إن يوم التاسع من شهر ذي الحجة المسمّى بيوم عرفة، يوم عظيم وروحاني يذكرنا بعروج الإمام الحسين(عليه السلام) وزيارته(عليه السلام) ودعاءه بهذا الدعاء بشكلٍ خاص والذي ترتسم فيه أشرف المفاهيم والكلمات المعنوية من المعارف الإسلامية والشيعية.
ولا شك بأنّ إحدى السنن الفضيلة التي أحياها نظام الجمهورية الإسلامية في إيران، هي قراءة دعاء عرفة بشكل جماعي وفي كل أرجاء البلاد(1). من هنا ولتأصيل المعرفة بمضامين هذا الدعاء ومعالمه الفريدة، من الضروري الاستفادة من آراء وأفكار سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي(مدّ ظلّه) القيّمة في تبيينه المعرفيّ لهذا الدعاء الشريف بوصفه مفتاحاً لمشاكل أفراد المجتمع المسلم. كما أن ارتفاع مستوى معرفة مضامين دعاء عرفة ومنزلته ومنزلة هذا اليوم الفضيل يمهّد بدوره لتقرّب الإنسان من المقامات السامية ونيله للكمالات الروحانية العالية وتعينه على استدراك الماضي والاعتذار والندم عليه.
منزلة يوم عرفة
هو يوم مبارك وقد ورد في بعض الروايات بأنّه يوم عيد، ومن حيث مقارنة هذا اليوم بذكرى استشهاد مسلم بن عقيل فإنّه يبكي عينا ويقرّ الأخرى(2)؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى دعا عباده في يوم عرفة إلى عبادته وطاعته وبسط مائدة الجود والإحسان لهم، مما جعل الشيطان ذليلا حقيرا غاضبا فيه. ويستفاد من الروايات والأحاديث وكذلك من دعاء عرفة أنّ الله تبارك وتعالى له عناية خاصّة في هذا اليوم بعباده.
أهميّة دعاء عرفة
لا شكّ بأنّ قراءة دعاء عرفة يتمتّع بأهميّة متميّزة في المعارف الإسلاميّة وقد صرّح سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي خلال شرحه لأهميّة دعاء عرفة في غفران الذنوب بأن: الروايات التي وردت في أهميّة عرفة وصحراء عرفات، عجيبة للغاية وتدلّ على أنّ هذه الأرض الغريبة، تستجلب الرحمة الإلهيّة وتحطّ الذنوب وتنيل الصفح والمغفرة(3).
دعاء عرفة دليل على أحقيّة أهل البيت(عليهم السلام)
كما أعرب سماحته بأنّ دعاء عرفة هو من أهم الأدلّة على أحقيّة أهل البيت(عليهم السلام) وقال: من جملة ما يدلّ على أحقيّة الأئمّة من أهل البيت(عليهم السلام) هي أمثال هذه الأدعية كدعاء الصباح ودعاء كميل ودعاء الإمام الحسين(عليه السلام) في يوم عرفة وأدعية الصحيفة السجاديّة حيث لا يوجد لها مثيل في سائر المذاهب الإسلاميّة على الإطلاق(4). ومناجاة الإمام الحسين(عليه السلام) في يوم عرفة في صحراء عرفات جوهرة نفيسة من كنز هذا العشق الإلهيّ والقدسيّ(5).
لا شكّ بأنّ الدعاء يقرّب الإنسان إلى ربّه ويبعده عن الشيطان ومكائده. وبالدعاء تتحلّى روح الإنسان برقّة ولطف يتركان أثراً عميقاً في تعزيز أسس الإيمان في القلب وتهذيب النفس وتحلّيها بالأخلاق الكريمة(6).
وبما أنّ هذه الأدعية انبثقت من روح المعصوم العظيمة فجميعها على مستوى واحد من السموّ والرفعة، فيقترب الإنسان إلى ذروة المعرفة والكرامة الإنسانيّة بقراءتها واعيا لما تشتمل عليه من المضامين العالية(7).
