إن واقعة الغدير باعتبارها تمثل أهم حركة تاريخية لحاكمية ولاية وإمامة الإمام المعصوم(عليه السلام) في سبيل استمرارية الإسلام الأصيل أسس النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) أساسها في الثامن عشر من ذي الحجة من العام العاشر للهجرة، ومن هنا يعتبر رفع المستوى المعرفي في مقولة "الغدير" وضرورة اتباع الإمام المعصوم(عليه السلام) أمرا أساسيا وعنصرا هاما في ثقافة الغدير، وذلك مما ضاعف ضرورة التأمل والتعمق في هذه المعالم الأساسية، ومن هنا نقدّم للقراء الكرام في هذا النص أهم أبعاد وزوايا العناصر الوجودية للولاية في واقعة الغدير مستضيئين بالآراء والنظريات العميقة لسماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي(مد ظله).
واقعة غدير خم في كلام سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي
في آخر سنة من حياته الشريفة حج النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) حجة الوداع، وخُتمت تلك الشعائر التي شهدت آخر مشاركة للنبي(صلى الله عليه وآله) بكل عظمةٍ وشموخ. وقد رافق النبي(صلى الله عليه وآله) في تلك المراسم حشود كبيرة من المسلمين، ولم تقتصر تلك المشاركة على أهل "المدينة" بل سار في ذلك الموكب النبوي المهيب كثير من المسلمين ومن مختلف مناطق الجزيرة العربية رغبة منهم في نيل ذلك الشرف التاريخي العظيم.
وبعد مضي ثمانية أيام على عيد الأضحى أي في الثامن عشر من ذي الحجة للسنة الهجرية العاشرة وفي يوم الخميس تحديدا صدر من النبي(صلى الله عليه وآله) أمرٌ مفاجئ لتلك الحشود المرافقة له بالتوقف في تلك الصحراء القاحلة ذات الرمال الحارقة فامتثل الجميع لأمره، وتوقفوا في رحاب "غدير خم".
ثم أخبرهم رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنّ عليهم أن يستعدوا لسماع رسالة إِلهية، جديدة في خطبته، وكان الذين يقفون على مسافة من رسول الله(صلى الله عليه وآله) لا يستطيعون رؤيته، لذلك صنعوا له منبراً من أحداج الإِبل ارتقاه رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال فيها بعد أن حمد الله وأثنى عليه واستعاذ به: «إِنّي أوشك أن أُدعى فأجيب، وإِني مسؤول وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟
قالوا: نشهد أنك بلّغت ونصحت وجهدت فجزاك الله خيراً.
قال: ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمّداً عبده ورسوله، وأن جنّته حقّ، وناره حقّ، وأن الموت حقّ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور؟
قالوا: بلى نشهد بذلك.
قال: اللّهم اشهد، ثمّ قال:
أيّها الناس ألا تسمعون؟ قالوا: نعم.
ثمّ ساد الجوّ صمت عميق، ولم يُسمع فيه سوى أزيز الرياح ... قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «... فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين».
فنادى مناد: وما الثقلان، يا رسول الله؟
قال: الثقل الأكبر كتاب الله طرفّ بيد الله عزّ وجلّ، وطرف بأيديكم فتمسكوا به لا تضلّوا، والآخر الأصغر عترتي، وإنّ اللطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يتفرّقا حتى يردا عليَّ الحوض، فسألت ذلك لهما ربّي، فلا تقدّموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا.
ثمّ أخذ بيد علي فرفعها حتى رؤي بياض آباطهما، وعرفه القوم أجمعون، فقال: أيّها الناس: من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟
قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: إِنّ الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم فمن كنت مولاه فعليٌّ مولاه» «يقولها ثلاث مرات»، وفي لفظ الإِمام أحمد إِمام الحنابلة: «أربع مرات». ثمّ قال: «اللّهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحبَّ من أحبّه، وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحقّ معه حيث دار، ألا فليبلغ الشاهد الغائب»[1].
