى في سبيل ربّه وحقّق إرادته، فإنّ الله سبحانه تعالى بعث إليه كبشاً ليفدي به بدلاً من ولده وتكون هذه سنّة لمن بعدهم في مناسك الحجّ وفي أرض منى، كما يقول سبحانه في القرآن الكريم: >وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ<(29).
فلم يثني الله سبحانه على نجاح إبراهيم(عليه السلام) في هذا البلاء العظيم فحسب، وإنّما خلد ذكرى هذا الفداء، كما قال في الآية التالية: >وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ<(30).
وتابع سماحته الحديث قائلاً: إنّ الله سبحانه وتعالى يؤيّد نجاح إبراهيم في المرحلة الأولى من ابتلاءه العظيم، ويتقبّل ذلك منه(31)، وهذا في حدّ ذاته جزاء ومكافأة عظيمة وهي أهمّ بشارة لإبراهيم(عليه السلام). ثمّ طرح سبحانه مسألة >التضحية بالذبح العظيم< و>خلود ذكرى إبراهيم وسنّته< و>سلام الله عليه< على أنّها مواهب ثلاثة أخر للمحسنين(32).
عيد الأضحى؛ يوم التصدّق على الفقراء والمساكين ومعونتهم
أشار سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي إلى إحدى أهمّ معالم عيد الأضحى المبارك وهي التصدّق بلحم الذبيحة على الفقراء والمساكين في المجتمع وقال: وعلينا أن نعرف رأي الدين بالنسبة إلى لحوم الذبائح وهل على المسلمين تجاهها فرض ووظيفة معيّنة؟
للإجابة على هذا السؤال، نرجع إلى القرآن الكريم ونجد أنّ سورة الحجّ تأمر كلّ من يضحّي في يوم العيد بمنى أن: >اَطْعِمُوا الْبائِسِ الفَقير<(33). ويقول الله سبحانه في موضع آخر: >فَكُلُوا مِنْها وَاطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرّ<(34)(35).
الاستهلاك الصحيح؛ إكمال لفوائد عيد الأضحى المعنويّة
بيّن سماحة المرجع الدينيّ الأعلى الشيخ مكارم الشيرازيّ ما يصحّ من الموارد لصرف لحوم الأضاحي ودور ذلك في إكمال الفائدة المعنويّة للمسلمين في يوم العيد وقال: ذكر الفقهاء في الرسائل العمليّة بلزوم تقسيم لحم الأضحية إلى ثلاثة أقسام: قسم لصاحب الأضحية، وقسم للمؤمنين والآخر للفقراء والمساكين.
وهذه الإرشادات الصريحة دليل على أنّ فلسفة ذبح هذه الأنعام، إضافة إلى فائدتها المعنويّة، هي صرفها في الموارد الصحيحة وعدم الإسراف والتبذير بها(36).
عيد الأضحى ودور الدول الإسلاميّة
وأكّد سماحته على ضرورة تولّي أمر الذبائح في عيد الأضحى بشكل صحيح على مستوى العالم الإسلامي وقال: واليوم، من واجب المسلمين والدول الإسلاميّة اعتماد تدابير وقرارات للانتفاع بهذه اللحوم بأفضل شكل ممكن تناسباً مع سائر أهداف هذه الفريضة العظيمة. وينبغي تشييد برادات متطوّرة وعدم دفن هذه اللحوم لكي تصرف في الموارد التي بيّنها القرآن الكريم تدريجيّاً(37).
في القرون السابقة لم يكن عدد الحجاج كبيراً كما هو عليه اليوم، فكانت تصرف اللحوم في نفس اليوم بنحو صحيح. ولكن اليوم بما أنّ التنقّل صار سهلاً بواسطة وسائط النقل، إزداد عدد الزوار، وذلك يحتّم ضرورة استخدام الآلات والأجهزة الحديثة لاجتناب تلف هذه اللحوم وصرفها لمصلحة الحجاج والمسلمين. هذا واجب الدول الإسلاميّة والشعوب الإسلاميّة الواعية حتّى تتحقّق القيم الإسلاميّة ويتجنّب التبذير والإسراف(38).
كلمة أخيرة
أكّد سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي في الختام على أهمّ خصائص عيد الأضحى المستقاة من امتثال إبراهيم(عليه السلام) لأمر الله في ذبح ابنه العزيز، وقال: من علامات عظمة شأن هذا الذبح أنّه ازداد عاماً بعد عامّ واليوم يضحى في ذكرى تلك التضحية ما يبلغ مليون أضحية(39).
ولذلك قال الله سبحانه في كتابه الكريم: >سلام على إبراهيم<(40) بلى... >كذلك نجزي المحسنين<(41)(42).
وقد تبيّن بعيد الأضحى أنّ إبراهيم(عليه السلام) أسوة للجميع وقدوة لجميع المخلصين وعشاق درب المحبّة الإلهيّة، وإنّ عمله ذاك تحوّل بعده إلى سنّة الحجّ التي ستستمرّ حتّى نهاية الدنيا. فهو أبو الأنبياء العظام وأبو الأمّة الإسلاميّة وأبو نبيّنا محمّد(صلى الله عليه وآله)(44).
لا يوجد تعليق