دعاء عرفة؛ درس التوحيد والعبوديّة لله سبحانه
يرى سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي(مدّ ظلّه) بأنّ من جملة المضامين العالية والقيّمة التي نجدها في دعاء عرفة هي المفاهيم والمعارف الأصيلة المتعلّقة بمسألة التوحيد. وقال سماحته: الأدعية وخصوصاً أدعية المعصومين(عليهم السلام) زاخرة بدروس تربويّة وأخلاقيّة عالية. أدعية مثل دعاء عرفة الذي يشتمل على منظومة متكاملة من المعارف والعقائد وخصوصاً في مسألة التوحيد؛ وإنّ ما يموج بهذا الدعاء من المعارف التوحيديّة لا نجده في غيره من الأدعية(8).
دعاء عرفة؛ سلسلة متكاملة في معرفة الله
قال المرجع الديني الأعلى خلال تبيين المعارف الرفيعة والسامية في دعاء عرفة: إن دعاء عرفة هو سلسلة معرفية من العرفان الإسلاميّ ومعرفة الله ومعرفة النبيّ والولاية والأخلاق ومراحل السلوك إلى الله سبحانه وباختصار فإنّ هذا الدعاء سلسلة من المضامين الإسلاميّة الهامة على صورة دعاء.
وأضاف سماحته في تبيين ذلك: أنّ دعاء عرفة الذي وصلنا عن الإمام الحسين(عليه السلام) يشتمل على سلسلة دروس تفصيليّة في معرفة الله على مستوى عال، كما يحتوي على سلسلة متكاملة من الدروس التوحيديّة الأصيلة. يقول الإمام الحسين(عليه السلام) عندما يعدّ النعم والقدرة الإلهيّة: >وابتدعت خلقي من منيّ يمنى، ثمّ أسكنتني في ظلمات ثلاث: بين لحم وجلد ودم، لم تشهر بخلقي ولم تجعل إليّ شيئاً من أمري، ثمّ أخرجتني إلى الدنيا تامّاً سويّاً<(9).
التضرّع إلى الله والمناجاة معه؛ مفتاح معرفة الله
أكّد سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي على أهميّة وضرورة المناجاة مع الله سبحانه والتضرّع إليه على أنّها أهمّ دعامات دعاء عرفة وقال: ينبغي المناجاة مع الله والتضرّع إليه في هذا اليوم فإنّه من أفضل الأيّام للدعاء والمناجاة والتضرّع إلى الله سبحانه وتعالى(10).
وقال سماحته في ضوء كلام سيّد الشهداء(عليه السلام) في دعاء عرفة: نقول هنا: ما لك تتكبّر أيّها الإنسان؟! ما قيمتك في مقابل الكون وعظمته؟! عجبت لابن آدم أوله نطفة قذرة، وآخرة جيفة نتنة، وهو فيما بينهما وعاء للغائط أن يتكبّر! فيجب الإقرار إذن بأنّ الذرة التي لا تدخل في الحساب هو نحن! علينا أن نتعلّم هذه المعارف من الإمام الحسين(عليه السلام) حيث يقول في دعاء عرفة ودموعه تجري: >إلهي أنا الفقير في غناي فكيف لا أكون فقيراً في فقري، إلهي أنا الجاهل في علمي فكيف لا أكون جهولاً في جهلي<(11). كما قال(عليه السلام): >إلهي من كانت محاسنه مساوي فكيف لا تكون مساويه مساوي<(12). نعم! إنّ هذا المستوى من المعرفة الإلهيّة ينتج عنه ذلك الفداء والإخلاص في عاشوراء.
ودواء مرض الكبر الناتج عن الجهل، هو معرفة عظمة الخالق والخلقة والاطّلاع على الضعف الإنسانيّ. وهذه المعرفة لها تأثير مباشر على التواضع، كما أنّ التواضع له علاقة مباشرة بالعلم، والعلم مربوط بالمعرفة وكما يقول الإمام الحسين(عليه السلام): >مدارك العلم لقاح المعرفة<(13).