... وبعد أن أتمّ النبي صلى الله عليه وآله خطبته، كان العرق يتصبب من رأسه الشريف ورأس علي(عليه السلام) وسائر الناس، ثمّ إن تلك الحشود لم يتفرقوا حتى نزل أمين وحي الله بقوله:(اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي ...) الآية. فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «الله أكبر على إِكمال الدين، وإِتمام النعمة، ورضى الرّب برسالتي والولاية لعلي من بعدي»... هذا المقطع هو خلاصة من حديث الغدير الشهير الوارد في كتب علماء أهل السنة والشيعة[2].
إبلاغ الولاية أهم مسؤولية أداها النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) في واقعة الغدير
ينبغي الإذعان بأن مهمة النبي الأكرم(صلی الله علیه وآله) في واقعة الغدير كانت مسألة سياسية، وقد تصدى البعض لمعارضتها، بل كانوا على استعداد للوقوف في وجه النبي صلى الله عليه وآله بسببها[3].
لذلك فإننا حينما نأخذ كل هذه الجوانب بنظر الاعتبار، ونريد دراسة الموضوع بشكل منصف غير منحاز والحكم عليه بعيدا عن التعصب والعناد، لن نصل إلى نتيجة سوى قضية الولاية وخلافة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، التي عرضت بشكل رسمي في غدير خم[4].
نعم! الأمر الذي لم يعلن عنه نبي الإسلام صلى الله عليه وآله بشكل رسمي حتى الأيام الأخيرة من عمره الشريف، الأمر الذي كان عِدلا لرسالة ونبوة خاتم الأنبياء والذي تقاسم عدد كبير للتصدي له ومحاربته، والذي ضمن الله لنبيه صلى الله عليه وآله أن يحفظه في تنفيذه، هو هذه المسألة المهمة والمصيرية ألا وهي خلافة النبي(صلى الله عليه وآله)؛ لأنه رغم أن النبي صلى الله عليه وآله عرض مرارا وتكرارا مسألة ولاية الإمام علي عليه السلام، ولكن ذلك لم يكن بصورة رسمية وأمام المسلمين من كافة البلدان؛ ولهذا السبب تم إنجاز هذه المهمة العظيمة حين رجوع النبي(صلى الله عليه وآله) من حجة الوداع وفي صحراء غدير خم وتحققت بأفضل نحو ممكن، وقد أكمل النبي صلى الله عليه وآله رسالته بتعيينه عليا عليه السلام خليفة له[5].
ضرورة إبلاغ الولاية في الإسلام
من الواضح أن بفضل "الولاية" تُقام العبادات من صلاة، وصوم، وحج، وزكاة، وفي ظلها يصير مضمون هذه العبادات بل وسائر العبادات عمليا؛ أي أنه بدون الولاية وحاكمية الإسلام ستكون هذه الأوامر مجرد حبر على ورق، فحالها حال الوصفة الطبيّة لا تنفع المريض في العلاج دون أن يعمل بها[6].
لذلك فإن الولاية بمعنى تطبيق قوانين الإسلام إنما تكون بواسطة الأئمة المعصومين "عليهم السلام" ونوابهم؛ ومن هنا فإن الولاية التي تحضى بمكانة أسمى من الصلاة والصوم والحج والزكاة هي الولاية التي تكون نتيجتها الحكومة الإسلامية؛ وهي التي نشأت من ولاية الإمام علي عليه السلام في غدير خم[7].
وبهذا البيان يمكن أن نفهم أنه لماذا كانت الولاية أهم من كل ما سواها من العناصر؛ لأن الولاية بحسب تعبير الإمام عليه السلام هي ضمانة تطبيق سائر الأركان الإسلامية الرئيسية. فإذا لم تتشكل الحكومة الإسلامية لن يمكن إقامة الصلاة والخمس والزكاة والصوم والحج على نطاق عام، ولن تتحقق فلسفة هذه العبادات. وعليه فليست الولاية مجرد حب ورغبة وتوسل، بل معناها القبول بمناهج الحكومة الإسلامية التي يقدمها الأئمة المعصومون أو الأنبياء الإلهيون عليهم السلام. لذلك نرى أنه طوال التاريخ كلما توفرت لنبي من الأنبياء الفرصة فإنه يقيم الحكومة. من قبيل أنبياء الله داوود، وسليمان، وموسى عليهم السلام، وكذلك رسول الإسلام صلى الله عليه وآله. وأما بعض الأنبياء العظام من قبيل إبراهيم وعيسى عليهما السلام فإنما لم يقوما بهذا الأمر لعدم توفر الفرصة أو الإمكانيات الضرورية بين أيديهم[8].
تطبيق الولاية متوقف على مشاركة الناس
كتب بعض الجهلاء: "الجميع يدرك هذه الحقيقة الملموسة القائلة بأن كل شخص يختاره أغلبية الناس للحكم، ويؤيدونه، يصبح حاكما؛ لأن الناس هم القوة الأساسية في المجتمع... إن الناس هم الذين يمنحون الولاية للشخص، ويمنحون حاكميتة التحقق" لكن هذه النظرية لا تنسجم مع الرؤية التوحيدية[9].
نحن نقول إن الرؤية التوحيدية توضح لنا الأمر على خلاف ذلك تماما حيث تقول: إن الله هو الذي يمنح الولاية للشخص، ويمنح حاكميته التحقق، وإذا كان للناس حقٌ في هذا المجال فإنما هو بإذن الله وأمره[10].
لذلك لا ينبغي إنكار الحقيقة القائلة بأن مشاركة الناس في شؤون الحكومة يمنح الحكّام القوة والقدرة، ولا يستطيع الحاكم فعل أي شيء بدون مشاركة الناس؛ كما قال أمير المؤمنين علي(عليه السلام) في الخطبة الشقشقية: "أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ- لَوْ لَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ وَمَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَلَا سَغَبِ مَظْلُومٍ لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا"[11]، وهذا التعبير يكشف بوضوح عن أن مساندة الناس تؤدي إلى إتمام الحجة حتى على الولي المنصوب من جانب الله سبحانه فضلا عن غيره[12].
ولا ريب أن ولاية الإمام علي كانت من الله وقد بلّغها نبي الإسلام صلى الله عليه وآله، ولقد كانت هذه الولاية تمتلك الفعلية، وذلك خلافا لما ذهب إليه بعض الجهلاء الذين يرون أنها مجرد ولاية شأنية وبالقوة، نعم هي من الجانب التنفيذي والعملي بحاجة إلى مساندة الناس؛ وبدون ذلك لا تصل إلى مرحلة الفعلية[13].
تحقق أصل الولاية الاستراتيجي في حديث الغدير
جدير بالذكر أن حديث الغدير المتواتر والجملة المعروفة عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله الواردة في كل الكتب وهي: «مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِىٌّ مَوْلاهُ» تكشف النقاب عن كثير من الحقائق في مجال معرفة ولاية الإمام علي عليه السلام[14].
رغم أن الكثير من مؤلفي أهل السنة يصرّون على تفسير كلمة "المولى" هنا بمنعى "المحب والناصر"؛ حيث أن أحد المعاني المعروفة لكلمة "المولى" هو ذلك، ونحن نقبل بأن أحد معاني "المولى" هو المحب والمعين، ولكن هنا قرائن عديدة توضح بأن المقصود من "المولى" في حديث الغدير هو "الولي" و"القيّم" و" القائد"؛ وهذه القرآن بنحو مختصر هي[15]:
1 . إن مسألة علاقة المحبة التي تربط الإمام علي عليه السلام مع جميع المسلمين ليس أمرا خفيا ومعقدا ليحتاج إلى كل هذا التأكيد والبيان، ولا يحتاج إلى إيقاف ذلك الموكب العظيم في وسط الصحراء القاحلة الملتهبة، وإلقاء تلك الخطبة الهامة، وأخذ الاعترافات المتتالية من ذلك الجمع[16].
والقرآن الكريم يعلن بصراحة قائلا: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ[17]. وفي موضع آخر يقول: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ[18].
وفي الختام ينبغي القول بأن الإخوَّة الإسلامية والمحبة بين المسلمين من أوضح بديهيات القضايا الإسلامية التي أسس لها الإسلام منذ بزوغ شمسه، والنبي صلى الله عليه وآله أعلن هذه القضية مرارا وتكرارا وأكد على ضرورتها، مضافا إلى أنه قضية الأخوّة ليست قضيةً يُبلّغ لها بهذه اللهجة والأسلوب القوي الذي أعلنته الآية، بحيث يشعر النبي صلى الله عليه وآله بالخطر من تبليغه وإعلانه للناس[19].