الشكر؛ طابع هامّ في دعاء عرفة
مسألة الشكر من جملة مضامين دعاء عرفة التي أكّد عليها سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي وقال: لقد ورد في مقطع من دعاء الإمام الحسين(عليه السلام) في يوم عرفة: >لو حاولت واجتهدت مدى الأعصار والأحقاب ولو عمّرتها أن أؤدّي شكر واحدة من أنعمك ما استطعت ذلك<(14)(15).
تأمّل قرآنيّ في المنزلة العظيمة ليوم عرفة
عرفة؛ اليوم المشهود
أكّد سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي في تفسيره للآية >وشاهد ومشهود<(16) على إطلاق مفردة >مشهود< على يوم عرفة حيث يشهد زوّار بيت الله الحرام ذلك اليوم، فقال: >الشاهد< ينطبق على يوم عيد الأضحى و>المشهود< يشير إلى يوم عرفة(17).
ولذلك فإنّ أهميّة يوم عرفة وضرورة التفكّر والتأمّل في دعاء الإمام الحسين(عليه السلام) فيه، يكشف لنا أنّ هذا اليوم، هو تجلي مشهد من مشاهد القيامة والبعث في هذه الدنيا، كما أنّ يوم عرفة، من جملة من يشهد يوم القيامة على عمل الإنسان(18).
دعاء عرفة؛ الاعتراف بحضوره سبحانه في كل زمان ومكان
ومن جملة المعالم القيّمة في كلمات الإمام الحسين(عليه السلام) في دعاء عرفة هو الحضور الإلهيّ حيث أشار سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي(مدّ ظلّه) إليه فقال: إنّ سيّد الشهداء الإمام الحسين(عليه السلام) خاطب الحضرة الإلهيّة في دعاء عرفة وقال: >عميت عين لا تراك عليها رقيباً<(19)(20).
برهان الغنى والفقر؛ دليل أساسيّ في دعاء عرفة
اعتبر المرجع الأعلى للشيعة سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي بأنّ من أهمّ الخصائص والمعالم التي يتضمنّها دعاء عرفة هي ماهيّة الغنى والفقر في المعارف الإسلاميّة، وقال: على الإنسان أن يبدأ نهاره بنور الهداية ويختمه بوعي واستعداد للتصدّي للعدوّ الباطنيّ والظاهريّ، والنصر لا يتأتّى في صراعه هذا إلاّ بنور الهداية الإلهيّة! فعندما نقول في دعاء عرفة: >واجعل غناي في نفسي< فنحن نستلهم من هذا المقطع بأنّ الغنى ليس أمراً خارجيّاً متمثّلاً في اكتناز الثروات وتشييد القصور والحصون المنيعة(21).
ثم بيّن سماحته حقيقة الفقر والغنى مستلهماً من كلام الإمام الحسين(عليه السلام) النورانيّ فقال: نجد في دعاء الإمام الحسين(عليه السلام) في يوم عرفة الذي هو من أكثر أدعية المعصومين الزاخرة بالمعاني العالية عمقاً وخصوصاً بالنسبة إلى المسائل التوحيديّة بأنّه(عليه السلام) يقول: >كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المُظهِر لك؟<(22)(23).
وتابع سماحته الحديث فقال: كذلك نجد في موضع آخر من دعاء عرفة >إلهي أنا الفقير في غناي، فكيف لا أكون فقيراً في فقري<(24).
ثمّ قام بترسيم المضامين العرفانيّة لمسألة الفقر والغنى من خلال المعارف الموجودة في دعاء الإمام الحسين(عليه السلام) في يوم عرفة فقال: ورد في دعاء عرفة >متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك، ومتى بعدت حتّى تكون الآثار هي التي توصل إليك، عميت عين لا تراك عليها رقيبا<(25).
دعاء عرفة؛ معرفة الذات طريق السعادة
إنّ اعتراف الإنسان بضعفه وفاقته، وضرورة اهتمامه باكتساب وتحصيل المعارف الإلهيّة هي إحدى المعالم القيّمة التي يشتمل عليها دعاء عرفة. قال سماحته مشيراً إلى هذه الحقيقة في دعاء عرفة: إنّ الذي يعاني من الضعف والفاقة في هذا المستوى، عليه أن يستسلم للحقّ ولربّه، وإنّ عدم معرفة الربّ وعدم معرفة الذات والكون، هي مصدر البؤس والشقاء للإنسان(26).