2. جملة "أ لَسْتُ أولى بِكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ!" التي وردت في كثير من نصوص هذا الحديث لا تنسجم أبدا مع بيان المحبة العادية، بل هو(صلى الله عليه وآله) يريد أن يقول: "نفس تلك الأولوية والسلطة التي لدي عليكم وأني وليكم وقائدكم، ثابتةٌ لعليّ عليه السلام أيضا" وكل تفسير لهذه الجملة مغاير لما تقدم، فإنما هو بعيد عن الإنصاف والرؤية الواقعية، خاصة بملاحظة قوله: "بِكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ"[20].
3. التهنئة والمباركة التي تقدّم بها الناس عقيب تلك الواقعة التاريخية إلى الإمام علي عليه السلام، وخاصة مباركة "عمر" و"أبي بكر"، تكشف عن أن المسألة لم تكن سوى التنصيب للخلافة بحيث تستحق تلك التهنئة والمباركة؛ لأن إعلان المحبة أمر ثابت لجميع المسلمين بشكل عام ولا يحتاج إلى تهنئة[21].
الاعتراف بولاية علي(عليه السلام) في واقعة الغدير في مصادر أهل السنة
ورد في "مُسند" الإمام "أحمد" أنه انتهاء النبي صلى الله عليه وآله من خطبته في يوم الغدير جاء إلى الإمام علي(عليه السلام): فَقَالَ هَنِيئًا يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ أَصْبَحْتَ وَأَمْسَيْتَ مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ[22].
وكذلك نقرأ عبارة الفخر الرازي في ذيل الآية «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» حيث ورد فيه "فلقيه عمر رضي عنه فقال هنيئاً لك يا ابن طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة"[23].
وفي تاريخ بغداد وردت الرواية المتقدمة بهذا الشكل: بخ بخ لك يا ابن أَبِي طَالِبٍ أَصْبَحْتَ مَوْلايَ وَمَوْلَى كُلِّ مُسْلِمٍ![24]
وفي "فيض القدير" و"الصواعق" ورد أن كلا من أبي بكر وعمر باركا لعلي عليه السلام قائلَين: «أَمْسَيْتَ يَا بْنَ أَبي طالِبٍ مَوْلا كُلِّ مُؤمِنٍ وَمُؤمِنَةٍ»[25].
ومن الواضح أن المحبة العادية بن المؤمنين لا تستدعي كل هذه التهنئات والمباركة، ولا تنسجم هذه الأمور إلا مع الولاية بمعنى الخلافة[26].
تأمل قرآني في ولاية الإمام علي عليه السلام في واقعة الغدير
يجب الإذعان بأن سورة المائدة تشتمل على جزء هام من آيات الولاية؛ حيث أن هذه السورة نزلت في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وآله. ومن جهة أخرى فإن مسألة الولاية والخلافة تطرح عادة في أواخر العمر، ولهذا فإن هذه السورة تشتمل على عدة آيات تتطرق لمسألة الولاية[27].
وعليه فإن الآية 55 من سورة المائدة: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ»، هي من جملة الآيات التي تدل بوضوح على ولاية أمير المؤمنين عليّ عليه السلام[28].
ولا شك أنه وخلافا لأكثر استعمالات كلمة "ولي" في القرآن الكريم فإن الإنصاف "الولي" في الآية 55 من سورة المائدة جاءت بمعنى القيّم والأولى بالتصرف؛ وليس بمعنى المحب والصديق والمعين[29] لأن:
أولا: ورود كلمة "إنّما" في صدر الآية دلالة على الحصر. يعني أن هؤلاء الثلاثة فقط هم أولياء المؤمنين، ولا ولي غيرهم؛ بينما إذا كان الولي بمعنى المحب فلا معنى للحصر؛ لأنه في هذه الحالة من الواضح وجود أشخاص يصدق عليهم المحب والناصر للمؤمنين غير هذه المجاميع الثلاث، مضافا إلى أنه إذا كان الولي بمعنى الناصر والمحب لا يحتاج الى هذه القيود اللاحقة لـ"الذين آمنو" بحيث يؤتون الزكاة في حالة أداء الصلاة؛ لأن جميع المؤمنين حتى في غير حالة الصلاة، بل حتى المؤمن الذي لا يلتزم بأداء الصلاة يمكنه أن يكون ناصرا ومحبا لأخيه المسلم؛ وعليه فمن كلمة "إنّما" الدالة على الحصر، والقيود المتعددة الواردة بعد "الذين آمنوا" يستفاد أن الولاية ليست بمعنى المحبة والنصرة؛ بل بمعنى القيمومة واتخاذ القرار. فالله والرسول والمؤمنون(بالشروط الواردة في الآية) هم الولي ومن لهم حق اتخاذ القرار ولهم الولاية[30].
ثانيا: الآية 56 من سورة المائدة التي وردت بعد الآية التي بحثناها الآن تعتبر أفضل قرينة ودليل على ما ندّعيه؛ حيث قال سبحانه وتعالى فيها: «وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ»[31].
فالحزب معناه الجماعة المؤلفة، وفوز وانتصار الحزب بمعنى انتصارهم في حركة ونهضة اجتماعية؛ وعليه يستفاد من هذه الآية الشريفة التي ترتبط بالآية السابقة والتي نزلت بحسب الظاهر معها، أن الولاية المطروحة في الآية المذكورة إنما هي ولاية سياسية وحكومية[32].
وعلى هذا فإن معنى الآية هو: "إن الذين يقبلون حكومة الله والنبي والذين آمنوا .... فهم الحزب الفائر والجمع المنتصر".
والنتيجة هي أنه مع التفكير والتأمل في مفردات وجُمل آية الولاية، وبقطع النظر عن الروايات الكثيرة الواردة في تفسيرها، يتضح بأن الولي فيها بمعنى الإمام والقائد والقيّم، وكل من يرضى بحكومة الله ورسوله و"الذين آمنوا" بالشروط الواردة في الآية، فهم فائز ومنتصر[33].
ثالثا: في بيان مصداق «الَّذِينَ آمَنُوا ... راكِعُونَ»[34]، ينبغي أن يُقال بأنه لم يذكر الرواة، والمفسرون، والعلماء الشيعة والسنة أي مصداق لهذه الآية الشريفة سوى الإمام علي عليه السلام. وعليه هنا اتفاق وإجماع لدى علماء المسلمين كافة على أن لا مصداق للآية الشريفة غير علي(عليه السلام). ومن جهة أخرى يوجد مصداق واحد على الأقل لجملة "والذين آمنوا ..." فإن هذا الشخص حتما هو علي بن أبي طالب علي السلام[35].
وعليه فكما أن أمير المؤمنين علي عليه السلام كان ولي الله قبل بيعة الناس بدلالة صريح آية الولاية التي منحت هذه الولاية لعليّ: «إنَّما وَليُّكُمْ اللَّهُ ورَسُولُهُ والَّذينَ آمَنُوا الَّذينَ يُقيمونَ الصَّلوةَ وَيُؤْتونَ الزَّكاة وهُمْ راكِعُونَ»[36]، فإن حديث الغدير ومقطع «مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَهذا عَلِىُّ مَوْلاهُ» فإن النبي صلى الله عليه وآله قد أعلن رسميا في غدير خم تنصيبه في هذه المنصب من قبل الله سبحانه وتعالى[37].
إكمال الدين في ظل ولاية عليّ(عليه السلام) في واقعة غدير خم
واقعة غدير خم ومسألة الولاية وخلافة أمير المؤمنين عليه السلام هي أفضل تفسير لأية:(الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً...[38])، بل هي التفسير الصحيح الوحيد لهذه الآية الشريفة؛ حيث أ نه بعد هذه الواقعة أصاب المنافقون اليأس وتبدلت آمالهم إلى سراب[39].
وكذلك وردت روايات كثيرة في المصادر الإسلامية الشهيرة ومن طرق أهل السنة والشيعة المعروفة تبيّن بصراحة هذا الأمر وأن الآية الشريفة المتقدمة نزلت في يوم غدير خم وبعد إبلاغ النبي ولاية عليّ عليه السلام[40]، ومن تلك الروايات:
ما رواه العالم السني الشهير ابن جرير الطبري في كتاب الولاية عن زيد بن أرقم الصحابي المعروف بان هذه الآية نزلت في يوم غدير خم في عليّ عليه السلام[41].