قال سماحته توضيحاً لذلك: أنظروا إلى دعاء عرفة وما فيه من التعابير العجيبة. فعندما يرى الإنسان الفداء المتمثّل في يوم عاشوراء، ربّما يدهش بادئ الأمر، ولكنّه عندما يقرأ دعاء الحسين(عليه السلام) في يوم عرفة، يجد بأنّ هذا الفداء، نابع من المعرفة هذه وتلك الأعمال منبثقة عن عقيدة ومعرفة. حينها يعرف الإنسان معنى ما يقوله الإمام الحسين(عليه السلام) في دعاء عرفة >إلهي من كانت محاسنه مساوي فكيف لا تكون مساويه مساوي، ومن كانت حقائقه دعاوي فكيف لا تكون دعاويه دعاوي< فإذا نظرنا إلى حقائق الإنسان وعلومه وجدناها مشحونة بالجهل، فكيف لا يكون جهله جهلاً. قوّتنا كذلك لو نظرنا إلى حقيقتها وجدناها ضعفاً ووهناً بأجمعها(27).
وأشار سماحته إلى سبل معرفة الله ونيل السعادة من خلال المضامين الرفيعة الموجودة في دعاء الإمام الحسين(عليه السلام) في يوم عرفة وقال: يقول الإمام الحسين(عليه السلام) في دعاء عرفة: إلهي! إنّ الناس يطلبون الآثار حتّى تدّلهم عليك، ولكن متى بعدت حتّى تكون الآثار هي التي تدلّ عليك؟ عميت عين لا تراك عليها رقيباً وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبّك نصيباً... وهل بعدت حتّى أجدك بواسطة الآثار.
قال الشاعر الفارسي:
متى غبت عن قلبي لكي أتمنّى وجودك
متى خفيت حتّى أبحث عن فيض جودك
لقد تجليّت لي في مائة ألف مظهر
لكي تشاهد بمائة ألف عين مبصر
فلو عرف الإنسان ربّه والكون من حوله وعرف نفسه، زال عنه التكبّر والاختيال وصار عبداً حقيقة، فلذلك علينا معرفة عظمة الخالق من خلال معرفة الخلق والكون(28).
كلمة أخيرة
أكّد سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي على أهميّة قراءة دعاء عرفة واعتبر ضرورة معرفة وفهم المعاني والمضامين الرفيعة والسامية الموجودة فيه، أمراً هامّاً وأساسيّاً وقال:
ينبغي قراءة دعاء عرفة بحضور القلب وفهم معانيه والتدبّر في مضامينه العالية والقيّمة والارتواء من فيض هذا اليوم العظيم(29).
يوم عرفة، يوم الدعاء والمناجاة، فليرفع المؤمنون أيديهم في هذا اليوم إلى السماء ويطلبون الفرج لجميع المسلمين، ونحن نتمنّى مشاركة الجميع في قراءة دعاء عرفة وأن لا ينسى بعضنا البعض من صالح الدعاء(30).
إلا أنّ أهميّة الدعاء في هذا اليوم تكمن في كون الدعاء مستجاباً حتّى أنّهم عليهم السلام أكّدوا على الدعاء للموتى أيضاً، وينبغي للمؤمنين التضرع لله في التفريج عن الأمّة الإسلاميّة ولا سيّما بلدنا الحبيب(31).
نسأل الله سبحانه بأن ينظر إلينا في هذا اليوم نظرة رحيمة ببركة هذا الدعاء وبركة شهداء هذا اليوم(مسلم بن عقيل وهاني بن عروة)، ولندعُ لتفريج الهموم وكشف الغموم عن العالم الإسلاميّ، ونطلب التوفيق لخدمة الإسلام والإخلاص في سبيل الله(32).
لا يوجد تعليق