2 . الحافظ أبي نعيم الأصفهاني في كتاب "ما نزل من القرآن في علي عليه السلام" يروي عن أبي سعيد الخدري(الصحابي المعروف) بأن النبي(صلى الله عليه وآله) نصب عليا(عليه السلام) وليا للناس، ولم يتفرق الناس حتى نزلت آية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ ...، وحينها قال النبي(صلى الله عليه وآله): اللَّه أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب برسالتي وبالولاية لعلى ع من بعدى، ثم قال من كنت مولاه فعلى مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله[42].
3 . وكذلك المرحوم العلامة شرف الدين في كتاب المراجعات يقول: نص على ذلك الإمام أبو جعفر الباقر وخلفه الإمام أبو عبد الله الصادق فيما صح عنهما عليهما السلام، وأخرج أهل السنة ستة أحاديث بأسانيدهم المرفوعة إلى رسول الله صلى الله(صلى الله عليه وآله) وآله وسلم، صريحة في هذا المعنى[43]، [44].
ماهيّة "اليوم" في آية إكمال الدين في تحقق الولاية
الأول: اليوم الذي أدى إلى يأس الكفّار.
الثاني: اليوم الذي تم فيه إكمال الدين.
الثالث: اليوم الذي أتم الله فيه نعمته على المسلمين.
الرابع: اليوم الذي رضي فيه الله بالإسلام دينا أبديا للبشرية[45].
ويمكن الاعتماد على قول المرحوم الطبرسي وهو من المفسرين الشيعة الأقوياء في هذه المسألة وهو أن المراد من ذلك اليوم هو المجيد الذي يأس فيه الكفار وأدى إلى تحقق رضا الله وتمت فيه نعمة الله وكمُل دينه، وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة في السنة العاشرة للهجرة، وهو يوم عيد الغدير السعيد؛ ذلك اليوم الذي نفذ فيه نبي الاسلام صلى الله عليه وآله أمر الله ونصب علي بن أبي طالب "عليهما السلام" في منصب الولاية، وأعلنه رسميا أمام جميع المسلمين خليفة له[46].
والنتيجة هي أن الروايات المذكورة والروايات الكثيرة التي لم نذكرها رعاية للاختصار يستفاد منها بوضوح أن آية إكمال الدين الشريفة نزلت في حادثة الغدير، وهي شاهد واضح على إمامة وولاية وخلافة أمير المؤمنين عليه السلام[47].
وكذلك ينبغي القول في آية التبليغ: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ»[48]، فهي تنطبق بوضوح على مسألة الخلافة وولاية أمير المؤمنين عليه السلام، ويجب أيضا الإشارة إلى أن المصادر الروائية والقرآنية الأخرى التي تُثبت ولاية أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام وهي كثيرة جدا بحيث لا يمكن التطرق إليها كلها في هذه الرسالة المختصرة. ويحتاج بيانها بنحو مفصّل إلى كتاب مستقل.
كلمة أخيرة
ومع وجود هذه التفاسير يجب القول بأنه قطعا المراد من الولاية هي الزعامة والإمامة وليس المحبة، ومن هنا نأمل أن تكون ولاية علي عليه السلام حلقة وصل بين جميع المسلمين في العالم، وأنه يمكننا في ظل ولايته محاربة أعداء الإسلام وقطع أيديهم عن بلاد المسلمين[49].
ويجب كذلك الاعتراف بأن عيد الغدير الذي هو عيد الولاية وتنصيب أمير المؤمنين عليه السلام لخلافة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله هو عيد الله الأكبر[50]. لذلك يجب على الناس الاهتمام بهذا العيد بشدة؛ لأن فيه بركات وثمرات وفوائد لا تحصى، وكلما زاد اهتمامنا بهذا العيد زادت البركات الإلهية النازلة علينا بفضله[51].
وعليه فإن مراسم الغدير يجب الاستمرار في إقامتها بقوة وعظمة، ويمكننا إهداء ثواب هذه المراسم إلى أرواح أعزائنا الراحلين وخاصة ضحايا حادثة منى، ويكون في هذا الأمر جمعا بين إكرام أرواح الراحلين وكذلك إحياء مراسم الغدير، وبناء على هذا لا يصح التساهل في إقامة مراسم الغدير لأن هذا يحقق رغبة الأعداء[52].
نأمل ببركة الغدير وصاحب الغدير أن يكف الله سبحانه وتعالى شر الأشرار عن جميع البلدان الإسلامية[53].
لا يوجد تعليق